الحديث عن موقف الأحزاب السياسية من الملكية الدستورية لا يستقيم إلا بالتمييز فيها بين أحزاب اليسار ، أحزاب اليمين والأحزاب الإسلامية . إذ لكل طيف سياسي موقفه الذي أعلنه ودافع عنه في فترة من الفترات . بل من تلك الأطياف من كلفه موقفه تضحيات جسيمة ، فشل أسلوب القمع والاستبداد في تغييره ، بينما أفلح أسلوب الإدماج السياسي في إدارة الشأن الحكومي في تغيير موقف بعض تنظيمات اليسار ( الاتحاد الاشتراكي ، التقدم والاشتراكية ، الحزب الاشتراكي الديمقراطي ، جبهة القوى الديمقراطية) . فيما ظل غيرهم متشبثين بمطلب الإصلاحات السياسية والدستورية التي تنقل النظام السياسي المغربي من ملكية لها دستور إلى ملكية دستورية . وقد كان التعديل الدستوري لسنة 1996 المحطة البارزة التي فرزت بين مواقف الأحزاب التي لم توافق على الدستور المعدل وتلك التي صوتت عليه بـ”نعم” . وليس المجال للتذكير بالمسوغات التي قدمتها الأحزاب لموقفها “الإيجابي” من الدستور ، بقدر ما هو مفيد التأكيد على عمق التغيير الذي طرأ على أحزاب اليسار عموما ، والتي بات همها محصورا في الحصول على نصيبها من “كعكة” الحكومة . وهذا ما أقر به السيد محمد الحبابي في كلمته أمام المجلس الوطني الأخير بقوله ( إن عدد النواب الذي حصلنا عليه ليس تعبيرا عن مدى شعبية الحزب وإنما هو ضمان للحصول على أكبر عدد ممكن من الحقائب الوزارية ) . ومتى كان المنصب مقدما على مصلحة الشعب ، ساد حب الحقائب وجاز خرق المبادئ وتقليب القلوب .
وهذا حال الاتحاد الاشتراكي الذي ـ كما ذكر السيد الحبابي ـ رفض عرض بنهيمة في المفاوضات باسم القصر سنة 1977 والقاضي بمنح الحزب “عدد مناسب بين 42 و 80 ” مقعد نيابي . حينها كان موقف الحزب هو الرفض ( غير أننا قلنا له آنذاك ” حتى لو تنازلتم ومنحتمونا ثمانين مقعدا ، فلن يكون بإمكاننا أن نقبل عرضكم لأن هذا ضد الديمقراطية) . أما اليوم ـ وبتعبير السيد الحبابي ـ ( بلغ الأمر بالحزب أن تموقع وراء الكثير من الأسماء التي صنعها عهد إدريس البصري ) . وخطورة هذا الانقلاب لا تؤثر فقط على وضعية الحزب التنظيمية وشعبيته الجماهيرية ، بل تتعداها إلى المجتمع والدولة والملكية ( ستكون عودة لتناول هذه التداعيات في مناسبة قامة ) . ومن ثم فإن حب المناصب وقبول تعطيل المبادئ وقلب المواقف يحوّل الأحزاب إلى مجرد مرافق حكومية يطالها الفساد الذي يطال المرفق العام . أما الوزراء المتحزبون فهمهم الأساس أن يكونوا مجرد موظفين سامين في حكومة إدارية بدل وزراء حزبيين في حكومة سياسية . وقد ترتب عن هذا الوضع وجود قطيعة بين الأحزاب والوزراء ـ بشهادة السيد عبد الرفيع الجواهري ـ بحيث ( لم يكن أولائك الوزراء يستجيبون للنداءات المتكررة لأعضاء الفريق للاجتماع بهم قصد حل المشاكل التي يطرحها عليهم المواطنون ، بل أكثر من ذلك فإنه لا يتم إشعار الفريق بمشاريع القوانين التي تهم الوزارات التي يسيرها الوزراء الاتحاديون قبل عرضها على مجلس النواب إلى أن يفاجأ الفريق بإحالتها على اللجن المختصة )( الأحداث المغربية 11/10/2007) . وإذا كان هذا حال القيادة المستوزرة مع الفريق النيابي لحزبها ، فماذا سيكون عليه أمر الوزراء غير القياديين ؟ أكيد أن الخلل بالأساس في الوزراء والهيئات الحزبية المقرِّرة . إذ لا جدال في كون الوزير يحمل برنامج الحزب ويعمل على تطبيقه في القطاع الحكومي المسند إليه . وأي تنصل من المسئولية الحزبية والبرنامجية هو بالضرورة خيانة للعهد وللأمانة التي طوق الناخبون بها عنق الذين فازوا في الانتخابات باسم الحزب . ومن السفه تحميل بنود الدستور كل أسباب الفشل في إدارة الشأن العام . إن الأحزاب السياسية تتحمل الجزء الأكبر من مسئولية تردي الأوضاع الاجتماعية وسوء التدبير والعزوف السياسي بسبب استشراء الفساد والزبونية والمحسوبية والتكالب على المناصب داخل صفوفها . ذلك أن عموم الأحزاب ، خاصة التي تدعي الحداثة والديمقراطية ، فتحت أبواب الترشيح أمام نخاسي الانتخابات ومفسديها . بل انتصرت للذين كانوا موضوع متابعات قضائية بسبب استعمالهم للمال الحرام في شراء ذمم الناخبين خلال تجديد ثلث مجلس المستشارين . إذ بالغت الأحزاب في الاحتجاج ضد وزير العدل بهدف حمله على وقف المتابعة . وهذه مفارقة فظيعة ، إذ انقلبت الأدوار وأصبحت الأحزاب هي مأوى الفاسدين والمناصرة لهم ، فيما الدولة ـ التي درجت عقودا من الزمن على تزوير الانتخابات ـ غدت الأكثر حرصا على نزاهتها . وهي نقلة نوعية طالما طالبت بها الأحزاب الديمقراطية .
وكان الأحرى بالأحزاب أن تعزز موقف الدولة وتدعمه بهدف التأسيس لمرحلة جديدة أساسها فعلا التوافق الحقيقي على إعمال القواعد الديمقراطية والاحتكام إلى مبادئها . ومن ثم يمكن الجزم أن الأحزاب المغربية غير مؤهلة بما يكفي ـ خاصة من الناحية التنظيمية والبرنامجية ـ لاحترام الضوابط الديمقراطية وقواعدها . ذلك أن الديمقراطية ليست مجرد عمليات انتخابية محصورة في شروط التصويت وظروفه ، بل هي أساسا ثقافة وسلوك ومبادئ . وهي كلها عناصر خارج دائرة الاهتمام والتطبيق بالنسبة للأحزاب التي أعمى قياداتها حب المناصب وشغلها عن وضع برنامج حكومي متكامل لمواجهة معضلات التشغيل والفقر والتهميش والرشوة والفساد الإداري والمالي . وقد أبانت جولات التشاور التي عقدها الوزير المعين عباس الفاسي مع زعماء أحزاب الأغلبية ، عن عجز فظيع لدى هؤلاء الزعماء في مواجهة مشكل بسيط يتعلق بتشكيلة الحكومة . الأمر الذي يؤكد تواكل هذه الأحزاب التام على الملك في حل المشكلات البينية البسيطة قياسا إلى المشاكل الهيكلية التي ظل أعضاء الحكومات السابقة يقتاتون على المبادرات الملكية في التعاطي مع هذه المشاكل . والأحزاب ، بنزوعاتها السلبية المزمنة ، تستقيل أمام الملكية التي لن تجد بدا ـ أمام الشلل الحكومي ـ من أن تكون ملكية تنفيذية ومبادرة ، ليس فقط في الشأن العام ، بل حتى في مجال تشكيل الحكومة الذي أشرف عليه مستشارا الملك بعد أن عجز الوزير الأول المعين أمام تضخم أطماع المستوزرين. الأمر الذي يبعث على اليقين أن الأحزاب التي تقبل بقيادات تخرق القواعد الديمقراطية من أجل الحقائب الوزارية ، هي أحزاب بحاجة إلى تدخل خارجي لتأهيلها . ولعل هذا هو ما قصده الملك في خطابه الأخير أمام البرلمان بقوله “هدفنا الأسمى يظل هو تأهيل كل الفاعلين في أفق الإصلاح المؤسسي، الذي يتوخى ترسيخ التطور الديمقراطي والتنموي، بالحكامة الجيدة، وذلك في التزام بمقدسات الأمة وثوابتها” . قد يبدو الأمر تجاوزا للمنهجية الديمقراطية ، لكن حال الأحزاب بات يصدق عليه المثل الشعبي ( الحر بالغمزة والعبد بالدبزة) .
selakhal@yahoo.fr