***
نص الحلقة الحادية عشرة:
ثاني عشر: مسألة جهاد المنفرد
استدل البعض بقول الله تعالى: «فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ … » (النساء:84)، وبما فعله الصحابي أبو بصير – رضي الله عنه – بعد الحديبية على وجوب الجهاد على المسلم ولو كان وحده، وهذا الإطلاق غير صحيح، فليس في هذه الأدلة دليل على وجوب الجهاد على المسلم المنفرد.
أما الآية فإنها مدنية نزلت بعد الشروع في التمكين وحصول المسلمين على دار للهجرة والإيواء والنصرة بالمدينة، كما امتن الله عليهم بذلك في قوله تعالى: «وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» (الأنفال:26)، ولم يفرض الله عليهم الجهاد وهم (قليل مستضعفون) بمكة قبل الهجرة، ولو كان جهاد المنفرد واجبا لفرضه الله عليهم بمكة، ولما شرع الله للمستضعف العزلة والتخفي وكتمان الإيمان، ولأوجب الجهاد على كل من دخل في الإسلام من دون النظر إلى حاله من حيث التمكن والاستضعاف، وهذا كله يبين أن من استدل بهذه الآية على وجوب جهاد المنفرد لم يحسن الاستدلال، واستدل بآية وترك غيرها، ولم يعرف الواجب المناسب لكل واقع، ويؤكد ذلك أن النبي (ص) وبعد الهجرة وبعد تشريع الجهاد لم يخرج إلى قتال وحده، ومما يؤكد عدم وجوب جهاد المنفرد أن موسى وهارون – عليهما السلام – وهما نبيان لم يقاتلا وحدهما لما قعد بنو إسرائيل عن الجهاد الذي أوجبه الله عليهم، قال تعالى: «قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24) قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ(25) “(المائدة:25،24)، وذلك لأن مقصود الجهاد هو إظهار الدين، وقتال الرجل أو الرجلين – ولو كانا نبيين – لا يحقق هذا المقصد، ولهذا لم يفعله الأنبياء عليهم السـلام، فكـيف يفـعله آحاد المسلمين، وبهذا يعلم أن الأمر الوارد في قوله تعالى: «فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ». (النساء:84)، إنما هو للحض، وغاية ما يقال فيه أنه لبيان جواز ذلك لكنه ليس للوجوب، ولو كان قتال المنفرد واجبًا لأوجبه الله على المستضعفين، ولما شرع الله لهم جواز العزلة وكتمان الإيمان والتقية، ولما أمرهم بالعفو والصفح والصبر وقت الاستضعاف، ولما أجاز الصلح.جهاد المنفرد
إذا قلنا إن جهاد المنفرد جائز وليس واجبا فإن جوازه مقيد بشروط… منها:
• أن من له إمام أو أمير لا يجوز أن يفعل شيئا من ذلك إلا بإذنه لقوله تعالى «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ…» (النور:62). وفي الصحيح أن النبي (ص) قال: «من أطاع الأمير فقد أطاعني، ومن عصى الأمير فقد عصاني» متفق عليه، ولهذا قال الفقهاء (وأمر الجهاد موكول إلى الإمام) ذكره ابن قدامة الحنبلي رحمه الله في كتابه (المغني)، وقد يرى الإمام أو الأمير تكليف فرد وحده بمهمة فهذا جائز، كما روى البخاري رحمه الله (أن النبي (ص) بعث الزبير طليعة وحده)، وفي غزوة الأحزاب أمر النبي (ص) حذيفة بن اليمان أن يأتيه بخبر المشركين، فاندس بينهم لذلك رضي الله عنهم. أما أن يكون الرجل له أمير وقد بايعه بالإمارة، ثم يقوم بدون إذن أميره وبدون إعلامه بأعمال من جنس الجهاد تعود بتدمير الإمارة كلها وزوال الدولة على يد من استفزهم من أعداء الإسلام، فهذا الرجل يكون بذلك قد نكث بيعته مع أميره وخان وغدر وجلب الدمار على المسلمين وخالف أحكام الدين المستقرة القاضية بأن (أمر الجهاد موكول إلى الإمام)، وهذه كلها من كبائر الذنوب المهلكات، ينكث ويغدر ويهرب ثم يترك آلاف المسلمين الأبرياء يدفعون ثمن نكثه وغدرِهِ، ولو شئت أن اقول منهم فلان وفلان لقلت.
• أن يغلب على ظن المنفرد أن قتاله سيعود بنفع على الدين وأهله، لأن هذا هو مقصود الجهاد.«لا ضرر ولا ضرار»
• أن لا يعود قتال المنفرد بضرر على الدين وأهله، لقول النبي (ص): «لا ضرر ولا ضرار» وكل ما غلب ضرره وفساده على منفعته فهو حرام ولا يجوز للقاعدة (درء المفاسد مقدم على جلب المصالح) ولأن (الفساد علة التحريم) ولا يجوز للمسلم أن يقدم على أمر له فيه منفعة ولو كانت طلب الشهادة إذا كان سيعود بالضرر على غيره من المسلمين، وقد قال النبي (ص): «المؤمنون كرجل واحد» وفي رواية في الصحيح أيضا: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد» الحديث متفق عليه، فلا بد للمسلم من مراعاة أحوال بقية المسلمين، وإلا فليس هو من هذا الجسد الواحد أي ليس منهم. فليس من المسلمين من لا يبالي بما يجري على الإسلام وأهله ولا يهتم بهم. ومن هؤلاء من يضرب ثم يهرب ليختبئ ويترك أهل بيته وأتباعه وغيرهم من المسلمين يتحملون عواقب ضربته فيجري عليهم من التقتيل والسجن والتشريد والتجويع والانتقام بصوره على يد أعداء الإسلام ما تنوء الجبال بحمله، فليس هذا من الدين والجهاد في شيء ولا هو من شهامة الرجال، وقد كان أهل الجاهلية يستحيون من ذلك، فكان الفارس منهم يزُود عن أهله وعشيرته وإن قُتل، أما في زماننا هذا فتجد من يَفرّ عن أهله وأتباعه ويتركهم نهبا للقتل والسجن والتشريد ثم تجده لا يستحي ويتاجر بالقضية الفلسطينية التي هي بضاعة المفلسين أصحاب البطولات والزعامات الميكروفونية، فالأمر هو كما قال الشاعر:
لكل داءٍ دواءٌ يُستطب به … إلا الحماقة أعيت من يداويها
ومنهم من هرب وأرسل نساءه وأولاده إلى الملاذ الآمن ثم ترك إخوانه وغيرهم من المسلمين ونساءهم وعيالهم فريسة مكشوفة لبطش الأعداء وانتقامهم. ولو شئت أن أقول منهم فلان وفلان لقلت.الجهاد على عدوان غير جائز
• أن لا يشتمل جهاده على عدوان منهي عنه شرعا، كالعدوان على دماء وأموال من لا يجوز له التعرض لهم من المسلمين وغيرهم، كالمذكورين في كل البنود السابقة.
• أن لا يكون قتاله غدرا ولا ينقض بقتاله عهدا بينه وبين من يقاتلهم، لقول النبي (ص): «إنا لا يصلح في ديننا الغدر» متفق عليه من حديث الحديبية، وقد سبق ذلك.
وإذا نظرت في هذه الشروط تجدها كلها قد توافرت فيما قام به أبو بصير – رضي الله عنه – فلا إشكال في ذلك، فقد كانت له قاعدة آمنة مستقلة، ولم يكن تحت سلطان النبي (ص)، ولم يضر المسلمين بما فعل، ولم يعاهد أحدا فينقض عهدا أو يغدر بفعله، ومع ذلك فإن أبا بصير لم يكن وحده منفردا إلا في أول الأمر وإنما اجتمع إليه كل من هرب من مكة من المسلمين المستضعفين بعد الحديبية حتى كثر عددهم، ولم يحاربوا جيشا يفوقهم عددا وعدة بآلاف الأضعاف، وإنما كانوا يهاجمون بعض المحاربين من مشركي أهل مكة، ولم يكن لدى أهل مكة طيران يقصفونهم به كما هو ممكن اليوم، ولم يتسللوا لعمل عمليات قتالية داخل مكة وبمجرد أن سمح كفار مكة لأبي بصير ومن معه بالالتحاق بالمسلمين في المدينة (بخلاف ما اشترطوه في صلح الحديبية) ترك أبو بصير وأصحابه مناوشتهم لأنها لا تفيد في إظهار الدين وهو مقصود الجهاد، وقد تضرهم.تنبيهات
واحتج بعض من يرى جواز قتال المسلم المنفرد بأدلة بالإضافة إلى ما سبق منها قول الله تعالى «…كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ …» (البقرة:249)، وقوله تعالى: «وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ…» (الأنفال:60)، ونحو ذلك من الأدلة التي قد يفهم منها البعض جواز تصدي مسلم يحمل سكينا لرتل من دبابات العدو أو لجيش عرمرم، وهذا فهم غير سديد.
وهنا عدة تنبيهات على هذه الأدلة وعلى هذا الفهم:
• منها أن الأحكام الشرعية لا تؤخذ من آية واحدة أو حديث بدون جمعها مع ما يقيدها أو يخصصها من بقية الأدلة الواردة في نفس المسألة والتي قد تخفي على العامة، ولهذا أوجب الله سؤال أهل العلم بقوله تعالى:»… فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ»(النحل:43)، وبين النبي (ص) أن فتوى الجهال هي سبيل الضلالة في قوله: «اتخذ الناس رؤوسا جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا» الحديث متفق عليه، فلا يجوز النظر في دليل وترك غيره في موضوعه، فمن أفتى بأن عدة المطلقة ثلاثة قروء معتمدًا على قوله تعالى «وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ …»(البقرة:228)، بدون أن يستفصل من السائل عن حال المطلقة فقد أساء وضل وأضل وإن كان قد أجاب بآية من كتاب الله لأنها ليست عامة في جميع المطلقات، وكان الواجب عليه أن يستفصل لأن هناك أصنافا من المطلقات لعدتهن أحكام في نصوص أخرى، فالمطلقة غير المدخول بها لا عدة عليها البتة لآية سورة الأحزاب رقم 49، والصغيرة والآيسة عدتهن ثلاثة أشهر والحامل تنتهي عدتها بوضع الحمل لآية سورة الطلاق رقم 4 ولحديث سبيعة رضي الله عنها، والمسلمة المهاجرة إذا تركت زوجًا كافرًا بدار الكفر عدتها حيضة واحدة لحديث ابن عباس رضي الله عنهما، والزوجة الأمة عدتها حيضتان للحديث، والأمة الرقيق تستبرأ بحيضة واحدة للحديث، فلا يجوز النظر في دليل وترك غيره في موضوعه، ويدخل في هذا الاستدلال الخاطئ بما سبق على جهاد المنفرد.التكافؤ
• ومنها أن هناك حدا أدنى مطلوبا من التكافؤ في العدد والعدة بين المسلمين وأعدائهم، إذا اختل هذا الحد لم يجب على المسلمين الثبات في الحرب، وهي الآيات بآخر سورة الأنفال، وفيها قال ابن عباس رضي الله عنهما: (من فر من اثنين فقد فر، ومن فر من ثلاثة فما فر) ولم يحصر كثير من العلماء التكافؤ في العدد فقط، وإنما عداه إلى العدة لعموم العلة وهي أن علة التخفيف هي الضعف «الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً …» (الأنفال:66)، ولو لم يكن التكافؤ في القوة معتبرا كشرط للثبات في الجهاد لما قال الله تعالى: «الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ…»، وذلك لأن الله سبحانه قد رتب أمور الدنيا على نظام الأخذ بالأسباب لا على خوارق العادات والمعجزات والتي قد تحدث، لكنها ليست هي الأصل والعادة وإن كان زمن المعجزات قد انقضى، وإنما الأصل الأخذ بالأسباب لتحقيق نتائج معينة، وذلك حتى يثق الناس في أعمالهم لعمران الدنيا والآخرة، فمن جد وجد ومن زرع حصد. وقد نبه ابن القيم رحمه الله على ذلك وكيف أخذ النبي (ص) بالأسباب في كل شأنه في هجرته وفي غزواته وكيف ظاهر بين درعين في غزوة أحد وغير ذلك وهو مؤيد بالوحي. فليس من الأخذ بالأسباب ولا من التكافؤ تصدي مجموعة من المجاهدين لجيش من الأعداء.أحكام فقهية
• ومنها أن قرار الحرب والجهاد لا يعتمد على الأحكام الفقهية وحدها وإنما مع الخبرة العسكرية، وبهذا أفتى أحمد بن حنبل رضي الله عنه بأن الغزو مع الأمير الفاجر القوي أفضل من الغزو مع الأمير الضعيف التقي، والقوة والضعف هنا هما بالنظر إلى خبرته بالحروب، وقال أحمد: (إنما فجوره على نفسه وقوته للمسلمين) وذلك لأن مقصود الجهاد إظهار الدين، نقل هذا كله شيخ الإسلام رحمه الله. واعتبار الخبرة الحربية هو ما جعل النبي (ص) يُؤمّر أهل الخبرة مثل عمرو بن العاص وخالد بن الوليد على من هم خير منهم في الديانة والسبق إلى الإسلام من أكابر الصحابة رضي الله عنهم لما في ذلك من منفعة للمسلمين، وقد فصلت ذلك في كتابي (العمدة في إعداد العدة) 1988م.
• والنظر إلى التكافؤ (في العدد والعدة بين المسلمين وبين عدوهم) مع الخبرة العسكرية هو ما جعل خالد بن الوليد رضي الله عنه لم يتأثم من الانحياز (الانسحاب) بجيش المسلمين في غزوة مؤتة بعد مقتل الأمراء الثلاثة الذين نصبهم النبي (ص) على الجيش في هذه الغزوة، التي كان يواجه فيها ثلاثة آلاف من المسلمين مئتي ألف من الروم، أي بنسبة (ثلاثة إلى مئتين) وقد سمى النبي (ص) صنيع خالد في هذه الغزوة فتحا، إذ أنقذ جيش المسلمين من المهلكة، وقد نزلت آية: «وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ…» (الأنفال:60) قبل غزوة مؤتة ولم يفهم خالد منها ما فهمه بعض المعاصرين.
• ومنها أن الجهاد لو كان واجبا بدون اعتبار التكافؤ في القوة عددا وعدة، وأنه يكفي إعداد ما يستطاع من أي قوة، لو كان هذا الفهم صحيحا لأوجب الله الجهاد على المسلمين وهم مستضعفون بمكة قبل الهجرة وفساد اللازم يدل على فساد الملزوم.
وقد سبق التنبيه على أنه لا يعقل أن يلتزم شاب بدينه اليوم ثم في سنوات معدودة يصير مفتيا وجنرالا في وقت واحد، ورحم الله امرءًا عرف قدر نفسه (ولا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه ويتعرض من البلاء لما لا يطيق) ولا يجوز التضحية بالمسلم فيما لا يفيد ولا ينفع ولا يجوز التكليف بما لا يطاق باتفاق أهل العلم، ومن لم يكن لديه علم بالشرع يرشده فليكن له عقل يعقله ويحجره.يأمرون غيرهم بما لم يفعلوه
وليعلم المسلم أنه في زماننا هذا قد انسحب قوم وهربوا من أمام العدو بسبب عدم التكافؤ في القوة، حتى فرّوا عن نسائهم وعيالهم وتركوهم فريسة لقصف العدو، وهم في الوقت نفسه يحرضون غيرهم من المسلمين – ممن لا حيلة لهم ولا استطاعة – على التصدي والصمود للأعداء على الرغم من تيقنهم من عدم التكافؤ في القوة، فيأمرون غيرهم بما لم يفعلوه، وقد ذمّ الله فاعل ذلك في قوله تعالى: «أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ»(البقرة:44)، وفي قوله تعالى: «كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ» (الصف:3). وليس هذا فحسب بل تجدهم في نفس الوقت الذي يسعون فيه إلى التفاوض مع الأعداء يدفعون غيرهم إلى الصدام مع العدو ويضحون بهم ليستخدموهم كورقة سياسية عند التفاوض مع العدو. وهناك من يريد مسالمة عدوه ولكن بعيدا عن وسائل الإعلام حتى لا تضيع وجاهته عند المعجبين به.
فلا تنخدعوا يا معشر الشباب بأبطال الإنترنت وزعماء الميكروفونات وتجار الشعارات الذين هم من كبار المورّدين للقبور والسجون، ولو شئت أن أقول منهم فلان وفلان لقلت. وتعلموا دينكم يا معشر الشباب حتى لا تغتروا بهؤلاء وحتى لا تكونوا ضحايا لشعاراتهم وجعجعتهم.
بقيت كلمة أخيرة في هذه المسألة (جهاد المنفرد): وهي أنه قبل الإقدام على عمل يجب النظر في آثاره وعواقبه، فإن النظر في مآلات الأفعال معتبر شرعا، فما أدى إلى فاسد فهو فاسد، والفساد ممنوع، فما يؤدي إليه ممنوع حتى ولو كان القصد حسنا والنية صالحة، هذا ما ذكره الشاطبي رحمه الله في (الموافقات ج2،ج4)، وكل من عمل عملا أضر بغيره من المعصومين يجب عليه أن يعوضه، ولو فعل ما فعله وهو مضطر أو مكره، عملاً بقاعدة (الاضطرار لا يبطل حق الغير) ذكرها عز الدين بن عبد السلام في (قواعد الأحكام) والقرافي في (الفروق) والسيوطي في (الأشباه والنظائر) وابن رجب الحنبلي في (القواعد)، فمن سبب عمله ضررا لمعصوم في نفسه أو ماله يجب عليه تعويضه بديات النفوس والأعضاء والمنافع فما دون ذلك من الأروش والحكومات بقدر الضرر، ومن أتلف أملاك غيره عليه أن يعوضه بالمثل في المثلى أو بالقيمة في المتقوم، فإن لم يفعل في الدنيا بقيت عليه التبعة والمؤاخذة يوم القيامة لقول النبي (ص): «لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة» رواه مسلم، ولحديث المفلس الذي رواه مسلم أيضا، ولكن أداء الحقوق يوم القيامة سيكون بتبادل الحسنات والسيئات. وقد دفع النبي (ص) دية الرجل الذي أخطأ أسامة بن زيد في قتله، كما دفع (ص) ديات بني جذيمة الذين أخطأ خالد بن الوليد في قتلهم، وفيها قال النبي (ص): «اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد» رواه البخاري رضي الله عنه، فالخطأ والتأول لا يسقط حق الغير، وحتى الذين أجازوا قتل الترس المسلم لضرورة قطعية كلية – كما سبق – لم يتفقوا على إهدار دمه بل منهم من قال بضمان ديته. ودية النفس للرجل المسلم الحر (ولو طفل أو شيخ خرف) هي أربعة وربع كيلو غرام ذهب خالص (عيار 24) أو ثمنها بسعر يومه (الدية الشرعية ألف دينار ذهب، ووزن الدينار أربعة غرامات وربع غرام)، ودية المرأة المسلمة الحرة نصف ذلك (صح الحديث في ذلك، وهو إجماع).دفع الديات
ولا يعترض على وجوب الضمان بأنه لا يجب دفع ديات من قتل من المسلمين في القتال المشروع، مستدلاً بالمحاورة التي دارت بين أبي بكر وعمر – رضي الله عنهما – في شأن وفد البزاخة، أو مستدلاً باتفاق الصحابة على عدم ضمان ما استهلك في نائرة الحرب في قتال البغاة، كما ذكره أصحاب كتب (الأحكام السلطانية) الماوردي وأبو يعلي، رحمهما الله. فالاستدلال بذلك في غير موضعه لاختلاف المناط، فإن عدم الضمان يكون حين يقع القتال من الطرفين، أما حين يقع القتل والقتال من طرف واحد فيقدم مسلم على قتل وتفجير يسقط فيه قتلى مسلمون من المدنيين غير المقاتلين على حين غرة، ولم ينذروا ليفروا، وحين يؤدي ذلك إلى الإضرار بالآخرين وتخريب الممتلكات فكل هذا يجب فيه الضمان، إذ لا قتال من الطرفين كما كانت الحال مع وفد البزاخة أو في قتال البغاة.
وأما كون القتلى (يبعثون على نياتهم) متفق عليه، فهذا حق ولكنه في أحكام الآخرة وهو لا يسقط حقهم أو حق أوليائهم في الضمان في أحكام الدنيا.
وإذا كان النبي (ص) قد ضمن ديات قتلى الكفار الذين أعلنوا إسلامهم وكفوا عن القتال حال الحرب (كمن قتلهم خالد وأسامة رضي الله عنهما) فكيف بمن لم ينتصب للقتال أصلاً ولم يعلم به من المسلمين ومن مجهولي الحال الذين يجب تبين حالهم كما سبق، فلا شك في وجوب الضمان في هذه الحالات، ويكفيك حديث (المفلس). ولا يدخل أحد الجنة وعليه تبعات لأحد كما في حديث (القنطرة)… وقد سبق القول أن الصحابي خبيبا رضي الله عنه لم يرد أن يختم حياته بقتل صبي لا يحل له قتله، لأنه (إنما الأعمال بالخواتيم)، فكيف بمن يلقي الله تعالى بأضعاف ذلك من الدماء والأموال المحرمة يحملها على ظهره يوم القيامة كما قال تعالى:«… وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ» (الأنعام:31)؟.. وقُتل رجل في الغزو مع النبي (ص) فقال الصحابة (فلان شهيد) فقال (ص): «كلا، إنه في النار في عباءة غلها» رواه مسلم.. فهذا دخل النار في ثوب سرقه من الغنائم قبل تقسيمها، فكيف بالدماء والأموال المحرمة بالجملة؟ لقد ضعف إحساس الناس بالذنوب كما قال أنس رضي الله عنه: (إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر، كنا نعدها على عهد رسول الله (ص) من الموبقات) رواه البخاري. وهذا بسبب الجهل والغفلة وقسوة القلوب.