ربما أراد حزب الله من وراء استمراره في الاعتصام في وسط بيروت تسجيل اعتصامه هذا في لائحة «غينيس» بصفته أطول اعتصام في تاريخ العالم.
أن يتبنى الحزب دعابة من هذا النوع خير له من الإبقاء على «المضمون السياسي» للاعتصام،إذ هذا الأخير استُنفد حتى كاد يتحول الى نكتة سمجة.
إسقاط الحكومة وتشكيل حكومة وحدة وطنية،وهو الشعار الذي نفذ الاعتصام على أساسه، اصبح امراً منسياً في ظل ما هو مطروح اليوم. التخلي عن المطالبة بإسقاط الحكومة خطوة اتخذتها المعارضة رسمياً منذ إعلان ما سمي بـ «مبادرة الرئيس نبيه بري» في 31 آب (أغسطس) الفائت. سبقت ذلك وأعقبته مواقف وخطوات أقرت فيها المعارضة عملياً بشرعية حكومة فؤاد السنيورة، والمشاركة في الانتخابات النيابية الفرعية والاعتراف بنتائجها، وطلب موازنات مسؤولين في المعارضة منها، وقيام وزراء المعارضة المستقيلين بمهامهم في وزاراتهم، وخطوات أخرى لا مجال لعرضها هنا.
كل هذا لم يؤد الى قرار بوقف «الاعتصام»، ما يدفع الى الإبقاء على احتمالين وراء إبقائه على «لائحة غينيس» اولاً، وثانياً تحويل الوضع في وسط بيروت التجاري حيث حطت خيم المعتصمين منذ اكثر من ثلاثمئة يوم الى واقع سياسي واجتماعي يسعى القيمون عليه الى جعله جزءاً من المعادلة المزمع انتاجها في مرحلة ما بعد الاستحقاق الرئاسي. فـ «الاعتصام» لمن يعيش بقربه ويختبر تحولاته الميدانية، تحول الى واقع والى وتيرة. وتعطيل الوسط التجاري بالحواجز ورجال «الانضباط» والخيم، نجم عنه مشهد قد يدفع المسؤولين عنه الى تقديمه بصفته واقعاً اجتماعياً على السلطات التعاطي مع مسألة تفكيكه بـ «حكمة». مواقف السيارات التي أقيمت في المناطق المحاذية كبديل للمواقف التي تحولت الى مخيم ستؤدي عودة المواقف الأصلية الى «تشريد العائلات» التي يعمل أفرادها فيها. سيارات «الأكسبرس» التي تحيط بخيم المعتصمين سيعني منعها لاحقاً من الوقوف مجدداً «اعتداءً على مصدر عيش الفقراء»، اما شبكة الطرق التي تم تحويلها باتجاهات غير تلك التي صممت من اجلها فستكون إعادتها الى جادة النظام ضرباً من الاعتداء على أسلوب عيش تشكل على مدى أيام الاعتصام.
لم يعد «الاعتصام» اعتصاماً، صار وتيرة، وهو ما يجعل من مسألة تفكيكه وإنهائه قضية اكثر من سياسية. فكيف يكون اعتصاماً من دون شعار سياسي محدد؟ وكيف يكون اعتصاماً من دون معتصمين، بل رجال «انضباط» يتولون حراسة خيم فارغة؟ انه سعي لفرض واقع على منطقة محددة، وبهذا المعنى تصير مخاوف البيروتيين مبررة.
موقف السيارات الذي ما زال يعمل داخل سياج الاعتصام أجرى أصحابه «تسوية» ما مع رجال الانضباط، وذلك الدكان الذي كان قائماً قبل الاعتصام واحتفل صاحبه في البداية بقدوم مناصرين لمن يناصرهم وازدحم على بابه زبائن جدد، أقفل اليوم بعد ان أدرك ان الاعتصام صار وتيرة، وان المعتصمين الذين أنعشوا دكانه في البداية انصرفوا الى حياتهم خارج الوسط التجاري، ولم يبق إلا رجال «الانضباط» في وسط بيروت.
مبنى الأمم المتحدة الذي كان موظفوه جزءاً اساسياً من حركة الوسط التجاري اصبح اليوم شبه فارغ بفعل انتقال معظم دوائره الى مناطق أخرى من بيروت، ناهيك طبعاً عن المطاعم والمتاجر التي أقفلت ووضع أصحابها إعلانات يعتذرون فيها عن عدم استقبال الزبائن «بسبب الظروف القاهرة».
«الاعتصام» لم يعد اعتصاماً، صار جزءاً من معادلة سياسية معقدة. حزب الله الذي بيده، على ما يبدو، قرار بقاء الخيم (والدليل على ذلك ما جرى عندما أشار أحد وزراء حركة أمل الى احتمالات إنهائه، اذ تولى الحزب نفي ما هٍُيىء للوزير)، يشعر ان ورقة الاعتصام لم تُلعب بعد وهو ما يُفقد «الاعتصام» تعريفه. فهذا الأخير تقليد احتجاجي من المفترض ان يكون مصاناً بالقوانين، فيما وظيفة اعتصامنا في وسط بيروت تتعدى الاحتجاج الى تكريس واقع لا يقيم وزناً للقوانين، والدليل تعطيله أعمالاً وإفقاره مواطنين.
اذاً، نحن حيال تجاوز أساسي وجوهري لمعنى الدولة، يُجرى على حساب مصالح مواطنين من المفترض ان تسعى المعارضة الى تمثيل مصالحهم. وحين يصبح هذا الهم او ادعاؤه على الأقل خارج سعي أحزاب المعارضة، نكون ساعتئذ في مرحلة من النزاع لا قيمة فيها للدولة وللقانون ولمصالح الناس. السياسة في هذه الحال ليست سعياً لتمثيل أصحّ، ولدفع الحياة الى الأمام. انها لعب خارج القانون.
لكن ما يلفت في حالتنا في وسط بيروت هو تجاور هذه الحقائق مع دعاوى تمثيل القانون والحرص عليه. فـ «الاعتصام» يحرسه ايضاً رجال امن رسميون، وتعبر من امام حواجزه يومياً سيارات مسؤولين في الدولة من الموالاة والمعارضة، وحزب الله الذي لم يقدم منذ اشهر أي مسوغ سياسي لإبقائه الاعتصام يكرر إعلانه تمسكه بالدولة.
يشكل «اعتصام» وسط بيروت لحظة احتقان أهلي خطرة. في الشكل هو احتلال جماعة منطقة جماعة أخرى، اما القول ان أحزاب المعارضة تحركت في وسط العاصمة التي من المفترض ان تكون ساحة كل اللبنانيين، فهو في احسن الأحوال قول ساذج، فالجميع يعرف اولاً ان الأمكنة في وعي اللبنانيين تتعدى معانيها التوزيعات الإدارية وهي تمت الى تواريخ الجماعات ومواقعها بصلات عاطفية ومعنوية. ثم ان هذا القول يوحي بأن ثمة من يعول على الدور الجامع للعاصمة، لكن هذا التعويل لا يعني ايضاً احتراماً لهذه الوظيفة، فتتم استباحة العاصمة بذريعة أنها للجميع، ويتم تجاوز حقيقة أنها مركز القوانين ونقطة اختبار احترامها.
صاحبة المتجر الصغير في طرف الوسط التجاري ضجرت من السؤال يومياً عن التوقعات حول مستقبل الاعتصام الذي خفض مبيعاتها بنحو 90 في المئة كما تقول. غادر زوجها لبنان ولم تلحق به ظناً منها أن يوماً سيأتي تنهي فيه المعارضة اعتصامها. يزداد وجهها شحوباً يوماً بعد يوم، وفي المرات القليلة التي تسأل فيها عن احتمال انفراج قريب، لا تنتظر جواباً، لا بل تفضل عدم سماع الرد. في المرة الأخيرة عندما سمعت خبر اجتماع نبيه بري وسعد الحريري، توجهت بسؤال مختلف: هل سينهي اتفاقهما على رئيس للجمهورية الاعتصام في وسط بيروت؟ الجواب لم يحمل إليها تفاؤلاً: أولاً، الأرجح انهم لن يتفقوا على رئيس للجمهورية، وثانياً، في حال اتفاقهم لا ندري ما اذا كان حزب الله في وارد تقديم الاعتصام هدية لمواطنين قليلي الحيلة والعدد!
* نقلا عن صحيفة “الحياة” اللندنية