هزني فيلم المخرجة اللبنانية نادين لبكي الأول “سكر بنات” بعنف، وذكرني بزمن السينما الجميل عندما كان هم صناعة فيلم سينمائي يقف خلفه إيمان بأن وظيفة الفن الأساسية هي المساهمة في تجميل الحياة وتطريزها، ورغبة في التعبير عن مشاعر تخاطب القلوب وليس الأعين فقط، وبأن السينما ليست مجرد تقنيات مبهرة أو صناعة مربحة أو مخاطبة للغرائز الدنيا أو ضحك على مشاهد داخل الصالة لتسلية نفسه وملء وقت فراغه. ففيلم “سكر بنات”، وقبل الحديث عن حدثه ودلالته وشخصياته، مشغول بالعواطف والمشاعر أكثر مما هو مشغول بالكاميرا، ومبني باعتباره حالة من الشعر الخالص أكثر مما هو مشاهد لسيناريو يصوّر حدثا ويقدم شخصيات، ومن الصعب لمخرج آخر غير نادين لبكي؛ (التي أدت الدور الأكثر رئيسية فيه وشاركت في كتابة السيناريو أيضا)، أن يقدمه بالصورة والإحساس اللذين ظهر بهما، ولو صور نصه أي مخرج آخر غير نادين لبكي لظهر بغير الصورة التي ظهر بها، سواء كان بمستوى أفضل أم أسوأ، لكنه سيكون مختلفا عن الصورة التي ظهر بها بكل تأكيد، ولذلك فـ”سكر بنات” هو فيلم خاص بنادين لبكي لا يحمل توقيعها كمخرجة فقط، وإنما يحمل مشاعرها وطموحها وهواجسها ونظرتها إلى الحياة أيضا.
في “سكر بنات” دخول إلى عوالم ثماني نساء، أربع منهن رئيسيات -وإن اختلفت درجات بطولتهن- يعملن في صالون تجميل نسائي في بيروت، بكل ما للمكان من دلالة في إضفاء صيغة تجميلية على الحياة فضلا عن طابعه النسائي الخالص، كبراهن ليال (التي تؤديها نادين لبكي بشاعرية وإحساس عالٍ) تعيش قصة حب غريبة مع رجل متزوج لا يظهر في الفيلم نهائيا يلتقيها في أوقات فراغه، بينما تكرس هي حياتها لحبه وتترك عملها للقائه، إلى الحد الذي تغامر بسمعتها في استئجار غرفة في فندق للعاهرات للاحتفال معه، والثانية نسرين (تجسدها ياسمين المصري بروح مرحة رغم الظروف السيئة) ابنة عائلة محافظة مخطوبة لشاب من عائلة محافظة أخرى، وتبدو محافظة كلتا العائلتين ظاهرية، فالخطيب يطلب من خطيبته إقفال أزرار قميصها وربط شعرها عند زيارتها لعائلته فقط، لكنه يمد يده ليتحسس ساقها سرا ومن تحت الطاولة خلال جلوسها حول طاولة الغداء، وربما يكون مشهد رفع الطفل الجالس تحت نفس الطاولة لتنورتها والنظر إلى ساقيها المثال الأكثر وضوحا ودلالة على حالة المحافظة الظاهرية التي تخفي نوعا من أنواع الحياة الجنسية المسكوت عنها في تلك البيئات، وهو ما يظهر أيضا لدى عائلة الفتاة نفسها من خلال أنواع الملابس الداخلية التي تختارها العائلة للفتاة استعدادا لزواجها، وهذا التمظهر المحافظ يصور في حده الأقصى عبر ترقيع الفتاة غشاء بكارتها وتفكيرها في خطة ليلة الدخلة بكل تفاصيلها التقليدية.
أما المرأة الثالثة فهي جمال (تؤديها جيزيل عواد بجرأة) التي ترفض فكرة وصولها سن اليأس وتبتكر الأساليب لإيهام من حولها بذلك، وتقاوم الزمن بالبحث عن عمل يعتمد بشكل رئيسي على الشكل عبر العمل كممثلة في التلفزيون، لترد على إهمال زوجها الذي لا يظهر أبدا في الفيلم أيضا لها مع ولديها وانشغاله بنساء أخريات، أما المرأة الرابعة ريما (تجسدها جوانا مكرزل بدون تكلف) فيقدمها الفيلم باعتبارها مثلية ترفض الجنس الآخر بملابسها وتصرفاتها، وتعوض عنه بتحرشات مع إحدى مرتادات صالون التجميل التي تبادلها بصمت نفس مشاعرها، وعلى هامش تلك النساء الأربع يقدم الفيلم جارتين لهما الأولى روز الخياطة (تجسدها سهام حداد عبر مسحة من الحزن والأسى النبيل الذي لا يفارق ملامحها وحركتها) الباحثة عن الحب بصمت، ولإحساسها بالذنب والرهبنة تضيعه حتى عندما يأتي إليها متأخرا عبر صورة عجوز أجنبي، وشقيقتها ليلى (تؤديها عزيزة سمعان المدهشة في تلقائيتها وطرافتها) التي تقدم باعتبارها مبروكة تلم الأوراق من الشوارع، وتعامل هذه الأوراق باعتبارها رسائل حب إليها، وهي الشخصية الأكثر وضوحا وتعبيرا في الفيلم عن نسائه الباحثات عن الحب والحياة.
وعلى هامش هؤلاء النساء الستة تقدم نادين لبكي شخصيتين لامرأتين ضيفتين على صالون التجميل أولا لتقديم مزيد من مساحات الإضاءة في حياة شخصياته الأربعة، وثانيا باعتبار هاتين الشخصيتين تنويعات إضافية في حالة المرأة، فالأولى زوجة الرجل الذي تحبه ليال المستقرة في حياة زوجية والجاهلة بخداع زوجها لها، والثانية هي الزبونة التي تعطي الفرصة لريما بإظهار عواطفها المثلية، وتجد في ريما محرضا لتبديل حياتها ولو شكليا عبر تقصيرها شعرها، ومن خلال هؤلاء النساء الثماني ترسم مخرجة “سكر بنات” عالم المرأة التواقة إلى الانعتاق من سجنها الروحي، والتواصل مع الآخر/الرجل، والذي تقدمه نادين لبكي بعدائية واضحة، سواء بصورة رجل القانون الذي يمثله دركي المرور (يؤديه عادل كرم من دون التهريج الذي يسم عمله في البرامج التلفزيونية)، ومختلف رجال الشرطة الآخرين الذين يظهرون في الفيلم كريهين، أو بصورة خطيب نسرين المتهور الذي يهمه الشكل الظاهري فقط للأشياء، أو عامل أدوات التجميل الذي يوصل البضائع للصالون والباحث عن علاقة عابرة، أو من خلال غيابه الجسدي وحضوره كشخص على الطرف الآخر من سماعة هاتف فقط في صورة زوج جمال أو عشيق ليال، أو باعتباره كتلة عجوز محالة على التقاعد وتعاني من سوء الفهم بسبب اختلاف اللغة كما في حالة المسن الذي يحب روز الخياطة، وربما يكون والد خطيب نسرين الذي تتشاحن فوق رأسه النساء مسقطات في حجره من دون انتباه أو اهتمام لوجوده بقايا الطعام، ومن دون أن يبدي اعتراضا، المثال الأكثر تعبيرا عن رؤية نادين لبكي للرجل.
فيلم “سكر بنات” هو فيلم نساء وليس فيلما أسريا، فيه هجاء شديد للرجل عبر التلميح، رغم أنه الهاجس لدى جميع الشخصيات النسائية، وربما يكون مشهد وقوف ليال أمام حوض السمك في بيت الرجل الذي تحبه، ونظرتها إلى الأسماك بألوانها الجميلة التي تسبح داخل الحوض بحيادية ورتابة وعزلة وبلا هدف هو المشهد الذي يلخص ويختصر حالة نسائه وعزلتهن، ويعبر عن الفكرة الأكثر أهمية فيه، فيما يبدو أسلوب مخرجته في تصويرها حالة شخصياتها أقرب إلى طريقة استخدام السكر الحار الذي تزيل به النساء الشعر عن جسدهن، (والذي يستخدم كثيرا في مشاهد الفيلم وأخذ الفيلم اسمه منه)، فهو قاس ومؤلم أثناء استخدامه، لكن نتائجه تضفي مزيدا من الجمال على الجسد الذي استخدم لتنظيفه، بمعنى أن نادين لبكي وإن كانت تقدم شخصيات قاسية وغير سوية في الأعراف الاجتماعية وحسب الأحكام الأخلاقية المتعارف عليها، لكنها في الصورة العامة وفي النتيجة النهائية لا تخلق نفورا من هذه الشخصيات لدى المشاهد، فما يحدث هو العكس إذ يشعر المشاهد بتعاطف مع تلك الشخصيات ويحس بأزماتها ويقدر هواجسها ويعي مشكلاتها، كما لو أنها شخصيات حقيقية يعرفها ويحبها منذ زمن طويل.
أخيرا أستطيع أن أقول إن “سكر بنات” واحد من الأفلام التي ستبقى في ذاكرة السينما العربية طويلا، وستحجز مخرجته نادين لبكي القادمة إلى عالم السينما من دنيا الفيديو كليب من دون ادعاءات مكانا لها بين أبرز مخرجي السينما العرب.
hakambaba@hotmail.com
* كاتب سوري – دبي
(العربية)
سكر بنات”: نادين لبكي تصوّر شعر الحياة اليومية
اريد ان ادخل في عالم التمثيل مع المخرجة نادين لبكي