لا يستوي الحلاّج والحجاج, ولا التكفير والتفكير!
(قبل حوالي شهر كتبت موضوعاً فيه ردّ على اتهامات وجهها البعض ضد جبهة الخلاص وضد الإخوان المسلمين بالذات, واعتبروهم أنهم ورثة إبن تيمية, وحاولت تأكيد بطلان هذا الرأي من خلال متابعتي لسياسة الإخوان المسلمين في سوريا على امتداد السنوات الأخيرة ومن خلال احتكاكي الشخصي مع بعض المسؤولين منهم خاصة أيام مؤتمر جبهة الخلاص الوطني في برلين قبل حوالي شهر ونصف, ونشرت موضوعاً بعنوان “ضباب سوري في يوم مشمس” وظهر على أكثر من عشرين موقعاً!
بعد ذلك كتب أحد مسؤولي الإخوان موضوعاً يعرب فيه عن فخره واعتزازه بالإمام ابن تيمية, وكأنه في هذا أراد الإثبات لمتهمي الإخوان المسلمين ما يطرحونه عن سلفية وعودة لفكر وسياسة ابن تيمية.
وكما هو معروف أن شهرة ابن تيمية لم تكن بسبب صلاة التراويح التي كان يؤديها, بل بسبب فتاواه ضد بعض الطوائف الدينية الغير سنية”علوية واسماعيلية ودروز وغيرهم” أي فتاواه ضد المرتدين البدعيين الباطنيين…..
وقد تناول هذا الموضوع عدد غير قليل من المهتمين بهذا الشأن في دراسات ومقالات عديدة خلال الفترة القصيرة الماضية).
وأستشهد بدرس في الماركتينغ درسته قبل أكثر من عشر سنوات كمدخل لهذا الموضوع:
عند زيارة المدير العام للمؤسسة إلى أحد فروعها كان هناك حالة شبه استنفار من قبل كل العاملين, دخل غرفة وجد فيها شخص يجلس على كرسي غير مهتم بأحد, شارد في عينيه عبر النافذة الزجاجية, كان موجوداً فيزيائياً لكنه غائباً حسياً.
استغرب المدير العام من هذا الشخص, وسأل عن هذا الإنسان وعمله, وكان الرد: أن عمل هذا الفرد هو التفكير, بين الفترة والأخرى يقدم فكرة أو رأي يساعد في رفع الإنتاجية وبالتالي يقوي المؤسسة…
فما كان من المدير العام إلاّ أن قال “نظفوا له الزجاج جيداً”.
إن لم نستطيع مكافأة التفكير أو من يحاول التفكير فعلى الأقل أن لا نقوم بمحاربته,
نحن بحاجة إلى تنظيف الزجاج, ذلك الزجاج الذي راح ضحيته السهروردي عندما قال أيام حكم حلب السلطان إبن صلاح الدين الأيوبي آنذاك قال ـ أن النبي محمد(ص) آخر الأنبياء, لكن إذا أراد الله أن يرسل نبياً آخر لاستطاع!, فما كان من فقهاء “علماء” حلب إلاّ أن حكموا عليه بالهرطقة والزندقة والتريقة وعلقوه على حبل المشنقة!
قتل الفقهاء “العلماء” السهروردي “المتخلف” لأنه تجرأ على التفكير واستخدام العقل والمنطق, كما قتلوا الحلاّج وغيره لأنهم تخطوا درجة الحفظ والبصم والترتيل.
إن الكثير من المآسي سببها ويسببها “العلماء” كما “العقداء والعمداء والفرقاء والأمناء”
وفي تاريخنا الطويل عشرات ومئات الأمثلة التي لا تدعو للفخر, وهناك أيضاً عشرات ومئات الأمثلة التي تدعو للفخر بلا شك.
لا يدعو للفخر أن يفتي إمام كبير “بأن الاشتغال بالعلوم الطبيعية حرام” حتى لو كان اسمه الغزالي!
ولا يدعو للفخر مأساة أبو ذر الغفاري والحسن والحسين وجمل عائشة رضي الله عنها وعن جملها, لا تدعو للفخر سقيفة بني ساعدة ومساوماتها السياسية(السلطوية) آنذاك, لا يدعو للفخر أن غالبية الخلفاء الراشدين (رضي الله عنهم وعن غير الراشدين) قتلوا في إنقلابات دينية سياسية.
لا يدعو للفخر فتاوى تكفير المرتدين والبدعيين من الطوائف الباطنية(أو الظهرية أو العمود فقرية) حتى وإن كانت من قبل إمام يدعى إبن تيمية.
لا يدعو للفخر فتاوى تنكر الهبوط على القمر وتنكر كروية الأرض في هذا العصر حتى لو كانت من الشيخ إبن الباز.
لا يدعو للفخر ـ رغم أنه ممتع ـ إرضاع الكبير, أو أن يعيش الزوج عشرات السنين دون أن يرى وجه زوجته حتى لو كان هذا الزوج وهذه الزوجة من أكثر المؤمنين بالله ورسوله.
لا يدعو للفخر الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي في تأبين باسل الأسد(ابن حافظ الأسد) حيث قال على التلفزيون السوري “أنني أراه من هنا في الجنة جنباً إلى جنب مع الصديقين والأنبياء”.
لا يدعو للفخر تفجير “مؤمن” لنفسه بين مجموعة من الناس الآمنين والمؤمنين في مذهب آخر…
لا يدعو للفخر الدفاع عن أفكار وأشخاص استنفذها واستهلكها الزمن…
وبالمقابل هناك ما يدعو للفخر, أن يقول مفكّر “أن الله لا يمكن أن يعطينا عقولاً ويعطينا شرائع مخالفة لها”, حتى لو كان اسمه ابن رشد.
ما يدعو للفخر شجاعة أشخاص وقفوا ضد سياسة ظالمة حتى لو كانت ضد سياسة بعض الخلفاء الراشدين وحتى لو كان هؤلاء هم عمار بن ياسر أو أبو ذر الغفاري أو المقداد ابن الأسود أو سلمان الفارسي أو غيرهم…
ماذا نقدس بالخليفة الوليد بن يزيد بن عبد الملك وهو أمير المؤمنين حين مزّق القرآن وهو يقول
“إذا جئت ربك يوم حشر … فقل يا ربّ مزقني الوليد”, إنني لا أستبعد أبداً أنه لدى كل الطوائف الإسلامية وليدها وأولادها!
إن العالم المتحضّر والذي نهرب إليه أو نحلم بالوصول إليه ونقوم باستخدام كل إنجازاته العلمية والتي بناها على أساس التفكير ومكافأة التفكيرـ هذا العالم ـ استطاع بلوغ الحضارة والتقدم والرخاء بعد أن “أعطى لقيصر ما لقيصر”, وبعد أن فصل الدين عن الدولة, وحتى الذين يتحدثون باسم الدين ويشتغلون بالسياسة فهم معرضون لكل أنواع النقد والهجوم التي يتراشق فيها السياسيون ولا تعفيهم قدسية الدين وأفكاره, لأنه لا قدسية في العمل السياسي.
العالم المتحضر والذي نسعى للحاق بآخره لا يخيفه الاختلاف السياسي والإيديولوجي والديني والقومي, العالم المتحضر بنى حضارته على أساس منطق تفكير ابن رشد والسهروردي والحلاج والعشرات من أمثالهم هنا وهناك, العالم المتحضر بنى حضارته على أساس ترك ما صدأ من فكر إبن الباز وعشرات “الأبناء” من هنا وهناك.
الفرق بيننا وبينهم هو أنه في العالم المتحضر يستطيع أي فرد أن يوجّه النقد إلى أي شخصية تاريخية أو دينية كانت على أساس علمي ومنطقي وبدون الخوف من فتوى رجمه أو قتله!
شيخ الأزهر بارك زيارة السادات للقدس, وأعطى حججاً دينية من القرآن والسيرة, وشيوخ بلدان أخرى وقفوا بالضد من شيخ الأزهر, وهم أيضا سحبوا من جرابهم وثائق واستشهادات تؤكد موقفهم!
نفس المنطق المنافق الذي كان يردد أيام حرب السويس عام 1956 “بولغانين سيف الدين” وبولغانين كان مسؤولاً ويمثل السياسة السوفييتية الغير مسلمة.
شيخ الأزهر يطالب في عام 2007 ميلادية بجلد الصحفيين المعارضين لسياسة الحكومة, وعالم الدين الأول في سوريا يرى ابن الديكتاتور في الجنة بجوار ربه, شيخ يبارك التفجير والقتل والدم وآخر يدعو الله بإطالة عمر الحاكم(الله يقصف عمره ـ الله يطوّل عمره), مسكين هذا الإله الزئبقي الذي لا عمل له سوى التأقلم مع شيوخ البلاطات والسياسة قديماً وحديثاً!
أمامنا كمعارضة وطنية سورية خيارات عديدة للإطاحة بالنظام وإقامة البديل الديمقراطي, منها مثلاً الابتهالات والدعوات وتقديم النذور للأولياء الصالحين ـ وما أكثرهم ـ, ومنها تنظيف الزجاج والبدء بمحاولة التفكير خارج النصوص المعروفة والمحفوظة عن ظهر قلب, لأن الإبداع لا يكون دائماً بالتكرار والاجترار, بل بالمنطق العلمي والابتكار,
ومن خياراتنا أن نقوم أولاً بتطهير بعضنا وفتح جبهات قد تثبت أن ابن تيمية أفضل من ابن رشد, وأن ابن صلاح الدين الأيوبي أفضل من السهروردي, وأن عثمان بن عفان أكثر إيماناً من أبو ذر … لكن هذا الإثبات لن يساهم في اقترابنا ـ أو اقتراب العالم المتحضر نحونا ولو شبر واحد.
من أراد تقديس ابن تيمية وابن الباز وأبناء آخرون فهذه مشكلته الشخصية, لكنها لن تكون مشكلة شخصية إن صار هذا الإنسان وزيراً للتربية مثلاً! أو وزيراً للصحة ويفتي ببول البعير…
ليس كل ما كان يسمى بالتاريخ العربي والإسلامي يستحق الاحترام, ليكن ذلك لباحثي التاريخ! لكنه لا يمكن أن يكون منهجاً لمجتمع يريد أن يدخل إلى القرن الواحد والعشرين “بعد الميلاد” بزجاج ملوّث!
إننا بحاجة للعمل أكثر من الدعاء وابتهال كل فريق لمهديه المنتظر,
بحاجة لمواجهة جزء من الماضي من خلال إدارة جزء من الظهر له!
بحاجة للبحث عن حلول وليس أكباش فداء.
بقدر ما نحن بحاجة لزمن لفهم العالم والديمقراطية وممارستها, بقدر ما يحتاج العالم إلى زمن للاقتناع بأنه لا خطر يهدده من جانبنا. والزمن بسرعة يسير, وفتح نافذة صغيرة في الرأس شيء يسير!!
التأثير متبادل ونوافذ العالم مفتوحة وما علينا سوى فتح نوافذنا للشمس أو على الأقل تنظيف زجاجنا الملوّث!
بودابست,
fadel.k@freemail.hu