قرأت في شريط الأخبار لفضائية لبنانية، عن طلقات نارية في الهواء لعناصر جند الشام في مخيم عين الحلوة، ابتهاجاً بإعلان نتيجة تحليل الDNA للجثة المفترضة لشاكر العبسي زعيم عصابة فتح الإسلام، بما يثبت أنها ليست جثته . . هو إذن خبر سار أن الرجل الوحش مازال حياً، ويمكن بل وغالباً ما سيستمر في عطائه للبشرية والأمة العربية وللبنان وفلسطين . . هو خبر سار يستحق الاحتفال به بواسطة فصيل آخر على ذات نمط ونهج الفصيل المباد، أو المستأصل من مخيم نهر البارد فقط وبالتحديد، والاحتفال في مخيم فلسطيني آخر هو مخيم عين الحلوة!!
لبنان يا سادة تحول إلى عش ضخم للدبابير والعقارب.
لبنان وطن ممزق بين قبائل متناحرة، لا ترغب ولا تنتوي أن تعبر العشائرية والعصبية، لتعيد بناء وطن ودولة حديثة، كنا في يوم ما ننظر إليها بحنو وأمل، أن نرى نموذجها يعم كل المنطقة.
رغم الانفتاح اللبناني على العالم، والثقافة الفرانكوفونية المفترض تغلغلها في لبنان، إلا أن تأثير الهوية العربية أقوى من الزمن، وأقوى من كل عوامل الجذب الحضاري، المادية منها والثقافية، العروبة خصام ولدُّ في العداء وعصبية بلا حدود، وأرض العروبة صحارى جدباء، لابد وأن يتخللها مستنقعات من الدماء قانية الحمرة، العروبة صفرة معادية لكل ما هو أخضر، وعشق للموت معاد للحياة، العروبة هدم لكل بنيان يرتفع ليصير أعلى من قامة خيمة، يتسافد تحتها العروبيون بشراهة، فالعروبة بداوة تتأبى وتكره الحضارة والمتحضرين، العروبة غزو وكر وفر، وأخطر ما يعاديها أو يلاشيها السلام، ولا نبالغ إذا قلنا أن لبنان رمز لصمود الهوية العروبية، في وجه كل تيارات الغزو الحضاري والحداثي، وبالتالي يكون كل ما حدث ويحدث في لبنان بمثابة انتصار باهر للعروبة، يحق للمهلهل بن ربيعة (صاحب حرب البسوس) وناصر وصدام أن يهنأون ويسعدون به في لحودهم.
لبنان إذن بانقسام شعبه وتشرزمه محطة مثلى لتحط فيها العصابات الفلسطينية رحالها، ليمارسون الحياة بالطريقة التي يختارونها ويحبونها، تكوينات طفيلية تعيش على امتصاص دم الفلسطيني الكادح، وتبيعه في المقابل شعارات دينية وقومية، يتقبلها صاغراً أو منخدعاً سيان، مادمنا جميعاً شعوباً وحكومات قد راقت لنا اللعبة بهذا الشكل، وقررنا جميعاً أن نطلق على تلك التنظيمات الدموية توصيف مقاومة أو جهاد، كل حسب منطلقاته، ولكل وفق مراميه وأغراضه.
لم نكد ننتهي من مخيم نهر البارد وعصابته، وقد هُدم المخيم على رؤوس من فيه، ودفع الجيش اللبناني الثمن باهظاً من أرواح جنوده الشجعان بحق، وما سُفِك على الطريق من دماء الفلسطينيين الأبرياء، غير من تشردوا بعد ضياع كل ما يملكون تحت الأنقاض، لم نكد ننتهي حتى أطل علينا مخيم عين الحلوة وجند الشام، بطلقات إعلانية احتفالية في الهواء، لتخبرنا عن المسلسل أو الفيلم القادم، عن مكانه الجديد وأبطاله الجدد، لكن القصة لابد وأن نتوقعها نفس القصة، أما توقيت بدء الفيلم فمتروك للظروف، فقد يكون غداً أو بعد شهر أو بعد عام.
الشعب الفلسطيني الذي شرده قيام إسرائيل في كل البقاع، ندعي نحن الآن (شعوباً وحكومات) أننا نبحث له عن استعادة حقوقه، فيما على رأس تلك الحقوق حق الحياة الكريمة التي تتوفر فيها مواصفات الحياة الإنسانية، ونصطنع في بحثنا المدعى هذا صراعاً مع إسرائيل وأمريكا وكل العالم، ونختار في سعينا أبعد الطرق وصولاً إلى الهدف، أو تلك التي لا تصل لأي هدف على الإطلاق، أما خلف الواجهة والشعارات والتضليل والخداع الذي ينفثه إعلامنا وقنواتنا الفضائية وغير الفضائية، هناك خلف تلك الواجهات تقبع الحقيقة المؤسفة والدنيئة، وهي أننا صدرنا للشعب الفلسطيني كل أمراضنا وعاهاتنا، وحولناه إلى وعاء ليس له إلا أن يستقبل قاذوراتنا.
صدرنا له الفكر الإجرامي القومجي أو الديني، ليغلق عيونه عن رؤية العالم، إلا من خلال ثقب العداء والصراع، ومنعنا عنه كل بارقة أمل في التصالح مع الوجود ومع من فيه من بشر وحضارة، ليرى المصير محصوراً بين أن يكون قاتلاً أو مقتولاً، ليفقد الأمل في الحياة، ولا عجب إذن أن يسير وراء من يعدونه بجنة سماوية وبحور العين.
هذا ما أردناه للشعب الفلسطيني، حين رفضنا توطينه بيننا، بدعوى الحفاظ على أرضه وقضيته، فهل كنا فعلاً حريصون على القضية من أجل الشعب الفلسطيني، أم من أجل أن يتاجر بها زعماؤنا الملهمون وأبطالنا وقادتنا الضرورة، على شاكلة ناصر والقذافي وصدام والأسد؟!
وأيادينا التي امتدت بالعون للاجئين هنا وهناك، هل كانت أياد بيضاء، كالأيادي التي مولت الأونروا مثلاً، أم استخدمت أنظمتنا الراديكالية والتقليدية على حد سواء المساعدات أداة لشراء تنظيمات إجرامية التكوين، لتستخدمها في حروبها غير المقدسة بينها وبن بعضها البعض، ولا بأس من بعض المناوشات لإسرائيل لزوم الديكور، مثل صواريخ سكود، التي أطلقها صدام على إسرائيل إبان افتراسه للكويت؟!
هل تركنا لبنان ليكون واحة للديموقراطية والحداثة، نذهب إليه للسياحة والاستثمار، أم أبت علينا عروبتنا إلا أن نشده إلى أوحالنا، بل نجعل منه ساحة لعدائنا التاريخي لأنفسنا وللحياة، لتتصارع على أرضه وروابيه الخضراء كل حيواناتنا الخرافية، القادمة من أربعة عشر قرن مضى:
يتقاتل البعث الصدامي مع البعث الأسدي على أرض لبنان، عن طريق دمى مثل “ميشيل عون” وسائر الأفرقاء اللبنانيين، يعرفون أنهم دمى، ولا مانع لديهم من أن يكونوا كذلك، من أجل منصب أو حفنة دولارات، وربما من أجل الأهم، وهو إشباع رغبتهم العروبية في سفك الدماء . . أي دماء وكل دماء.
وتناوش سوريا إسرائيل، ليس عبر الجولان المحتلة منذ أربعين عاماً، ولكن عبر لبنان واللبنانيين، ويدير البعث الأسدي ظهره لهضبة سورية تركها بين أنياب النمر الإسرائيلي، ليستعيض عنها بافتراس لبنان، ويجد من اللبنانيين من لا رغبة له في أن يكون مواطناً لبنانياً، بقدر ما يهفو لأن يكون عميلاً سورياً، يرتدي عباءة العروبة المزركشة بالشعارات.
يتقاتل السنة والشيعة أصحاب العداء التاريخي العجيب، أيضاً على أرض لبنان، ومن لبنان يمد ملالي طهران أياديهم المباركة لتصدير ثورتهم الإسلامية، ومن لبنان أيضاً يحاربون معركتهم المقدسة مع اليهود أحفاد القردة والخنازير، بل ويحاربون أمريكا الشيطان الأكبر، لكن ليس انطلاقاً من ديار فارس، وإنما من ديار العرب النجباء الأذكياء!!
تحارب النظم الدكتاتورية -تقليدية وثورية- معركتها ضد الديموقراطية على أرض لبنان، بداية من عهد عبث الناصر بأحشاء لبنان في الخمسينات، مروراً بالسادات الذي شارك في العبث وهو ينادي “ارفعوا أيديكم عن لبنان” في السبعينات، الجميع لم يقصر في حقن لبنان والفلسطينيين بعقارات الهلوسة والعداء، في شكل أيديولوجيا أو سلاح أو دولارات.
الآن صارت لبنان بما تضمه من فلسطينيين ذروة مأساة العروبة وورطتها، صارت الوعاء الذي يجمع كل متناقضاتنا وعداواتنا، وقد فاض الإناء بما فيه، أو صار صندوق بندورا مفتوحاً، لتنطلق منه الهوام والثعابين والعقارب على كل المنطقة، وعلى كل اللاعبين بمصير الشعوب، وعلى كل الشعوب الغافلة المستنيمة، على الملايين من البشر الذين لم يتعلموا ولم ينتووا الدفاع عن الحياة!!
بدلاً من أن يجتمع القادة العرب لإطلاق مبادرة للسلام العربي الإسرائيلي، فيما النيران تشتعل في كل جنبات البيت العربي، حيث لن يستمع إليهم أو يحترمهم أحد، لا إسرائيل ولا أمريكا ولا أي كائن من كان، عليهم أن يقرروا -إن أرادوا أو استطاعوا- أن يحرروا لبنان، يحررونها من موبقات العروبة وأرجاسها، من عقاربها وذئابها، لتعود لبنان كما كانت وكما نحلم بها، واحة للديموقراطية والحداثة والرخاء، فلو نجحنا في هذا، سيكون لدينا موطئ قدم ننطلق منه للسلام، مع أنفسنا أولاً، ثم مع إسرائيل ومع العالم أجمع.
kghobrial@yahoo.com
إيلاف