بزغت الحضارة الإسلامية وسادت في العالم قرونا عدة في مناطق شاسعة من العالم القديم ليس بفعل السيف في المقام الأول، وإنما تحت تأثير المبادئ الإسلامية وقيمها الرفيعة والخالدة، ومن بينها كفالة وحماية حقوق الإنسان وفقا للكتاب والسنة وسيرة الرسول محمد بن عبدالله، قبل أن يدخل العالم الإسلامي مرحلة وطور الانحطاط والتخلف، بفعل الاستبداد، الصراعات، الحروب الأهلية وهيمنة فقهاء السلاطين.
كل ذالك يعني قدرة الإسلام وحيويته على استيعاب منجز الحضارة الإنسانية بما فيها الحضارة (الغربية) المعاصرة. وهنا علينا التفريق بين الديني (السماء) والدنيوي (الأرض) لذا فإن الرسول الأعظم وخليفة الله في أرضه، وخاتم الأنبياء والمرسلين، محمد بن عبدالله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، هو الكائن البشري الوحيد في الإسلام الذي عقدت له الزعامتان الدينية (الرسالة والنبوة) والزمنية (الدنيوية)، لذا لم يتضمن القران الكريم أو السيرة النبوية تحديدات قاطعة الدلالة إلى شخص خليفته، أو شكل الحكم وأساليب الإدارة الواجبة إتباعها من بعده، بما يعني انه شأن بشري ‘’انتم أدرى بشؤون دنياكم’’، ارضي، ودنيوي متغير، ومتحرك، ومتروك للبشر أنفسهم.
فالنبي وحده فقط هو خليفة الله التي توحدت في شخصه السلطتان الدينية والدنيوية، أما من بعده من الخلفاء الراشدين فقد كانوا خلفاء له في الأرض، وبالتالي سيرتهم وأقوالهم ومسلكهم يعبر عن حقيقة كونهم بشرا (وهذا لا يشكل نقيصة بغض النظر عن منزلتهم الرفيعة) يجتهدون ويصيبون ويخطئون، ولم يزعم احد منهم لنفسه العصمة والقدسية التي أسبغت عليهم لاحقا، بفعل الأهواء، المصالح، الصراعات، التعصب. دور حكام الجور والاستبداد وفقهاء السلاطين الذين تحكموا في معظم فترات الخلافة حتى نهايتها (الخلافة العثمانية) على يد كمال أتاتورك 1924.
بهذا المعنى نفهم بأن صحابة الرسول، من المهاجرين والأنصار، بما فيهم الصحابة المبشرين بالجنة، اختلفوا وتصارعوا على السلطة والخلافة، بمعيار السياسة (العصبية) وليس بمعيار الدين، سواء في سقيفة ‘’بني ساعدة’’ حين اختير الخليفة أبو بكر رضي الله عنه، والنبي لم يدفن بعد، ولا ننسى هنا الخلافات التي دارت لاحقا بين الصحابة (الموقف اللافت لعمر بن الخطاب واعتراضه على قرار الخليفة أبو بكر حول الموقف من حروب الردة والامتناع عن دفع الزكاة) أو التباينات في طريقة الاختيار لبقية الخلفاء الراشدين. كما نستحضر هنا الحروب الأهلية والثورات والانتفاضات المتتالية ونذكر أبرزها ثورة الإمام الحسين بن علي أبن أبي طالب عليهما السلام ضد الطاغية يزيد بن معاوية دفاعا عن القيم، والمبادئ الأخلاقية السامية التي تشكل جوهر ومحتوى دين جده والتي تمسك بها حتى النهاية واستشهد من اجلها. تلك الصراعات والفتن والثورات التي دشنتها ما اصطلح عليه بالفتنة الكبرى (التي بدأت بمقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان ثم خروج معاوية بن أبي سفيان على خلافة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام) التي قتل فيها الكثير من الصحابة وقراء الحديث بمن فيهم الكثير من المبشرين بالجنة، ومعهم عشرات الآلاف من المسلمين. وبالطبع لايعني ذلك انتفاء الخلافات الفكرية والفقهية والتناقضات الأيدلوجية التي صبغت تلك الحروب وتشكلت على إثرها المذاهب والفرق الإسلامية المختلفة. ونذكر هنا إن ثلاثة من أصل أربعة من الخلفاء الراشدين ذهبوا ضحايا العنف والثورات والاغتيالات السياسية. وفي الجانب الديني / العقائدي، وجدنا في الإسلام، تعدد التفاسير والاجتهادات والمذاهب المختلفة. إضافة إلى ازدهار علم الكلام، الفلسفة والإبداع في سائر العلوم الطبيعية، والتي مصادرها ومنبعها في الغالب من حضارات أخرى. لقد تميزالإسلام الأول بمرونته ومراعاته (فقه الواقع والضرورات التي تبيح المحظورات) للمتغيرات، ولنا في سيرة الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه أسوة، حين الغى حصة المؤلفة قلوبهم، ومنع زواج المتعة، كما أوقف توزيع الفيء لأرض السواد (العراق) كمغانم حرب بين الجنود المسلمين، وجعلها وقفا لدار مال المسلمين، ولم يتردد في إيقاف بعض الحدود في عام (القحط) المجاعة كما يستحضرنا هنا ولجوئه إلى الشورى وأخذه ‘لرأي أهل الحل والعقد’’ متجسدا في كثير من المواقف من بينها قوله ‘’لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن’’ يقصد بذلك الإمام علي أبن أبي طالب (ع). من كل ذلك نستطيع القول إن الإسلام نص مفتوح على الواقع والحياة وغير مغلق أمام التطور والتقدم لصالح الأمة والإنسان، ونذكر هنا قول الإمام علي عليه السلام ‘’القرآن كلام بين جلدتي كتاب، وانه حمال أوجه لا ينطق، ولكن ينطق به الرجال’’.
وفي الواقع فإن الدولة الدينية (حيث الجمع بين السماء والأرض) انتهت عقب وفاة الرسول وترسخ ذلك بعد انتهاء المرحلة الراشدية، وتحول الحكم إلى ملك (مدني) عضوض. إذ كان هناك دائما فصل واضح بين الإطار الديني (الروحي) والمجال المدني (السلطة السياسية) غير انه غالبا ما كان يجري على نطاق واسع، ومن خلال منظور ما سموا بوعاظ وفقهاء السلاطين المنتدبين لخدمة (الحاكم) الجائر، وتبرير ظلمه وتعدياته من خلال أحاديث موضوعة، أو تأويل آيات من القرآن بعد اقتطاعها من سياقاتها التاريخية والاجتماعية والدلالية واللغوية. من خلال سرد هذه التوطئة الطويلة أريد من خلالها التأكيد على أن الإسلام (وينبغي أن يكون) دين متجدد، ومنفتح على كل منجزات التقدم والحضارة السابقة له، والمجايلة له، واللاحقة بعده من أية جهة ومنبع كان. وبالتالي لا يكفي وليس مقنعا القول (في ضوء التجربة والواقع الفعلي) كما جاء في تقرير اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان في السعودية إن ‘’الإسلام هو أول من شرع لحقوق الإنسان، قبل ظهورها في الغرب في القرن الثامن عشر’’.
صحيفة الوقت البحرينية
na.khonaizi@hotmail.com
* كاتب سعودي
الإسلام وحقوق الإنسان
باعتباري أستاذ الفكر السياسي الإسلامي بجامعة الكويت , أعتقد أن الدين الإسلامي لا يعترف بالإعلان العالمي بحقوق الإنسان. والدليل على ذلك ليس فقط التحفظات العربية على بعض مواد الإعلان, بل ولأن حقوق المسلم تختلف عن حقوق غير المسلم. كما أن الإسلام لا يعترف بالديانات غير السماوية. وكتب أحكامأهل الذمة خير دليل على انهيار مبدأ المساواة في الإسلام . فالرجاء الكفّ عن تكرار مقولة أن الإسلام أول من قرر حقوق الإنسان, لأن هذه المقولة تمثل استهزاء بالجهود الإنسانية في مجال حقوق الإنسان.