في الذكرى الخامسة والأربعين للإحصاء الاستثنائي الجائر والظالم, والذي جُرِّدتْ بموجبه الجنسيةُ السوريةُ من آلاف المواطنينَ الكوردْ السوريينْ لا يزال الأمرُ على حاله, ما يشكلُ مضاعفاتٍ إضافية في معاناة ضحايا مشروع البعث الحاكم وأجندته في التنكيل بكلِّ دولة مدنية ديمقراطية مرتقبة, عبر اعتمادِ سياساتٍ هدفها الأوحدُ تصفيةُ كلِّ سياسةٍ قد تؤدي إلى ولادة دولة المواطنة الديمقراطية, التي تشكل النواةَ الصلبةَ الكفيلةَ باحترام حقوق الإنسان والبناء الديمقراطي والمدني اللاعنفي للدولة, ولا يمكننا فهمُ تأخير البتِّ في هذه القضيةِ ( قضيةُ المجردينَ من الجنسية ) من قبل السلطة السورية بالرغم من جملة وعودٍ أطلقت في السنين الأخيرة إلاّ في هذا الإطارْ.
إنَّ الخيارَ السلطويَّ الأحادي الرؤيةِ والقراءةِ للواقع, المنطلقُ من الثابت الإيديولوجي الشمولي في مقابل كلِّ تعددية هو الآنَ ما يلعبُ دوراً حاسماً في قمع سائر التعبيرات, سياسية كانت أم اجتماعية أم ثقافية أم اقتصادية, وذلكم الخيار لا يزالُ يمارسُ دوره في تغييب كثرةٍ من المواطنين السوريين عن الوجود الفاعل والتواجد على الخارطة السورية للمساهمة في بناء بلدهم لبنةٍ.. لبنةْ, ومن هذه الكثرة السورية المحرومةِ والمنكّل بها والمسدود خط الأفق الوطني أمامها يشغلُ الكورد المجردون من الأوكسجين السوري حيّزاً لا يمكنُ تجاهله والقفزُ من فوقه.
المتابعُ والقارئُ للوضع السوري الداخلي اليومَ, يُدركُ بلا مواربةٍ أنَّ حزب البعث الحاكم وعبر سلسلة من الممارسات والسياسات الداخلية نسفَ التوازنَ بين المواطن والوطن والديمقراطية, وحوَّل هذا الثالوثَ إلى مجرد أطلالٍ للنوستالجيين الحالمينَ ( وهم في هذه الحالةِ أطيافُ المعارضة السورية ) ومطية وسلطة فوقية وصائية, تجيدُ التهميش والقمع وحصار المكونات السورية, في إطارٍ من تصعيد العسفِ الذي يعززُ التسلطية أكثرَ.. فأكثر, وهذه التسلطيةُ المتعسفة تحطمُ المكونات الداخلية عبر الإبقاء على الإشكاليات والقضايا العالقة دونما حلٍ, وعبر تعاطٍ قمعيٍّ أعمى, هو مزيجٌ من التسويف والوعود غير المنتجة والخلبية وغضُّ النظرِ, والتي تصبُّ كلها في خانة سياسة ” أذنٌ من طينْ وأذنٌ من عجينْ “, التي تبرعُ فيها السلطاتُ في بلدان الشرق الأوسط دونَ غيرهم.
فوتَ خمسة وأربعين عاماً على البدءِ في الإحصاء/المأساة لم تقتنعْ السلطة السورية بعدُ بحقِّ أولئك المواطنين السوريين في الوجود والتنفس, هذا على ضفة السلطة, أما على الضفة الأخرى, فلا ننكرُ اليوم وجود تفاوتٍ عياني بين ضحايا الإحصاء الاستثنائي ومجموعُ الأحزاب والمنظمات الحقوقية السورية في الموقف من الإحصاء وبلورة آليات الرد عليه أو التعامل معه, و الآليات الموجودة تثبت سنوياً عقمها وعدم استطاعتها التأثير على السلطة وبالتالي تحريكها إيجاباً, ففي الحين الذي ضمَّتْ فيه الأحزابُ الكرديةُ قضية المجردين من الجنسية إلى مصفوفةِ مطالبها من السلطة السورية, ولا تغيبُ عن منشورات الأحزاب الكردية وعن منابرها الإعلامية, وصولاً إلى تنظيمِ اعتصاماتٍ سنوية في دمشق العاصمة يوم الإحصاء المشؤوم في السني الأخيرة, وإن كانت اعتصاماتٍ غير جماهيرية وفي حدودها الدنيا. فيما تحولت تلكم القضية لدى الأحزاب العربية السورية المعارضة إلى إحدى المسائل الأساسية على أجندتها في التغيير الديمقراطي, وأصبحتْ في أدبياتهم متصلةً بقضية الديمقراطية الغائبة في سوريا, إلا أنَّ الواضح الذي لا يمكنُ تجاهله هو أن المجردين من الجنسية أنفسهم غائبون عن ميدان الفعل والنشاط والحراك, ولم يكافحوا إلى الآن في سبيل ما يصبونَ إليه من نيل الهوّية السورية, لا بلْ يفتقرونَ إلى درجةٍ من النزوع نحو التنظيم, وافتقارهم هذا إلى النزوع نحو التنظيم ( تنظيم أنفسهم وطاقاتهم من أجل وضعهم الاستثنائي ) مردّه – ربما – إلى غياب أحد العوامل الموقفية الحاسمة التي تبلور أيّما حراكٍ مفترض, وأقصد بذلكم العامل الموقفي الغائب عاملُ الوعي أو درجةُ التبلور الإدراكي للقضيةِ في أذهانهم. تشذُّ عن ذلك محاولةٌ وحيدةٌ, وهي تلك التي قام بها وفدٌ ممثلٌ للجنة الدفاع عن حقوق المجردين من الجنسية, الذي قام بتسليم مذكرةٍ إلى مدير مكتب رئيس الجمهورية في دمشق بتاريخ 8 / 7 / 2007 ( الخبرُ منشورٌ في موقع ثروة بتاريخ 9 / 7 / 2007 ).
إنّ قضية الكورد السوريين المجردين من الجنسية بنتيجة إحصاء 5 / 10 / 1962 تأسيساً على نصّ المرسوم التشريعي رقم / 93 / الصادر بتاريخ 23 / 8 / 1962 , هؤلاء الكورد الذين درجَ على تسميتهم بدايةً بـ “أجانب أتراك” لغاية صدور المرسوم التشريعي رقم 276 لعام 1969 الذي عدّل توصيفهم القانوني إلى “أجانب سوريين”, هي قضيةٌ سياسيةٌ وحقوقيةٌ بامتيازْ, ولا يمكنُ النظرُ إليها بأيِّ حالٍ من الأحوال من منظورٍ حقوقي بحتْ بعيداً عن الاعتبارات السياسية, التي كان لها الدورُ الرئيس والدينامو في الإحصاء, وما تمخضَ عنه لاحقاً من ظلمٍ وجرائر يومية. هي قضيةٌ سياسيةٌ, لأنَّ مفاعيل الإحصاءِ اقتصرتْ على الكورد فقط ولم تتعداهم إلى المواطنين السوريين الآخرين : العرب والآشوريين في محافظة الحسكة, وهي قضيةٌ حقوقيةٌ لأنَّ قانون الجنسية السوري واضحٌ في طريقة وآليات منح الجنسية السورية.
ولا يؤثرُ على قضية المجردين من الجنسية السفسطاتُ الرسميةُ السوريةُ, التي تعتبرهم نازحينَ من تركيا أو هاربينَ أو لاجئينَ منذ عشرينات القرن العشرين, فإذا ما كانوا قادمين من تركيا أو هاربين من الظلم والجور التركي حينها أو مهاجرينَ غير شرعيين ( ولا أساسَ من الصحة البتة لذلك ) لاقتضى ذلك من الحكومة السورية منحهم الجنسية السورية, عملاً بقانون الجنسية السوري الصادر بالمرسوم التشريعي رقم 276 لعام 1969 وتعديلاته, والذي ينصُّ في إحدى مواده: ” يجوزُ منح الأجنبيِّ الجنسيةَ بمرسومٍ ….. إذا كان مقيماً في القطرِ إقامةً متتالية مدة خمسِ سنواتٍ على الأقل “. وإنْ كان يتمُ النظرُ إليهم كلاجئين أو نازحين فلماذا تأخرت تسويةُ أوضاعهم إلى الآن في دولةٍ قدّمت الكثير لنازحين ولاجئين آخرين, ونخصُ بالذكر النازحين الفلسطينيين الذين قدموا إلى سوريا ابتداءً من عام 1948 والعراقيين ابتداءً من عام 2003. المفارقةُ الأخرى في الأمر أنَّ الإحصاء تمَّ بناءً على ذريعةٍ من السلطات السورية حينها مفادها معرفةُ عدد الأشخاص الذين عبروا بشكلٍ غير شرعي إلى سوريا قادمين من تركيا, وإذا ما علمنا أنَّ أحد المجردين من الجنسية بنتيجة الإحصاء هو ” توفيق نظام الدين ” الذي شغل ذات مرةٍ قبل الإحصاء منصب رئيس هيئة الأركان العامة للجيش السوري, وأن أفراداً من عائلة “إبراهيم باشا المللي” جردوا كذلكم الأمر من الجنسية وكان عميدُ عائلتهم عضواً في المجلس التأسيسي للبرلمان السوري عام 1928, وإذا ما علمنا أنَّ الشاعر سليمان العيسى والكاتب زكي الأرسوزي وهما من عرب لواء اسكندرونة قدموا إلى سوريا بعد الاستفتاء الأممي على اللواء وضمِّه تالياً إلى الجمهورية التركية ومُنحوا الجنسيةَ السورية, لثبُتَ لنا زيفُ الذريعةِ أعلاه, واعتبار الإحصاء خطة منهجية لإقصاء الكورد ومحاصرتهم وحدهم. وما يثبتُ بطلان الذريعة السورية حولَ اعتبار الكورد المجردين من الجنسية مهاجرين غير شرعيين هاربين من القلاقل في تركيا أن سوريا وتركيا أبرمتا اتفاق أنقرة في 30 أيار 1926 وتم بموجب المادة الثالثة منه منح مواطني الدولة العثمانية السابقة المقيمين على الأراضي التركية حق الاختيار بين الجنسية السورية والتركية خلال مدة ستة أشهر, وألزمتْ من يختارُ الجنسية السورية أنْ ينقل محل إقامته خلال 12 شهراً خارج تركيا, وهذا الاتفاق جرى بين الدولتين بعدَ أن هدأت القلاقل الكبرى في تركيا بنتيجة فشل ثورة الشيخ سعيد بيران عام 1925.
إنَّ التسويف الذي يطالُ قضية المجردين من الجنسية اليوم, وتأجيل البتِّ بها رغم الوعود المتكررة من أركان السلطة السورية, وإبقاءُ هذه القضية الوطنية بامتياز في عنق القارورة السورية, وعدم تحويلها إلى أولوية جديرةٍ بالحل على طاولة أولي الأمر في دمشق, لا يلقَ صداه إلا في الموقف السياسي مسبق الصنع من الكورد والقضية الكوردية في سوريا, كون تسويفها إلى أجلٍ غير مسمى وتأجيلُ البتِّ بها هو غير قانوني إذا ما تمت قراءة الواقعة في ضوء القانون السوري, فقانون الجنسية السوري المعمول به الآن والصادر بالمرسوم التشريعي رقم / 276 / لعام 1969 ينصُّ في مادته الثانية على : ” تثبت جنسية الجمهورية العربية السورية لمن كان متمتعا بها وفقا لأحكام المرسوم التشريعي رقم / 67 / لعام1961 ” والمرسوم التشريعي رقم / 67 / لعام 1961 الذي تمت الإحالة إليه من قبل مرسومٍ لاحق ينصُّ في مادته الأولى على : ” تثبت جنسية الجمهورية العربية السورية :
أولا- لمن كان يتمتع بالجنسية السورية في 22 شباط 1958 .
ثانيا – لمن أكتسب جنسية الجمهورية العربية المتحدة من المواطنين السوريين في المدة الواقعة بين 22 شباط 1958 و 28 أيلول عام 1961 “.
والكورد المجردون من الجنسية كانوا يتمتعون بالجنسية السورية في تلكم التواريخ والمدد الفاصلة بينها. هذه النصوص القانونية هي سورية, فلماذا لا يتم الاستناد إليها ما دام قانون الجنسية الصادر بالمرسوم التشريعي / 276 / لعام 1969 نافذاً, ألا يفسر ذلك التعاطي اللاقانوني مع ملف المجردين من الجنسية.
الآنَ وانطلاقاً من الذكرى الخامسة والأربعون على الإحصاء, ينبغي على المجردين من الجنسية استلامُ زمام المبادرة والتحرك الكثيف – على الأقل من الجانب الحقوقي, ما دامت الأحزاب السياسية تتبنى الجانب السياسي – وتكرارُ صنيع أمهات المفقودين الأرجنتينيين في ميدان ” بلازا دي مايو ” فلا يُعقلُ أنْ يشاركَ في اعتصامٍ بمناسبة ذكرى الإحصاء في دمشق العشراتُ من الأشخاص فقط – جلّهم يملك الجنسية وبطاقة الهوية السورية – ما دام ضحايا الإحصاء يقدرون بالألوف ويمارسون العادة العلنية الوحيدة المتاحة في سوريا: الصمتْ.
mbismail2@hotmail.com