قبل خمس سنوات تقريباً نظمت قبيلة بني خالد بالمنطقة الشرقية تجمعاً عائلياً حشدت فيه أتباعها، وكان أن لحقتها قبيلة تميم بعد ذلك بعامين. المفارق في ذلك الحدثين أنهما حصلا لقبيلتين حضريتين، يتوزع أفرادهما على مناطق جغرافية متفرقة تصل الى امتدادات مطردة من قزوين الى المغرب العربي، كما تتنوع فيهما السلالات من حيث اللهجات والعادات بل واللغات والجنسيات، فكان لا معنى حقيقةً من لمّ “أبناء العمومة” تحت لواء “شيخ شمل”.
عودة نمط الائتلاف والتحالف في تأسيس نظام القبيلة، أكثر من قيامها على القرابة التي لم يكن ثمة مانع من تلمسها لاضفاء سمعة طبيعية للتحالف القائم، في تماهٍ تام مع مقولة ابن خلدون من أن “النسب وهمي كله”، يعيد الى الأذهان الحالة الكويتية، التي شهدت نموا غير عادي منذ السبعينات للعصبيات القبلية والمذهبية، وأُبرزت فيها الكتل البدوية كقوة اجتماعية وسياسية ذات تأثير متزايد على متخذي القرار، وذات قدرة على نسج تحالفات سياسية في أوقات الأزمات أو في أوقات الانتخابات البرلمانية (انظر عبدالله عبدالرحمن – التوطين في المجتمعات الصحراوية).
وفي كتاب (حكاية الحداثة بالسعودية) المنشور عام 2004 تنبه الناقد عبدالله الغذامي، الى عودة النسق العصبي بين أفراد أجيال ما بعد الطفرة، وانجذاب كثير من سلالات العوائل الحضرية نحو صيانة مشجرات النسب وهوسها الى الحاق عوائلها بأصول قبلية، تزامن ذلك كله مع صعود لخطاب حامل ومكرّس لقيم التجزؤ والانقسام على كافة المستويات الفئوية والمناطقية والمذهبية.
وفي خلال تصويري لبرنامج (حلوة يا بلدي) بالصيف الماضي، وتنقلي بين مدن المملكة وقراها، لاحظت رغبات النخب قي ابراز موروث كل منطقة وتمايزها، واتكاء الجميع على هوية أو خصوصية منفردة. وكان أغلب من صوّرت معهم، يركز على حضور ملمح الملبس أو الزي الخاص بمنطقته أثناء التصوير .. وهكذا فان مهرجانات مزايين ابل القبائل ليست كل الحكاية.
ان مشاعر الردة الى الذات، ومظاهر عودة المكبوت، التي باتت تأخذ شكلاً واسعاً ومفصلاً وكاسحاً، كان من البديهي أن تسلتزم في أحد تجليّاتها انبعاث المحددات والبنى التقليدية واستدعائها. ان ما نشهد صعوده مؤخراً، انما هو تعبير مزدوج؛ عن أزمة هوية كامنة، انمزج بموقف طبقي/اجتماعي مبطن، مقاوِم لعلاقات وأنصبة توزيع القوة والسلطة التي تضطلع بها القوى البرجوازية في الدولة، في نزعتها الدائمة الى لمّ المناطق والتكتلات والفئات المختلفة بين برديها.
ثمة عوامل مفصلة تتضافر في تبلور الظاهرة وتساهم في صعودها؛ من انتقائية عمليات التحديث وعدم تناسب أثر التحولات، كما سطحية الاصلاحات التي لم تتناول جوهر الصراع (الاجتماعي والطبقي) فلم تقننه أو تؤنسنه بعد.
ان عمليات التحديث التي مسّت المجتمعات المحلية كانت مقتصرة على التحولات في الأنساق الاقتصادية/الانتاجية، والحداثية/التقنية/الفنية فيها، فيما لم تطال الجوهري؛ اذ أنها لم تضرب الأنساق القيمية والثقافية بأي نوع من التغيير الراسخ، ولا مسّت بنية المجتمع، أو تركيبة القيم الأبوية الحاكمة لمؤسسات القبيلة أو العائلة، ولا راجعت محددات شبكة العلاقات الاجتماعية.
وكما افقدت انتقائية التحديث المجتمعات أسباب الوصل لمنظومة الحداثة، وأحالتها الى مجتمعات انتقالية تتشابك فيها مظاهر الحداثة في بعض أشكالها التقنية وأنماطها العمرانية والمعيشية، مع البنية التقليدية القائمة، فانها أيضاً، حطمت –كحمولة سالبة – الكثير من الأطر الاجتماعية والهياكل الانتاجية، التي فقدت من خلالها بعض أو كل خصوصيتها الثقافية والاجتماعية والاقتصادية السابقة، ما أفضى الى بروز أزمة هوية بامتياز.
التأزم على مستوى الهوية والأصالة رشح بروز التجاذب بين الحداثة والتقليدية على مستوى الخطاب، فكانت بداهة العودة الى الأصول والجذور؛ اما في شكل حركات الاحياء الديني أو “الصحوة” ، أو في انبعاث روح العصبية والمحددات القديمة ذات النسق المنغلق.
وفي سياق التحولات الشائهة، تبلورت عديد من الاتجاهات الماضوية. فتنامى خطاب الحنين على كافة المستويات، اما في شذرات التعبيرعن مشاعر الاغتراب والاحباط والحيرة، أو في لحظات العودة الى الذات رغبة اشعال جذوة الكرامة المفقودة. وفي قصيدة (يا شاعر الأغصان غُصنك مُورق) التي ينعي فيها الشاعر محمد عبدالقادر فقيه الذاكرة الحضارية لمكة، التي طمستها الهدميات بشكل غير مقنن، يفصح في قصيدته التي مطلعها، “كيف الرجوع لأرض مكة” بعد زوال حاراتها العتيقة، عن عذابات الذات ومواجعها ازاء تحديث مادي سطحي متعجّل، “فمدارج الأحباب قد عصفت بها/ أيدي المعاول تارة ودرَكتر/يا شاعر الاغصان حسبك سلوة/أن لم يعد غصنٌ بمكة يزهر/ماذا أقول وفي فؤادي غصة/ومواجع ومدامع تتحدر”. تماماً كما ستتكرر مشاعر الحنين عند سكان المدن النجدية في محاولات قطاعات عريضة منها الى ايقاف الزمن للابقاء على فردوسية المجاورات في المدن القديمة مثلما دللت ثريا التركي في معالجتها لسوسيولوجية مدينة عنيزة، أو أن تغدو يوتوبيا مجتمعات الغوص القديمة أمثلَة للنزاهة وللعدالة لازمة الاحتذاء، كما في حالة مجتمعات الساحل الشرقي.
أما في منجز عبد العزيز مشري الروائي، الذي سيستحيل – فيما بعد- أيقونة لمرثية القرية الجنوبية في اختلال بنيتها الاجتماعية والاقتصادية، سنجد ادانة صريحة للتحولات الانتقائية والسريعة، وما أحدثته من خلخلة نفسية واجتماعية في قيم المجتمع التعاوني/التكافلي، التي كان يقوم عليها مجتمع قريته سراة عبيد كأنموذج. مثلما استدعى الشاعر علي الدميني، في قصيدة (الخبَت) – التي كانت لها ظروفها المرحلية – الماضي الجميل، ولاذ في أزمته بالمحددات والمفردات التقليدية: “أين مرابض العربان ؟/ أين مباهج الصحراء والفتيان/ والرمل الذي أفردت/ يا وجع العشيرة؟”. وكما أعلن الشاعر محمد الثبيتي في (صفحة من أوراق بدوي) حين أكد على هويته وأصلانيته البدوية، مقابل واقع مديني ملتبس وضبابي، “هذا بعيري على الابواب منتصب/ لم تعش عينيه أضواء المطارات/ وتلك في هاجس الصحراء أغنيتي/ تهدهد العشق في مرعى شويهاتي/ أنا حصان عصّي لا يطّوعه/ بوح العناقيد أو عطر الهنيهات/ يا انتِ لو تسكبين البدر في كبدي/ او تشعلين دماء البحر في ذاتي/ فلن تزيلي بقايا الرمل عن كتف/ ولا عبير الخزامى عن عباءاتي”.
وفي دراسته الرائدة (البدوي الأخير)، يورد الباحث الهولندي مارسيل كوربرشوك، نظرة أحد الباحثين المتحدرين من قبيلة الدواسر في تأثير التحديث على قبيلته، اذ “بعدما بقي الوادي مغلقاً بإحكام على امتداد قرون بقرار من سكانه، اجتاحه فجأة سيل من الغرباء. ولكن لم يعن هذا أن العداء للعالم الخارجي سيخلي الطريق لنظرة أوسع أفقاً. بل على العكس، لقد فتحت مشاهد الشوارع الشبيهة بعمران بابل بقية الروح العصبية حية بعناد وشراسة”.
أن عملية التحديث، وان كانت قد قاربت جوانب أساسية، الا أنها قد لامست السطح في جوانب أخرى. فعلى الرغم من التغيرات البارزة في جوانب الحياة المادية، إلا أن منظومة العلاقات الاجتماعية الجوهرية، المحددة بالنسق القيمي السائد، لازالت فاعلة في مجتمع ما بعد التغيير، كما يذهب الدكتور باقر النجار في دراسته عن سوسيولوجيا المجتمع في الخليج العربي.
ان التكنولوجيا التي اقحمت في السياقات المحلية، هي في الأساس نتاج لسياق اجتماعي – اقتصادي ينتمي الى المجتمعات الصناعية وما بعد الصناعية، ولا يمكن اقحامها هكذا فجأة في مجتمعات رعوية أو ذات اقتصاد ريعي قبل رأسمالي، أو انتقالي في تحوله نحو نمط الانتاج الرأسمالي، دون اصلاح بنيوي متزامن.
وكما لأثر التحولات الانتقائية في بروز موقف النكوص الاجتماعي، فانها أيضاً فاقمت من الأوضاع السياسية والاقتصادية. اذ أنها وبحسب الباحث السيد ولد أباه، أدت الى انهيار العقد الضمني بين الدولة العربية والمجتمع، الذي كان “الضحية الأولى لإفلاس النموذج الرعوي، نتيجة لغياب تقاليد رأسمالية محلية، وانعدام بورجوازية وطنية تقود عجلة التنمية والتحديث، كما كان الشأن في التجربة الغربية في مطلع العصور الحديثة” (عوائق التحول الديموقراطي، ص98).
سطحية الاصلاحات تلك، أو بطء انجازها، أعادت انتاج الروح العصبية والهوية الانقسامية على قاعدة المصالح السياسية والإقتصادية. ومع تأخر اصلاح بنية الاقتصاد كي لايقتصر على الريع والنشاط الاقتصادي الطفيلي ، وفي ظل غياب ظاهرة المجتمع المدني، وازاء تأجيل تقنين الصراع الطبقي والاجتماعي، يجري واقعاً استثمار شبكة العلاقات القبلية والعائلية وحتى المناطقية والمذهبية لمجابهة المشاكل المتفاقمة وللتلاحم وقت الأزمات.
ولكن هل الحل يضم في توصياته، الغاء القبيلة ومهرجاناتها، وقمع الهويات الفرعية، أو اعادة كبت المكبوت الطافي على السطح مؤخراً؟ هذا غير صحيح، وهو قلب للنتيجة كأثر، وهو عموماً موضوع الحلقة الثانية من المقال.
mahmoud_sabbagh@hotmail.com
* كاتب سعودي
عودة المكبوت ( 1 من 2 ): لماذا عادت ناقة القبيلة؟
ما يدهش في المقال هو أنّ الكاتب كما يبدو من صورته شاب في مقتبل العمر عليه الوسامة والهدوء.. بينما محتوى المقال يعبّر عن تجربة غنية وتمكّن من الكتابة بلغة حيّة دقيقة هادفة فأفقه أوسع من أفق مجتمعه وبأسلوب منسجم وعليه طابع الموسوعية: فمن استشهاد بالشعر الى أشارة لباحث هولندي ألى دراسة ميدانية للأحداث.
أظنّ أننا نقرأ لكاتب له مستقبل متميّز يزرع الأمل في نفوس من يهمة سأن المجتمع العربي.