ماذا يخبيء لنا الغد؟ هذا ما يتبادر إلى ذهن كل عراقي صباح ومساء كل يوم وهو يرقد أو يستيقظ على وقع أخبار الأزمة السياسية المحتدة والمتأزمة التي تعصف بالبلاد والعباد. ويزداد القلق والترقب خاصة بعد خروج وزراء جبهة التوافق من الحكومة وهي الخطوة المتوقعة منذ ثلاث سنوات والتي اعتبرتها الحكومة الأمريكية مجرد مناورة سياسية داخلية لا أكثر ولا قيمة لها في حين قد يكون لها تداعيات خطيرة وبوادر استغلالها من قبل سياسي مخضرم كاياد علاوي وتوظيفه لذيول هذه الأزمة واقتناص هذا الظرف الاستثنائي الذي يمكن أن يعيده إلى سدة الحكم ولذلك أعلن عبر وسائل الإعلام عن سحب وزارء قائمته الخمسة من الحكومة أيضاً والعمل بجدية لتشكيل تكتل سياسي عراقي جديد يضم في إطاره جبهة التوافق المنسحبة وجبهة الحوار الوطني بقيادة صالح المطلك وبعض المستقلين في الإئتلاف العراقي من مجموعة قاسم داود وبعض الأكراد ” ألاوت سايدر” من خارج وداخل الجبهة الكردستانية كمحمود عثمان مثلاً وربما حزب الفضيلة وبعض عناصر وشخصيات من التيار الصدري الذين يريدون الانتقام من حكومة المالكي التي تخلت عنهم ورمتهم طعماً سائغاً للأمريكيين على حد تفكيرهم بعد أن أعلنوا انسحابهم من الإئتلاف العراقي الموحد الحاكم في أعقاب انسحابهم من الحكومة.
الغرض من هذه المناورة التي ارتسمت ملامحها في الأفق هو إيجاد ثقل سياسي وبرلماني موازي كبير لثقل الحكومة الحالية المؤلفة من تحالف الحزبين الإسلاميين الشيعيين الكبيرين المجلس الأعلى الإسلامي في العراق وحزب الدعوة أو بالأحرى أحد أقوى أجنحة حزب الدعوة بقيادة نوري المالكي رئيس الوزراء الحالي والحزبين الكرديين الرئيسيين وهما الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني المتحالفين داخل الجبة الكردستانية الموحدة حيث سيكون بالإمكان إعلان الصراع العلني على النفوذ والسلطة بالطرق الشرعية والدستورية أول الأمر مما قد يقود إلى إمكانية سحب الثقة من الحكومة وفق الأصول الدستورية المتبعة في البرلمانات العالمية ومن ثم الدعوة إلى انتخابات تشريعية مبكرة أو سابقة لأوانها كما يطالب التيار الصدري والتي قد تفرز مفاجآت لاتخطر على بال أحد . كل ذلك يجري اليوم في ظل توتر إقليمي حاد شديد الوعورة وصفه وزير الخارجية الإسباني ميغل أنخيل موراتينوس اثناء زيارته لدمشق بأنه بالغ الخطورة لاسيما بعد إعلان الولايات المتحدة عن عزمها تسليح المنطقة وتقديم معونات وإبرام صفقات تسليح كبيرة للدول المعتدلة والصديقة والحليفة لها في المنطقة كالعربية السعودية بمبلغ 20 مليار دولار ومصر بمبلغ 13 مليار دولار وإسرائيل بمبلغ 30 مليار دولار بذريعة مواجهة النفوذ الإيراني والسوري ومن حولهما حيث تعتبرهما واشنطن العدوين الصريحين والمباشرين لمشروعها في الشرق الأوسط الكبير والجديد. الأمر الذي أثار ردة فعل عنيفة من جانب طهران التي أعلنت لامبالاتها لهذه الخطوة فيما أعربت سوريا عن قلقها من مشاريع التسليح الخطيرة في الوقت الذي تدعي واشنطن أنها تريد إحلال السلام في المنطقة من هنا نقرأ إعلان الرئيس السوري بشار الأسد بمناسبة تجديد البيعة له في ولايته الثانية للسنوات السبع القادمة، عندما صرح بأن الأشهر الستة القادمة والباقية من هذه السنة ستكون حاسمة ومصيرية ومؤثرة على الجميع وقد تغير وجه العالم. وهذه لغة رصينة وجادة لايلقيها الرئيس السوري جزافاً دون مقدمات أو مؤشرات حقيقية تجمعت لديه من مصادره الاستخباراتية لذلك وضع قواته المسلحة على أهبة الاستعداد لمواجهة أية تطورات طارئة باتت تلوح في الأفق وبدأ برنامجاً للتسليح والتدريب والتأهيل على أحدث أساليب القتال وحرب العصابات لاسيما داخل المدن تحسباً لأية مفاجآت قد تتعرض لها بلاده من قبل الأمريكيين أو الإسرائيليين أو الإثنين معاً إلى جانب برنامج تطوير للصواريخ البالستية بالتعاون مع كوريا الشمالية وروسيا. وتشير معلومات استخباراتية عن تواجد عماد مغنية القائد الميداني في حزب الله في العاصمة السورية اثناء تواجد الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد ومشاركته في كافة الاجتماعات لاسيما التقنية منها للتصدي لكافة الاحتمالات القادمة.
وكذلك يمكننا قراءة الإنذار الإسرائيلي لسورية الذي وصلها على شكل عرض دبلوماسي للتحاور والتفاوض المباشر وبلا شروط مسبقة مع إسرائيل وليس عن طريق الولايات المتحدة الأمريكية وذلك من خلال صيغة الزيارات واللقاءات المباشرة بين الزعماء والمسؤولين الإسرئيليين والسوريين في عاصمتي البلدين كدليل عملي ملموس على حسن النوايا وترسيخ عامل الثقة المتبادلة بين الجانبين وكخطوة أولى نحو التطبيع الحقيقي وإلا فسوف تعتبر إسرائيل الرفض السوري بمثابة نية في إعلان الحرب على إسرائيل آجلاً أم عاجلاً وبالتالي من حقها الرد بصورة استباقية في حرب وقائية على غرار ما حدث سنة 1967 ووفق عقيدة بوش في الحرب الوقائية التي جسدها عملياً في العراق وأفغانستان وتهديد مبطن لدمشق أنها ستدفع الثمن غالياً إذا ما قررت خوض مواجهة عسكرية مع الدولة العبرية مما يدعم مخاوف وتوقعات الرئيس السوري الذي تقرب أكثر من طهران في الآونة الأخيرة لتنسيق المواقف بين الحليفين السوري والإيراني استعداداً لأية تطورات مفاجئة من بينها توجيه ضربة عسكرية منتظرة ومتوقعة أيضاً ضد المنشآت النووية الإيرانية والبنى التحتية المدنية والعسكرية الإيرانية بغية شلها وتضييق الخناق حولها أي أن أمريكا تريد وبكل بساطة، إما الاستسلام من جانب الدول المتمردة على هيمنتها التي تسميها الدول المارقة وبالتحديد سورية وإيران وأفلاكها كحزب الله وحماس وقبول عملية السلام بصيغتها الأمريكية ـ الإسرائيلية بلا رتوش ولا عملية تجميل لحفظ ماء الوجه على الأقل، أو المضي قدماً في الخطط والاستعدادات العسكرية الجارية وفق المنظور الأمريكي ـ الإسرئيلي لفرض التغييرات السياسية المرتجاة بقوة السلاح وتحقيق ما أسمته الدوائر الأمريكية الاستراتيجية بالشرق الوسط الجديد والكبير مهما كانت التضحيات ومهما بلغت التكلفة، ويجري كل ذلك بموازاة الجهود الدبلوماسية الأخيرة التي تمثلت باختيار رئيس الوزراء البريطاني كمبعوث دائم للرباعية ـ أي أمريكا وروسيا والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي ـ في الشرق الأوسط لترتيب الأوضاع وتهيئة الأرضية لعقد مؤتمر دولي للسلام في الشرق الأوسط وإنهاء الصراع الإسرائيلي الفلسطيني والعربي الإسرائيلي. مقابل ذلك تناور كل من طهران ودمشق بما تبقى لديهما من وسائل ضغط لتحريك الأنصار والأتباع المخلصين في مناطق ملتهبة كالعراق ولبنان والتهديد بعرقلة حركة الملاحة البحرية وغلق مضيق هرمز أمام ناقلات النفط العملاقة وحرمان الغرب من عصب الحياة أي البترول وضرب المصالح الغربية والأمريكية بالتحديد في كل مكان كلما كان ذلك ممكناً لذلك بادرت الولايات المتحدة بمد أنابيب نفط عملاقة ورصد أموالاً كثيرة لإتمام مشروع الأنابيب البديلة التي تنقل النفط الخليجي إلى البحر الأحمر بأسرع وقت وتحت حماية مشددة.
لنعد إلى الوراء قليلاً ونستعرض سريعاً تطورات القضية العراقية منذ العام 1998 ونراجع صور التعامل مع الأزمة العراقية أمريكياً لفهم ما آلت إليه الأمور اليوم وما ستتفق عنه آفاق الغد المكفهرة.
أخفقت مخابرات صدام حسين في اغتيال الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الأب في الكويت انتقاماً منه لشنه الحرب على العراق عام 1991 وتوقع العالم رداً أمريكياً ماحقاً لكن إدارة بيل كلينتون اكتفت آنذاك بتوجيه ضربات وغارات جوية بصواريخ توماهوك وطائرات الفانتوم لبضعة أيام بيد أن عائلة بوش أضمرت الحقد واحتفظت لنفسها بحق الرد في الوقت المناسب وقد جاءت الفرصة المواتية بتولي جورج بوش الإين عام 2000 سدة الرئاسة في الولايات المتحدة الأمريكية وبات ممكناً تحقيق الانتقام من صدام حسين على طريقة الكاوبوي الأمريكي وفق تقاليد تكساس.
لم يكن جورج دبليو بوش الإبن معروفاً بليونة طبعه عندما تقلد منصب الرئيس الثالث والأربعون لأقوى دولة في العالم وهي الولايات المتحدة الأمريكية ولم يعرف عنه ميله للاستماع لآراء الآخرين أو تمتعه بروحية الانفتاح والتسامح كطباع تدمغ شخصيته . فغداة وصوله إلى البيت الأبيض في يناير 2001 في أعقاب انتخابات صعبة للغاية حصد فيها غريمه ومنافسه الديمقراطي ألبرت غور الإبن نصف مليون صوت أكثر منه لكن خلافاً نشب حول فرز الأصوات في ولاية فلوريدا وصل إلى المحكمة الاتحادية العليا التي حسمت الأمر لصالح جورج دبليو بوش. وتصرف بوش فور وصوله إلى أعلى هرم السلطة في أمريكا وكأنه أختير للرئاسة في طوفان جماهيري وأبدى عزماً كبيراً في إدارة شؤون الدولة وإصرار على تحمل قدره الذي منحه الله إياه كما يعتقد ويزعم، وعدم إكتراثه بالمتطلبات الأخلاقية أو بالضمير السياسي النقي.
منذ الأيام الأولى لرئاسته في ولايته الأولى فكر بتحقيق الانتقام من صدام حسين وإطاحته، وتشاور مع مستشاريه من تيار المحافظين الجدد في هذا الأمر وعلى رأسهم وولفوفيتز . وفي السنوات الأولى التي أعقبت ردة فعله العنيفة على أحداث الحادي عشر من أيلول التراجيدية سنة 2001 ، وشنه حرباً عالمية ضد الإرهاب الدولي وبإسم تلك الذريعة، وبخلط متعمد للأفكار والحقائق والأكاذيب وتزوبر الوقائع وافتعال الأزمات ، شن جورج بوش في آذار 2003 هجومه العسكري على العراق وأزاح صدام حسين عن سدة الحكم بالقوة ، وبرزت بقوة سماته ومزاياه الشخصية التي باتت تثير الجدل والسجال وتثير الإنقسام بين فئات الشعب الأمريكي الذي أكله الشك من جدوى وصدقية وصحة وحقانية هذه الحرب العبثية التي لاتنتهي ولايوجد لها مخرج حيث تتزايد يوماُ بعد يوم خسائرها البشرية والمادية وتجاوزت تكاليفها الخمسمائة مليار دولار بمعدل وسطي وصل إلى 750 مليون دولار يومياً كان يمكن أن تنفق في بناء مدارس ومستشفيات وتوفير الضمان الصحي لملايين من الفقراء والمعدمين في الولايات المتحدة الأمريكية ذاتها وجلهم من المحرومين من الرعاية الصحية. وتجاوزت الخسائر البشرية المعلنة الثلاثة آلاف وسبعمائة قتيل وعشرات الآلاف من الجرحى والمعوقين ومازالت الكارثة تتواصل كنزيف الدم . وبعد هذا المخاض السياسي والعسكري الذي طال أمده توقع الأمريكيون من رئيسهم نوعاً من التراخي والانحلال في سياسته العراقية والبدء في انسحاب تدريجي للقوات الأمريكية بيد أن العكس هو الذي حصل أي المزيد من التصلب والتعنت هو الذي أعلنه لهم الرئيس مصحوباً بقرار زيادة وتدعيم الوجود العسكري الأمريكي في العراق ومده بثلاثين ألف جندي إضافي.
الاستراتيجية الجديدة ـ القديمة للرئيس الأمريكي في العراق هي الرد الذي أعطاه جورج بوش لمعارضيه ومنتقديه في العاشر من يناير 2007 عندما توجه الرئيس رسمياً للشعب الأمريكي في خطاب متلفز ألقاه من داخل البيت الأبيض في ديكور مختار بعناية من داخل مكتبة البيت الأبيض كناية عن التأمل والتفكير والدراسة المتأنية وإعادة دراسة التجارب السابقة للورطة العراقية والتعلم من دروسها بعد أسابيع من الهزيمة النكراء التي تعرض لها الرئيس وحزبه الجمهوري في الانتخابات النصفية للكونغرس بمجلسيه النواب والشيوخ فكان جواب الرئيس للشعب على نتائج الانتخابات التشريعية التي خسرها هو عرضه للخطوط العامة لاستراتيجيته الجديدة ـ القديمة التي أعتمدها لتحقيق النصر في العراق بأي ثمن كان. استعرض الرئيس الأمريكي في باديء الأمر خطورة الوضع الذي وصله العراق اليوم المتسم بالخسائر البشرية الكبيرة وتطور وتفاقم المجابهات الطائفية وضعف الحكومة العراقية وغياب المؤسسات الحكومية أو ضعفها وفسادها وانتشار وتفاقم العنف والاقتتال الطائفي والاثني والعرقي والديني والمذهبي وانعدام الأمن في عموم البلاد. واعترف متأسفاً بأن هذه التطورات المأساوية غطت على بريق النصر السريع الذي تحقق في الأيام الأولى والنجاحات الهائلة التي بنيت عليها آمال كبيرة لاسيما في أعقاب الانتخابات التي جرت في نهاية عام 2005 واعترف أيضاً بلا خجل بحصول عدد كبير من الأخطاء وأعلن تحمله المسؤولية كاملة عنها. وصرح بأن هذه الحالة غير مقبولة وقرر اتخاذ الإجراءات اللازمة لمعالجتها على ثلاث مراحل متزامنة . فقد قدر جورج بوش في المقام الأول أنه لابد من إعادة فرض الأمن في العاصمة بغداد والقيام بما ينبغي فعله أي تنظيف بؤر الإرهاب والإمساك بالأرض المحررة وعدم الانسحاب منها لاسيما تلك المناطق التي باتت فريسة سهلة للإرهابيين لبسط نفوذهم عليها بقوة السلاح. ولتحقيق هذه الغاية أعلن الرئيس أنه سيرسل 21000 إضافي من جنود المارينز لتعزيز القوات الأمريكية المتواجدة هناك أصلاً وقد وصلت بالفعل تلك القوة الإضافية وباشرت بعمليات الدهم والمباغتة والهجوم على المناطق الساخنة والمتمردة كالأنبار وديالى ومدينة الصدر وغيرها كما أعيد تنظيم المراتبية القيادية أوالتسلسل القيادي للقوات في الميدان. وسمح للقوات الأمريكية والعراقية بدخول المناطق الواقعة تحت نفوذ وسلطة الميليشيات سواء الشيعية منها أو السنية في بغداد وخارجها مع بذل جهد إضافي خاص في الأقاليم والمحافظات التي تنتشر فيها القاعدة وتجعلها مناطق نفوذ خالصة لها والهدف المعلن لهذه الحملة الأمنية أو خطة أمن بغداد والمحافظات هو تسليم المهام الأمنية وحفظ الأمن والنظام وتحمل مسؤولية العمليات العسكرية والأمنية للقوات العراقية بعد إنجاز مهمة فرض الأمن والاستقرار بنجاح حقيقي ملموس.
الجانب الثاني لهذه الاستراتيجية هو تحقيق الأهداف السياسية حيث وضعت الحكومة العراقية أمام مسؤولياتها وطلب منها تحقيق جملة من الأهداف السياسية العسيرة في مهلة زمنية محددة وقصيرة نسبياً وتحسين قدراتها وفعاليتها للاستجابة للمعاير التي فرضتها الإدارة الأمريكية عليها لاثبات نجاعتها وكفاءتها وفقاً للتحديد الأمريكي . ففرض عليها تنظيم انتخابات محلية أو بلدية وتعديل الدستور وإدخال بعض المرونة في تنفيذ قانون اجتثاث البعث وتحويله إلى قانون العدالة والمساءلة وإعفاء عدد كبير من كوادر البعث المنهار من المحاسبة من الأعضاء العاديين وقادة الفرق والشعب من غير الملطخة أيديهم بدماء العراقيين ولم يرتكبوا جرائم ضد الإنسانية وضد الشعب العراقي ، والانفتاح أكثر على السنة العرب وتقاسم السلطات معهم لاسيما أولئك الذين يتمردون على السلطة القائمة ويحملون السلاح بحجة مقارعة الاحتلال الأمريكي ومحاربة الهيمنة الشيعية الموالية لإيران وإصلاح المؤسسات الحكومية الحساسة كالجيش والشرطة. وكان الإملاء الأمريكي واضحاً وصريحاً بهذا الصدد تناقلته وسائل الإعلام بالتعليق والتهكم أحياناً ما عرض الحكومة العراقية لبعض الإحراج. وقد صرح الرئيس الأمريكي بهذا الخصوص قائلاً ” أفهمت رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي وباقي الزعماء العراقيين أن التزام الولايات المتحدة ليس بلا حدود وإذا لم تلتزم الحكومة العراقية وتحقق تعهداتها فإنها سوف تفقد دعم وتأييد الشعب العراقي والشعب الأمريكي لها”. وأرفق جورج بوش كلامه المتصلب والخشن هذا بجملة من الوعود مشفوعة بأرقام بزيادة المساعدة الاقتصادية وإعادة بناء وترميم البنى التحتية العراقية المهدمة أو المخربة وإعداد وثيقة العهد الدولي مع حلفاء دوليين لم يحددهم سلفاً والغاية منها هو إعادة الصحة والعافية والصرامة لاقتصاد البلاد المشلول وتحريك وإنعاش دورته الإنتاجية . الناحية الثالثة من الخطة الاستراتيجية لجورج بوش كرست للمحيط الدولي المطوق للأزمة العراقية والمتفاعل معها سلباً أو إيجاباً. وكعادته في خطاباته الجلفة التي يلقيها من البيت الأبيض أو في المحافل الدولية وضع جورج بوش المعركة في العراق في أطار أشمل وأعم في سياق حربه الشاملة ضد الإرهاب الدولي حيث :” إن ما يدور في العراق ليس سوى ميدان من الميادين الكثيرة والعديدة لتلك الحرب الشاملة وساحة معركة لا أكثر”. لذلك تهجم الرئيس الأمريكي بقسوة وانتقد على نحو لاذع كلا من سورية وإيران اللذين اتهمهما بالتواطؤ والتعاون والتنسيق مع الإرهابيين والتعمد في ترك الحدود بينها وبين العراق سائبة لتسهيل تسرب وتسلل الإرهابيين من تلك الحدود الطويلة التي يصعب مراقبتها من جانب واحد. كما أتهم إيران بصفة خاصة بتزويدها الإرهابيين بالمتفجرات والعبوات الناسفة المتطورة المستخدمة في العراق ضد القوات الأمريكية والقوات العراقية . وأخيراً وجه الرئيس بوش الدعوة للأنظمة العربية في المنطقة لتقديم المساعدة والدعم للسلطات العراقية في بغداد.
وهكذا تجسد الرد الأمريكي على التغلغل الإيراني والتدخل السوري غير المباشر في الشأن العراقي وفق التصور الأمريكي، بزيادة الوجود والالتزام العسكري الأمريكي في العراق وتأكيد إرادة الإدارة في تدعيم وتعزيز قدرات الحكومة العراقية وجعلها أكثر صلادة وقوة وأكثر انفتاحاً وثقة بالنفس وتصعيد اللهجة تجاه إيران وسورية. وتبلورت الخطوط الرئيسية التي حددها ورسمها الرئيس الأمريكي لاستراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية الجديدة في المنطقة وهي في واقع الأمر ليست جديدة بل اتسمت بالجمود والتعنت والإصرار على الأخطاء فلم تتقبل الإدارة الأمريكية أي انفتاح على دمشق وطهران ولا القيام بأية مبادرة جادة لإعادة الحياة لعملية السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين وتركزت الاستراتيجية الأمريكية على الوضع العراقي فقط ولم تأخذ في الحسبان التأثيرات الإقليمية على هذا الملف ولم تقم إدارة بوش بأية مقاربة إقليمية أوسع من حدود المسألة العراقية.
في 23 يناير 2007، وفي خطاب عن حالة الاتحاد ألقاه الرئيس حسب التقليد المتبع أمام مجلسي النواب والشيوخ في الكونغرس الأمريكي ، عاد جورج بوش مجدداً للموضوع العراقي وتوقف عنده طويلاً وكرس له ربع مدة خطابه الذي استغرق 50 دقيقة ـ كانعكاس عن المكانة التي يحتلها هذا الموضوع في سلم اهتمامات الرأي العام والوسط السياسي الأمريكيين ـ وأعاد الرئيس الأمريكي التذكير بصرامة وحسم وتصميم بما يعتبره الأسس الجوهرية لسياسة إدارته في العراق والتأكيد عليها والتي تتلخص بـ : ” تحقيق النصر والذي يعني بناء وترسيخ الديمقراطية وهزيمة الإرهابيين وهو الشرط الأساسي الذي يتعين إنجازه حتى يتسنى للقوات الأمريكية الإنسحاب من العراق مرفوعة الرئيس على حد تعبير الرئيس الأمريكي” ولإدراكه بما أثاره تصريحه و اتخاذه قراراته الاستراتيجية الجديدة في العاشر من يناير من امتعاض وردات فعل عنيفة لدى الرأي العام الأمريكي وفي الكونغرس ، دعا الرئيس بوش الشعب الأمريكي لدعم سياسته في العراق وبلا تردد أو تعثر أو تصدع لأن من شأن ذلك أن يعرض الأمن القومي الأمريكي للخطر على حد ادعاء جورج بوش.ولكي يقنع الرأي العام المعارض للحرب رسم الرئيس الأمريكي لوحة سوداوية خطيرة وكارثية لما ستكون عليه العواقب والنتائج والتداعيات لأي انسحاب أمريكي متعجل ومتسارع سابق لأوانه من قبيل احتدام وتفاقم المواجهات المسلحة والدموية بين الشيعة والسنة وتصاعد حدة العنف إلى مستويات لم يسبق لها مثيل وتزايد تأثير المتطرفين الشيعة والسنة ممن تدعمهم إيران حيث سيزداد نفوذ الميليشيات العنيفة التي ستفرض نمطاً من الحياة والنظام أشبه بنظام طالبان أو أسوء منه . وخلال هذا الخطاب برزت نبرة إتهامية مشحوذة ومهددة تجاه الإيرانيين الذين أدانهم وقدمهم جورج بوش باعتبارهم الخطر الرئيسي. وربط جورج بوش بين الوضع الإقليمي المتفجر وجهود إيران للتزود بالسلاح النووي المحظور دولياً ومواصلة برنامجها النووي وتخصيب اليورانيوم بمعدلات ومستويات صناعية متقدمة ستقود حتماً إلى صنع القنبلة النووية في أقرب وقت أي سيتحول البرنامج الحالي لامحالة إلى غايات عسكرية خطيرة كما أشار في خطابه. ونوه الرئيس إلى نوايا إيران الخطيرة في إزالة إسرائيل من الخارطة والتنسيق مع حزب الله اللبناني الذي يعتبره الرئيس بوش منظمة إرهابية وأخيراً السلوكيات والمناورات الإيرانية داخل العراق حيث باتت إيران تتحكم عمليات بمعظم مدن محافظات الجنوب لاسيما البصرة فضلاً عن نفوذها التقليدي في المدن العراقية المقدسة كالنجف وكربلاء بالتعاون والتنسيق مع العناصر الشيعية المتطرفة والمسلحة . وهكذا سيعثر العراق بالمنظور الأمريكي على بعده الحقيقي ويدرك الأبعاد الحقيقية لمشاكله عبر الإشارة إلى التهديدات الإيرانية فإدانة وفضح إيران والتنديد بتدخلاتها في العراق هو المفتاح لفهم الرؤية الأمريكية التي صاغها جورج بوش ووسمت تحليلاته بشأن الأزمة القائمة اليوم في العراق.
سياسة عكس التيار
كانت التصريحات والتأكيدات على الثوابت والخط السياسي الذي لا ينوي البيت الأبيض أن يحيد عنه، هي في مركز بديهيات وأفق تفكير الرئيس بوش لكنها أثارت استغراب المراقبين ووسائل الإعلام ومراكز البحوث . فقد أعلن جورج بوش توجهه الجديد ـ القديم لجمهور قلق يأكله الشك والخوف من فتنمة جديدة في العراق وهو يترقب ويتقصى عن بارقة أمل أو بقعة ضوء في النفق العراقي الذي دخلت فيه القوات الأمريكية ، خاصة وأن مثل هذه الاستراتيجية جاءت بعد نتائج كارثية في الانتخابات التشريعية النصفية التي تمحورت حول المسألة العراقية وأوصل الناخبون من خلالها رسالتهم المعارضة والممتعضة من تلك الحرب العبثية والتي أدت إلى هزيمة حزب الرئيس ووصول أغلبية ديمقراطية إلى الكونغرس بمجلسيه النواب والشيوخ وبذلك يمكننا القول أن قرارات جورج بوش فاجأت الوسط السياسي بقدر ما أحدثته من صدمة لدى الرأي العام الأمريكي.
فمنذ شهور والرأي العام ومعه جزء كبير من الطبقة السياسية الأمريكية من جمهوريين وديموقراطيين وليبراليين وغيرهم، يعربون عن قلقهم ويبدون بوضوح مخاوفهم من تطورات الأمور في العراق باتجاه التصعيد وفق مبدأ تدحرج كرة الثلج التي تكبر كلما تقدمت في دورانها . والجميع يرى بقلق وخشية متصاعدة تزايد الخسائر البشرية في صفوف العسكريين والمدنيين الأمريكيين العاملين في العراق وستصل الخسائر بعد أيام إلى أكثر من 4000 قتيل وعشرات الآلاف من الجرحى والمعوقين مدى الحياة وهذه هي الحقيقة التي يخفيها القادة الأمريكيون والسلطات العسكرية عن أهالي الجنود، كما يلاحظ الرأي العام الأمريكي ومعه الرأي العام العالمي بأسى مسلسل التفجيرات اليومي والمكائد والأفخاخ والعبوات الناسفة والعمليات الانتحارية والسيارات المفخخة التي تنفجر في الشوارع وكراجات السيارات والأسواق الشعبية المزدحمة بالسكان والقذائف التي تتساقط بصورة عمياء على أهداف مدنية وعمليات القتل والذبح والخطف والتعذيب بين الطوائف التي لاتنقطع في مختلف أنحاء العراق مع ماترتب على ذلك من هجرة جماعية لأكثر من أربعة ملايين عراقي ثلثهم هجر داخل العراق من أماكن عمله وسكنه والثلثين الآخرين هاجر على عجل إلى بلدان الجوار العراقي ويعانون الأمرين من بطالة وافتقاد لمصادر العيش والدخل والتعليم والطبابة حيث يعيشون في ظروف مأساوية ومتعبة بالغة القسوة. ويشاهد الجميع تنامي سلطات الميليشيات المسلحة التي باتت تسيطر على الشارع العراقي ولايعرف أحد من الذي يسيطر عليها ولحساب من تعمل وكيف تسلح وتمول وترفد فرق الموت بالعناصر والسلاح والمعلومات الاستخباراتية لتحصد أرواح أبناء الشعب العزل ، حيث من البديهي أن دول وقوى ومخابرات دولية وإقليمية تساهم في تأليب هذا الواقع الدامي وتعمل على استغلال هذا الظرف الاستثنائي الشاذ الذي يمر فيه العراق لتأجيج نار الفتنة والانقسام المذهبي والعرقي والطائفي والديني بين مكونات الشعب العراق ويقف على رأس هؤلاء الموساد المخابرات الإسرائيلية والسي آي أ المخابرات الأمريكية وإيران ومخابراتها وسورية والسعودية والكويت ودولة الإمارات المتحدة وتركيا والأردن ومصر، فلكل هؤلاء يد في ما يحدث في العراق من دمار وقتل ودماء تهدر يومياً. ويلاحظ الجميع عجز الحكومة أمام هذا الشلال من العنف الأعمى والإرهاب وانتعاش الجريمة المنظمة وقطاع الطرق واللصوص والمجرمين وعصابات المافيا وقبل كل ذلك انتشار وباء الإرهاب كالسرطان الذي يدب في خلايا المجتمع العراقي ويقضم نسيج الدولة العراقية عبر جماعات إرهابية تكفيرية مرتبطة بتنظيم القاعدة الإرهابي الدولي تساندها وتدعمها وتحتضنها فلول البعث الصدامي التي اختفت تحت الأرض بأموال العراق وأسلحة الجيش والنظام السابق لتنشر الفوضى والدمار والخراب وتحقيق سياسة الأرض المحروقة تنفيذا لوصية المقبور صدام حسين عندما قال ستتسلمون العراق بعدي أرضاً بلا بشر، وتحقيقاً لمقولة مابعدي الطوفان التي أطلقها صدام حسين قبل سقوطه المهين.
إلى جانب ذلك شعر بعض السنة العرب من العراقيين الذين كانوا مستفيدين من سلطة البعث ونظام صدام أنهم خسروا كل شيء وتم تهميشهم وباتوا مطاردين ومنبوذين أو استبعدوا عن مفاصل السلطة إثر انتخابات ديسمبر 2005 فرفعوا السلاح بوجه السلطة القائمة الناجمة عن الانتخابات بحجة محاربة الاحتلال وأطلقوا على أنفسهم قوات المقاومة والتحرير بمختلف تسمياتها وتشعباتها . كما شهد العالم ومايزال تزايد الاحتقان الطائفي والمذهبي والديني لاسيما بين أوساط النخبة المسيسة وتنامي ظاهرة التطهير الاثني والعرقي والمذهبي في الكثير من أحياء العاصمة بغداد ومحافظات أخرى مثل كركوك وديالى .وقد لمس الرأي العام العالمي والأمريكي بنوع من الغموض والتوجس أن مايحدث في العراق ليس سوى حرب أهلية ـ طائفية كانت الإدارة الأمريكية تلوح بها لتخويف الآخرين ولتبرير الوجود العسكري الأمريكي المحتل لأرض العراق بحجة منع وقوع مثل هذه الحرب الأهلية بينما في واقع الأمر الحرب الأهلية تدور رحاها منذ سنوات بالرغم من وجود 160000 جندى أمريكي على الأرض وفهم الناس في كل مكان أن المعادلة التي سوقتها الإدارة الأمريكية والتي تقول :” إما الوجود الأمريكي أو الفوضى العارمة” ليست دقيقة لأن الواقع يقول أن الإثنين متواجدين معاً الاحتلال العسكري الأمريكي والفوضى الشاملة والدمار حيث لم يستطع هذا الوجود العسكري أن يفعله إزاءه شيئاً يذكر.
القادة العسكريون الميدانيون الأمريكيون لايخفون مخاوفهم حيال تطور الوضع سلباً على الأرض . وفي مناسبات عديد، اعترف جنرالات مسؤولين عن العمليات العسكرية في العراق أمام لجان مختصة في الكونغرس الأمريكي، وتحدثوا بصراحة لامتناهية عن واقع ما يحدث ولم يخفوا قلقهم وانشغالهم وهمومهم ولم يموهوا خطورة الموقف ونجم عن كل ذلك عدد من لجان التحقيق قام بها سناتورات وعدد من التقارير وشهادات الخبراء وتقارير من مختلف المخابرات وعدد من الكتب والمؤلفات والتقارير الصحافية والخبراء بالشؤون العسكرية خرجت للعلن خلال عام 2006 لترسم لوحة بانورامية كاملة تفضح وتكشف العديد من الأخطاء المميتة التي ارتكبتها وزارة الدفاع الأمريكية ” البنتاغون” المسؤولة عن إدارة الملف العراقي ، ليس فقط في مجال عدم التحضير والاستعداد الجدي لمرحلة مابعد الحرب وفترة الاحتلال العسكري التي أعقبت الحملة العسكرية والغزو والنصر الظاهري السريع في ربيع 2003 ، فحسب ، بل وأيضاً في طرق وأساليب قيادة العمليات العسكرية لحفظ الأمن والنظام وعمليات التنظيف لبؤر النظام السابق في أعقاب إطاحة صدام حسين وأركان حكمه . حالات الاستياء والامتعاض وعدم الرضا انصبت ليس فقط فوق رؤوس العسكريين بل وكذلك على المسؤولين المدنيين في وزارة الدفاع في البنتاغون وعلى رأسهم وزير الدفاع السابق دونالد رامسفيلد ، الذي تحول في الآونة الأخيرة قبل إقالته إلى كبش فداء أو شماعة تعلق عليها كافة الأخطاء والخطايا وقد ساهم هو نفسه بتقديم هذه الصورة السوداوية عن شخصيته من خلال تصريحاته في وسائل الإعلام ولهجته المتعالية والمتعجرفة والتحقيرية حتى حيال حلفاء كبار في أوروبا للولايات المتحدة الأمريكية مما أفقده الكثير من مصداقيته وألقى الكثير من الشك على مشروعه العسكري برمته .
لم يكن أمراً مثيراً للدهشة، وفي مثل هذه الظروف القاسية التي سببتها الحرب العدوانية على العراق ، أن تظهر استطلاعات الرأي بأن الأمريكيين ، الذين كانوا في البداية متحمسين ومؤيدين للحرب على نظام صدام حسين الاستبدادي المكروه، قد غيروا مواقفهم وانقلبوا على قادتهم . فالحماس وتأجج النزعة الوطنية في سنة 2003 ، والتي تشكلت في أعقاب أحداث 11 أيلول 2001 وتعبئة الشعب الأمريكي برمته ضد الإرهاب الدولي، تحول إلى موجة من الاستياء والضجر والتشاؤوم ، ورغبة عارمة في رؤية هذا المشروع العسكري العداوني ينتهي بسحب القوات الأمريكية من ساحة الحرب وعودة الشباب الأمريكي إلى بلدهم . فكانت مشاعر معاداة الحرب هي السائدة والطاغية لدى الناخب الأمريكي عشية الانتخابات النسبية، وكان شبح فيتنام يحوم فوق الرؤوس والذاكرة الجمعية الأمريكية. وقد حسم الناخب الأمريكي موقفه في 7 نوفمبر 2006 بخصوص المشكلة العراقية التي ينبغي إيجاد حل لها وبأسرع وقتن ومعارضة سلوك الرئيس وإدارته لهذا الملف الشائك.
من النادر أن تتخذ الانتخابات الأمريكية من موضوع السياسة الخارجية محوراً لها ولم يحدث مثل هذا الأمر في الولايات المتحدة منذ حرب فيتنام وما أحدثته من هزة أو صدمة نفسية ومعنوية لدى الشعب الأمريكي والرأي العام العالمي. فإلحاح الرئيس الأمريكي على ضرورة الحرب والاستمرار بها لاسيما الحرب على الإرهاب ومتطلبات الأمن القومي للولايات المتحدة الأمريكية وحماية مصالحها الحيوية في كافة بقاع العالم كان مقنعاً في البداية ولكنه لم يعد يقنع أحد في نهاية الولاية الثانية للرئيس بوش. منح الناخبون الأغلبية للحزب الديموقراطي في مجلسيه بمعدل 232 مقعد للديموقراطيين مقابل 203 للجمهوريين في مجلس النواب و 51 مقعداً للديموقراطيين مقابل 49 للجمهوريين في مجلس الشيوخ وهي نتيجة كانت الإدارة الأمريكية التي فقدت شعبيتها ، تتوقعها بشكل مؤكد لكنها كانت تأمل على الأقل الاحتفاظ بأغلبية طفيفة في مجلس الشيوخ بيد أن هناك عوامل أخرى إضافية دخلت في الحسبان كقضايا الفساد والرشوة الكبيرة التي طالت شخصيات عليا وقادة جمهوريين كبار في الكونغرس، ومع ذلك فإن 73% من الناخبين أعلنوا غداة الاقتراع بأن العراق كان السبب الرئيسي وراء تصويتهم لصالح الديموقراطيين على حساب الجمهوريين.
رفض الناخبون خط الرئيس بوش وسياسته العراقية وأسلوبه في العمل والقيادة وتقاعس أغلبيته الجمهورية، وهذا هو فحوى ورسالة نتائج الانتخابات النصفية والدرس القاسي الذي كان على جورج بوش أن يتعض به ويتعلم منه. أوصل الناخبون صوتهم للرئيس بشكل مباشر وتمنوا على الإدارة تغيير مسار وجهتها حيال المسألة العراقية ولكن وللأسف لم تنصت إدارة بوش المحافظة لتلك الأصوات واستمرت في غيها دون أن تكترث لمعاناة ومآسي الشعب العراقي والثمن الباهظ الذي يدفعه يومياً من دمه بسبب تلك السياسة الرعناء التي يتبعها بوش وأركان إدارته .
كان نائب الرئيس الأمريكي المحافظ والمتشدد جداً ديك شيني قد أعلن قبل يومين من نتائج الانتخابات النصفية ، بأنه مهما كانت نتائج صناديق الاقتراع فإن الإدارة سوف تحافظ على توجهها وخط سيرها مما كشف عن الطبيعة المتعنتة لهذه الإدارة حتى مع استقالة أحد صقورها وهو دونالد رامسفيلد.التي فسرها البعض عن خطأ بأنها إشارة من الإدارة الأمريكية إلى أنها فهمت الرسالة التي أرسلها الناخب الأمريكي وسوف تأخذ بالاعتبار مطالبه والدليل هو إقالة رامسفيلد أو إرغامه على الاستقالة. وإذعان جورج بوش لمطلب عدم تقديم أو ترشيح إسم جون بولتون المحافظ المتطرف جداً للحصول على موافقة الكونغرس لتثبيته في منصبه كممثل دائم للولايات المتحدة الأمريكية في الأمم المتحدة ومجلس الأمن وتعيين سفير أمريكا السابق في العراق زلماي خليل زاده في هذا الموقع الحساس وكذلك تعيينه في منصب وزير الدفاع شخصية معتدلة مقارنة بالوزير السابق وهو روبرت غيتس مدير الاستخبارات السابق والقريب من أصدقاء جورج بوش الأب كجيمس بيكر وسكوكروفت وهو الذي أعرب عن تحفظه حيال غزو العراق ، وتعيين وولفوفيتز نائب وزير الدفاع السابق كمدير للبنك الدولي قبل إقالته إثر فضيحة منح امتيازات وترقية لعشيقته في البنك . وبإزاحة رموز التشدد من صقور البنتاغون والبيت الأبيض توقع بعض المراقبين أن هناك تحولاً جوهرياً سيطرأ على سياسة الرئيس بشأن العراق. وبغض النظر عن نتائج الانتخابات، توفر مناخ ملائم لإحداث مثل هذا التغيير أو التحول المرتجى أو المأمول خاصة على أثر خروج نتائج عمل اللجنة الثنائية التي أمضت تسعة أشهر في التحقيق والتنقيب والاستجواب والتحليل والمقارنة من أجل إعداد صيغة نظرية استشارية لاستراتيجية جديدة من شأنها إخراج أمريكا من ورطتها في العراق ومساعدة العراقيين للخروج من المأزق والردب الذي وصلت إليه المسألة العراقية وهي اللجنة الشهيرة المعروفة بلجنة بيكر ـ هاملتون والمكونة من عشرة أعضاء خمسة من الحزب الجمهوري وخمسة من الحزب الديموقراطي برئاسة جيمس بيكر الجمهوري ولي هاملتون الديموقراطي وكل الشخصيات في هذه اللجنة يتمتعون بمصداقية واحترام كبيرين لاسيما رئيسيها وزير الخارجية الأسبق والنائب الديموقراطي السابق في الكونغرس ومعهم جمع من الخبراء . بحثوا بعمق وبجهد كبير عن طرق مقاربة متنوعة ومتباينة بغية تقديم المشورة ومساعدة الرئيس في إعداد استراتيجية جديدة ناجعة للمعضلة العراقية. وقد قرر أعضاء اللجنة ورئيسها عدم نشر نتائج تحقيقاتهم واستنتاجاتهم إلا بعد ظهور نتائج الانتخابات النصفية التشريعية لكي لا يؤثروا على توجهات وخيارات الناخبين. وفي 6 ديسمبر 2006. ومن ثم نشرت مجموعة دراسة العراق المعروفة بلجنة بيكر ـ هاملتون تقريرها المنتظر النهائي الذي تجاوز عدد صفحاته المائة مع 79 توصية الغاية منها التأسيس لمقاربة جديدة للمشكلة العراقية. يبدأ التقرير بتشخيص قاسي وشديد اللهجة للوضع في العراق الذي وصفه التقرير بالباعث على الإحباط بسبب تصاعد وتعميم العنف ذو المصادر والمنابع المتعددة كالتمرد السني المسلح، ونشاط الميليشيات المسلحة، وإرهاب القاعدة والحركات التكفيرية، وازدهار عمليات العصابات الإجرامية وجماعات المافيا المحلية. وعجز الحكومة العراقية في نشر وفرض سياسة وحدة وطنية حقيقية وتحقيق مصالحة وطنية واسعة و تهميش الجماعات السنية المسيٌسة وتجاوزات حملة إجتثاث البعث وانتهاكها لمباديء حقوق الإنسان واعتماد الحكومة الكبير على التيار الصدري الشيعي بقيادة رجل الدين الشاب مقتدى الصدر وميليشياه غير المنضبطة المعروفة باسم جيش المهدي. لم يكن التقرير مرناً ومتساهلاً تجاه السلطات الأمريكية في العراق أي سلطة الاحتلال حيث كشف التقرير عن الكثير من التجاوزات والقصور. فعلى سبيل المثال ذكر التقرير أن من بين الـ 1000 موظف في السفارة الأمريكية في بغداد لايوجد سوى 33 مستعرب أو متحدث بالعربية 6 منهم فقط يتقن الحديث بهذه اللغة .
ومن ثم قدمت لجنة بيكر ـ هاملتون توصياتها التي تتركز حول ثلاث محاور أساسية.
على الصعيد السياسي أولاً، اقترحت اللجنة أن تشدد واشنطن لهجتها تجاه الحكومة العراقية في بغداد وتملي عليها أو تفرض عليها جملة من الأهداف الواضحة التي ينبغي عليها إنجازها ضمن نطاق زمني محدد والتي عرفت بلائحة الـ 18 شرطاً أو مهمة ينبغي على الحكومة تحقيقها مثل تنظيم انتخابات محلية أو بلدية والبدء بتنفيذ سياسة فيدرالية حقيقية ولامركزية في الإدارة واتخاذ مبادرات ملموسة لتحقيق مصالحة وطنية حقيقية مقبولة من قبل الجميع وإقرار قانون النفط الجديد وتقاسم الثروات وتعديل قانون إجتثاث البعث أو إلغائه وإفهام حكومة بغداد أنه في حالة عدم تنفيذها لتلك المطالب فإن الولايات المتحدة ستخفض دعمها وتأييدها السياسي والعسكري والاقتصادي لبغداد. وعلى الصعيد العسكري أشارت اللجنة في تقريرها ليس إلى تعزيز القوات الأمريكية العاملة في العراق بل على العكس أوصت بنقل مسؤولية قيادة العمليات العسكرية وعلى نحو تدريجي ابتداءاً من ربيع عام 2007 إلى القوات العراقية على تنتهي عملية نقل المسؤولية في نهاية العام. ولو نجحت هذه العملية فإنها سوف تتيح فرصة البدء بسحب القوات الأمريكية تدريجياً من العراق إبتداءاً من الفصل الأول من العام 2008 أو على الأقل سحب القسم الأكبر من تلك القوات وترك ما بين 10000 إلى 20000 رجل بصفة مستشارين تقنيين أو مدربين، مع بضعة وحدات مقاتلة صغيرة للتدخل السريع . القسم الأكبر من القوات يسحب أو يجري تجميعه في مناطق محيطة بالعراق في قواعد أمريكية آمنة في الكويت والبحرين وقطر إلى جانب القوات البحرية المنتشرة في عرض الخليج العربي ـ الفارسي . وعلى الصعيد الدبلوماسي، دعت اللجنة إلى إجراء سلسلة من المبادرات التكميلية غايتها تهيئة الظروف والأجواء لمقاربة إقليمية حقيقية للمشكلة العراقية من قبيل إحداث انفتاح حقيقي وبلا شروط مسبقة نحو دول المنطقة المناوئة للوجود الأمريكي في العراق وفتح حوار سياسي بناء مع إيران وسورية . وتفعيل صارم وجاد لعملية السلام الشرق أوسطية لاسيما بين إسرائيل والعالم العربي من أجل التوصل سريعاً إلى إنشاء دولة فلسطينية قابلة للحياة والاستمرار، وتحقيق سلام مع تطبيع حقيقيين بين دمشق وتل أبيب مبني على إرجاع الجولان المحتلة لسوريا ويكون الضامن لهذه الخطوات والإطار التنظيمي لها هو تأسيس مجموعة دعم العراق الدولية على مستوى وزراء الخارجية مؤلفة من العراق وكافة دول الجوار العراقي إضافة إلى القوى الإقليمية المؤثرة كمصر وتركيا والعربية السعودية إلى جانب الاتحاد الأوروبي والأعضاء الدائمين في مجلس الأمن الدولي .
استقبل الرأي العام العالمي والأمريكي بإيجابية تقرير بيكر ـ هاملتون في حين تلقته الإدارة الأمريكية ببرود واضح ووصفته بأنه مجرد مساهمة جديرة بالتأمل وسرعان ما تحرك جورج بوش في جهد مناقض للتقرير المذكور وقرر الاستماع إلى عدد كبير من الناس والآراء ومراكز البحوث والخبراء قبل أن يعلن استراتيجيته الجديدة المغايرة تماماً لما ورد في تقرير لجنة بيكر ـ هاملتون بعد مشاورات استغرقت آخر أسبوعين من شهر نوفمبر وكل شهر ديسمبر لسنة 2006 . كما التقى الرئيس بوش قبل نشر نتائج التقرير برئيس الوزراء العراقي نوري المالكي والملك عبد الله الثاني في عمان واستقبل في واشنطن في الرابع من ديسمبر السيد عبد العزيز الحكيم رئيس المجلس الأعلى الإسلامي ورئيس الإئتلاف العراقي الموحد والمقرب من إيران وذو الخصومة التاريخية مع مقتدى الصدر الوريث السياسي للمرجع المغدور محمد صادق الصدر وزعيم التيار الصدري الأقوى في أوساط الشيعة العراقيين . حصلت عدة تسريبات وسط هذا التخمر السياسي والمناخ المتوتر لتكشف عن النوايا والتقديرات الحقيقية غير المعلنة للإدارة الأمريكية إزاء الحكومة العراقية والعملية السياسية في العراق برمتها والتي فضحها الحاكم المدني الأمريكي في العراق بول بريمر في كتابه المشهور” عامي في العراق” ، حيث نشرت محتويات مذكرة سرية صادرة عن مستشار الأمن القومي الأمريكي ستيفن هادلي ورد فيها أن إدارة بوش فقدت ثقتها بحكومة السيد نوري المالكي . والأدهى من ذلك والمثيرة للحيرة ما نشرته صحيفة النيويورك تايمز وكان عبارة عن مذكرة بدت وكأنها وصية سياسية موجهة للرئيس جورج بوش من دونالد رامسفيلد قبل يومين من تقديمه استقالته معترفاً بها بفشل الاستراتيجية التي اتبعها في العراق وأوصى باتباع عدة خيارات تدور كلها حول شكل من أشكال سحب القوات الأمريكية من العراق. وفي فترة أعياد نويل ورأس السنة الميلادية ضاعف الرئيس بوش مشاوراته مع القادة العسكريين والميدانيين جمع بصورة غير رسمية في مزرعته في كراوفورد مايشبه وزارة الحرب المصغرة أو خلية أزمة والدافع هو إيجاد المخرج الملائم للرد على مقترحات لجنة بيكر ـ هاملتون والبحث عن طريق مغايرة تحقق مآربه وتضمن له النصر في العراق.
الرئيس الأمريكي يسبح ضد التيار:
جورج بوش يصارع التيار ويسير عكس اتجاه الريح. بهذا الوصف تلقت وسائل الإعلام الغربية والأمريكية بصفة خاصة إعلان الرئيس الأمريكي لاستراتيجيته الجديدة في العراق . من السهل رؤية ، أن ما ورد في إعلان العاشر من يناير 2007 يجري بالاتجاه المعاكس لما أوصت به لجنة بيكر ـ هاملتون. النقطة الوحيدة التي استوحاها جورج بوش من محتوى التقرير هو فرض أجندة وتواريخ ومطالب وإملاءات وأهداف عملية يتعين على حكومة بغداد تحقيقها وعلى عجل مرفقة بتهديد صريح أحياناً ومبطن أحياناً أخرى بسحب الدعم الأمريكي ، في حين رفضت تلك الأجندة أو تجاهلت روحية التقرير وفحواه الحقيقي. فالرئيس الأمريكي لايطيق سماع نغمة جدولة الانسحاب للقوات الأمريكية من العراق بل على العكس قرر زيادة عدد القوات وتوسيع نطاق عملياتها داخل العراق لفترة زمنية لم تحدد بعد. وهي صيغة تهدف إلى فرض الأمن والنظام في بغداد والمناطق الساخنة والمتمردة أو المضطربة بدلا من التحلل من الالتزامات تدريجياً وترك العراق في حالة يرثى لها. أما بخصوص التوصيات الدبلوماسية للجنة بيكر ـ هاملتون بشأن فتح الحوار المباشر مع طهران ودمشق، فهي ، ليس فقط تعرضت للرفض من قبل إدارة بوش فحسب، بل عملت الإدارة بالضد منها تماماً حيث شددت من لهجتها وازدادت تصلباً إلى حد توجيه التهم والتهديدات والإنذارات تجاه العاصمتين المارقتين على حد تعبير صقور الإدارة الأمريكية.أما بشأن إعادة إطلاق مبادرات السلام العربية الإسرائيلية فلم تتلق صدى مقبول بل مجرد محاولات لذر الرماد في العيون وإرسال وزيرة الخارجية كونداليزا رايس في رحلات مكوكية لاتقدم ولا تؤخر للمنطقة ما عدا تحرك العرب الجدي لتفعيل مبادرة الملك عبد الله التي أقرت في القمة العربية ومحاولات التطبيع مع الدولة العبرية على خلفية حرب أهلية دامية في الأراضي الفلسطينية المحتلة بين فتح وحماس بعد الانقلاب العسكري الذي قامت به منظمة حماس للسيطرة على غزة وإعلان سيطرتها وسلطتها المطلقة عليها .
لكل مرحلة رجالها. هذا هو المبدأ العسكري الذي اتبعه جورج بوش حيث أرفق إطلاق استراتيجيته الجديدة بتبديل طاقمه الميداني فاستبدل الجنرال كيسي قائد القوات الأمريكية السابق في العراق بالجنرال بيترايوس واستبدل الجنرال جون أبو زيد قائدة القيادة العسكرية العليا للقوات الأمريكية في الشرق الأوسط وجنوب غرب آسيا ومقرها في قطر بأميرال ، واستبدل السفير الأمريكي في بغداد زلماي خليل زادة بالسفير رايان كروكر ونقل زاده إلى الأمم المتحدة بديلاً عن جون بولتون وعين هذا الأخير مساعداً لوزيرة الخارجية وطلب من الفريق الجديد تحقيق ما يصر عليه الرئيس بوش والتميز عن طريقة العمل في الماضي وابتداع وسائل جديدة لتحقيق النصر هذه المرة وبأي ثمن .
فإما النجاح أو الكارثة التي ستحدث لامحالة كما تصورها جو بايدن صاحب مقترح تقسيم العراق على غرار حل البوسنة حيث يرى بايدن أنه المقترح العملي الوحيد الناجع للتعامل مع المأزق العراقي حيث يأخذه عدد من السياسيين والمحللين والمسؤولين في الكونغرس وفي الإدارة الأمريكية على محمل الجد باعتباره أطروحة عملية تستحق التفكير والتأمل كحل أخير. وقد سبق لبايدن ومعه ليزلي غليب الرئيس السابق لمجلس العلاقات الخارجية أن قدما أطروحاتهما بشأن تقسيم العراق إلى ثلاث دويلات ضعيفة ومتعاونة ومكملة بعضها للبعض الآخر وتتمتع بقدر كبير من الاستقلالية في إدارة شؤونها الداخلية ونشرت صحيفة نيويورك تايمز مقتطفات واسعة من تقريرهما قبل أكثر من عام من الآن وبالتحديد في الأول من آيار 2006 .
إن فكرة اللجوء إلى زيادة عديد القوات طرحت قبل شهور عديدة داخل أوساط المحافظين الجدد كأحد ثلاث خيارات ممكنة حسب صيغة تدعيم الوجود العسكري وزيادة عديد والبقاء أطول فكرة ممكنة أو الخروج كلياً. وقد اقترحها عدد من الجنرالات المتقاعدين العاملين داخل مراكز البحوث والدراسات المحافظة مثل أمريكان انتربرايز انستيتيوت . لكنها لاتحظى برضى وقبول الناخب الأمريكي أولا تتلائم مع مزاجيته الحالية لذلك لم يتبناها أي من المرشحين للرئاسة القادمة عدا بطل فيتنام السابق والمرشح الحالي عن الحزب الجمهوري السيناتور جون ماك كين . فيما عدا ذلك تطغى الحيرة والاضطراب في صفوف الجمهوريين خاصة بعد التصريحات الرئاسية بمواصلة نفس النهج وتعزيز القوات وزيادة عديدها وعدم تحديد سقف زمني لخروجها من العراق. وقد كشفت الاستجوابات أمام لجنة الشؤون الخارجية ولجنة الشؤون العسكرية والدفاع في الكونغرس لوزيرة الخارجية كونداليزا رايس ووزبر الدفاع الحالي روبرت غيتس عن قلق وامتعاض عدد من النواب والشيوخ الجمهوريين مثل السيناتور هاجيل والسيناتور لوغار ، وسنحت فرصة لإثارة نقاشات حادة ومحرجة داخل المعسكر الديموقراطي وأثارت التصريحات الرئاسية موجة اعتراضات عاتية حتى لدى الذين كانوا مؤيدين للحرب على العراق في خريف عام 2002 . وأثيرت عاصفة احتجاجات حقيقية تحت قبة الكابيتول في أول اجتماع للكونغرس الجديد بعد الانتخابات النصفية ذو الأغلبية الديمقراطية غداة خطاب حالة الاتحاد الذي ألقاه الرئيس جورج بوش وتم تنظيم صفوف المعارضين لرؤية الرئيس داخل الكونغرس لإعلان عدم تضامنهم وعدم تأييدهم بل ومعارضتهم لاستراتيجية جورج بوش في العراق ونجحوا في التصويت على قرار غير ملزم في السابع من شباط 2007 بنسبة 246 بالضد مقابل 182 مع القرار في مجلس النواب يدين السياسة العراقية للرئيس بوش وفي مجلس الشيوخ وبمبادرة من لجنة الشؤون الخارجية ولجنة القوات المسلحة تم التصويت على قرار مشابه وباقتراح من السيناتور الجمهوري جون وارنر وحاز القرار على 56 صوت مع من بينهم أصوات سيناتورات جمهوريين مقابل 34 ضد .وبالرغم من افتقاد تلك القرارات للتأثير العملي الملموس فإنها تكتسي أهمية سياسية بالغة فهي تكشف عن التنكر العلني لسياسة الرئيس لدى الديموقراطيين والتذمر لدى جزء لايستهان به من الجمهوريين ويعلن ما يشبه حرب المواقع بين الأغلبية الديموقراطية والبيت الأبيض مما اضطر الرئيس بوش إلى استخدام حق النقض الفيتو لوقف الضغط الديمقراطي وابتزاز الرئيس بحجب الأموال اللازمة لمشروعه العسكري في العراق أثناء التصوبت على الميزانية العسكرية للعام القادم.
الأزمة والمواجهة ولوي الذراع بين الطرفين مرشحة للتفاقم في الأشهر القادمة خاصة إذا فشل جورج بوش في تحقيق تقدم حقيقي على الأرض في العراق في الجانب الأمني والسياسي والاقتصادي من هنا نتفهم إصراره وضغطه الشديدين على حكومة المالكي للتصويت والتصديق على قانون النفط الجديد في العراق وبرنامج الإصلاح السياسي وتوسيع نطاق المشاركة الوطنية والمصالحة الوطنية بين مختلف الفعاليات السياسية العراقية وتحقيق نجاحات وانتصارات ضد الإرهابيين وتوفير الأمن والاستقرار في الشارع العراقي فالمعارضون الأشد صرامة لسياسة الرئيس بوش في العراق سيلجأون إلى التحديدات والإجراءات التقييدية من ناحية التمويل والتصديق على الميزانية الحربية للرئيس . ومع ذلك هناك بعض الصعوبات التي تواجه الديموقراطيين في هذا المجال مهما كانت نتائج الخطة الأمنية في بغداد والمحافظات ومهما كانت نتائج مواقف الأطراف المختلفة من قانون النفط الجديد. فالديموقراطيون على أبواب انتخابات رئاسية وعليهم احترام المعايير والمقاييس والإجراءات الدستورية التي تمنح الرئيس باعتباره القائد العام للقوات المسلحة حق شن الحرب وتوفير التمويل اللازم لها وعليهم الأخذ في الاعتبار الظرف السياسي العام في البلاد وأجواء الانتخابات ومزاجيات الشارع ومطالب الناخب الأمريكي فلايمكنهم المخاطرة بان يبدون في نظر المواطنين بصورة المتهمين بأنهم السبب في إفشال الخطة العسكرية وسلبها فرص النجاح الممكنة أو المفترضة وتقويض العمليات العسكرية ولا تعريض الشباب في الجبهات للحاجة والعوز وتعريضهم للخطر بقطع التمويل عنهم وهم في خضم العمليات القتالية. وبذلك يكون الرئيس مازال يمسك بيده ببعض الأوراق لكبح جموح المتمردين عليه والمناوئين لخطته أو المعارضين لاستراتيجيته وبالتالي فإن نتيجة المناورات السياسية الجارية حالياً غير مؤكدة أو محسومة.
الشرق الأوسط مسرح التحديات والمخاطر:
اللوحة الشرق أوسطية قاتمة، وهناك أفق ملبد بالمخاطر والتهديدات ينتظر العراق والمنطقة برمتها كما توقع محمد المسفر أستاذ العوم السياسية في جامعة قطر وأحد أقطاب وقيادي التيار القومي العربي وأهم المدافعين عن سياسات الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين لاسيما بعد إعدامه حيث عده المسفر من شهداء الأمة . فاللوحة التي يرسمها هذا المراقب السياسي للمشهد العربي والشرق أوسطي للمنطقة سوداء معتمة ولا أمل ينتظر من إمكانية خلق أو إنشاء دولة فلسطينية مستقلة قابلة للحياة إلى جانب الدولة العبرية خاصة بعد أن قوضت جهود المملكة العربية السعودية في خلق الوحدة والوئام بين الفصائل الفلسطينية المتناحرة فيما بينها بقوة السلاح خاصة بين فتح وحركة حماس وبالذات بعد أن قامت حماس بعمليتها الاتقلابية في غزة ضد السلطة الفلسطينية بزعامة محمود عباس وأخضعت القطاع لسيطرتها إثر انقلاب عسكري دموي. ومازالت إسرائيل تحاصر غزة والاتحاد الأوروبي يقنن مساعداته لها خاصة توفير الوقود مما أدى إلى قطع التيار الكهربائي عن القطاع لنفاذ الوقود . التهديدات الأمريكية تجاه إيران وسورية ماتزال قائمة ولبنان غارق في مأزق سياسي ودستوري قد يتحول في كل لحظة إلى مواجهات مسلحة وربما حرب أهلية جديدة أكثر قسوة ودموية من حروبه الأهلية السابقة التي عرفها لبنان في تاريخه الحديث.
انتظر الجميع بفارغ الصبر تقرير بيتاريوس ـ كروكر الذي قدماه في الثلث الأول من شهر أيلول 2007 حول ما تحقق من نتائج على الأرض في العراق بعد زيادة عديد القوات الأمريكية هناك لتعزيز الخطة الأمنية الجديدة في العاصمة العراقية بغداد وبعض محافظات البلد الساخنة كمحافظة ديالى التي يسيطر عليها الإرهابيون والتكفيريون الإسلامويون وأعلنوا فيها عن دولتهم الإسلامية بعد أن خسروا قاعدة نفوذهم الرئيسية في الأنبار إثر اصطدامهم بالعشائر السنية هناك والتي تجمعت في مؤتمر صحوة عشائر الأنبار ومجلس أنقاذ الأنبار بزعامة الشيخ عبد الستار أبو ريشة الذي سقط قتيلاً في انفجار عبوة ناسفة زرعت بالقرب من بيته إنتقاماً منه لانقلابه على جماعات القاعدة والإرهابيين من بقايا النظام السابق وتغيير تحالفاته وانضمامه للأمريكيين والحكومة العراقية . لقد ضربت القوات الأمريكية والعراقية طوقاً أمنياً حول العاصمة لكنه لم ينجح في صد هجمات الإرهابيين ضد المدنيين ولم يحل دون انفجار السيارات المفخخة ولم يقلل من حجم الخسائر البشرية والمادية الناجمة عن التفجيرات بواسطة السيارات والشاحنات المفخخة والعبوات والأحزمة الناسفة التي يلبسها الإنتحياريون بالرغم من حظر التجوال شبه الدائم المفروض على البلاد والذي بات يشل الحركة الاقتصادية والتجارية والمالية ويعرقل الآلة الإنتاجية للبلاد.
من البديهي القول أنه يستحيل توفير الأمن المطلق لعاصمة مثل بغداد مكتظة بالسكان من كافة الأصول والأجناس والأديان والطوائف والمذاهب حيث يتجاوز عدد سكانها العشرة ملايين أحياناً منهم مليونيين يتكدسون في مدينة الثورة ـ التي كانت تسمى مدينة صدام سابقاً وصارت تحمل إسم مدينة الصدر اليوم ـ الواقعة شمال العاصمة والتي لايتجرأ الجيش العراقي ولا الأمريكي على دخولها أو البقاء فيها لأنها تشكل بؤرة تمرد دائم ضد السلطة المركزية وضد قوات الاحتلال وتسيطر عليها ميليشيات جيش المهدي التابعة للزعيم الشيعي الشاب مقتدى الصدر.
إيقاع العنف يتزايد يومياً قبل فرض الخطة الأمنية وزيادة عدد القوات الأمريكية . فقد أشارت الإحصاءات إلى وقوع أكثر من 200 ضحية يومياً كمعدل وسط يموتون في جميع أنحاء العراق نصفهم في العاصمة بغداد دون أن تسلط عليهم الأضواء أو تذكرهم وسائل الإعلام وكأن لايعدون كونهم أرقام مجردة أو كائنات بلا قيمة ، كما أشارت نفس المصادر إلى حدوث ما بين 60 إلى 80 حادث إرهابي يومياً . ولا أحد يعرف من الذي بوسعه تحريك الميليشيات والعناصر والجماعات المسلحة الشيعية والسنية على السواء ومن الذي بمقدوره تجريدها من أسلحتها التي ترهب بها الشارع العراقي مع انتشار شائعات حول تواطؤ أو تنسيق حدث في وقت ما بين بعض قيادات جيش المهدي وحكومة نوري المالكي وهي شائعات حاكتها وبثتها ونشرتها القوات الأمريكية وتلقفتها منها القوى المعارضة أو المناوئة للسلطة خاصة جبهة التوافق وهيئة علماء المسلمين السنية ، وعشية بدء انسحاب القوات البريطانية من البصرة في جنوب العراق والذي سيكتمل في نهاية العام 2007 ومن المعروف أن هذه المدينة الحيوية والأساسية لاقتصاد العراق بحكم كونها تضم أهم حقول النفط العراقية ، تخضع لسيطرة وهيمن الميليشيات المسلحة والمافيات الإجرامية وعصابات التهريب وأغلبها اخترقت أجهزة الجيش والشرطة ، ونفوذ قوى أجنبية واستخبارات إقليمية مجاورة ساعدت في تعاظم وتفاقم النفوذ الإيراني الواضح والصريح والعلني على هذه المحافظة فكيف والحال هذه يمكن وضع حد للفوضى العارمة والانفلات الأمني الذي يسود البلاد؟
هناك مشاكل أخرى لاتقل خطورة عما سلف ذكره وتهدد وحدة العراق وسلامة أراضيه إذا لم تعالج بحكمة وذكاء وحسن نوايا ووضوح رؤية وصدق وأمانة لأنها مشاكل خطيرة وقنابل موقوتة من بينها التعديلات الدستورية المرتقبة والمرغوبة من جانب بعض الأطراف السياسية المؤثرة ، ومشكلة الفيدرالية وتعريفها وأبعادها وآفاقها من منظور إمكانية تطبيقها عملياً وكأمر واقع في كردستان العراق ومحاولة تعميمها على باقي أقاليم ومحافظات العراق . فالسنة العرب لاينظرون بعين الاطمئنان والارتياح لهذا البند في الدستور ولديهم على هذا الأخير الكثير من المآخذ والاعتراضات وباتوا يشعرون بعد سقوط نظام صدام حسين بالتهميش والإقصاء كأقلية كانت مستأثرة بالحكم ومستفردة بالسلطة والمناصب العليا فيها منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة وهم لايريدون أن يتحولوا إلى نازحين في بلادهم كالفلسطينيين وبالتالي لن يقبلوا بتقسيم العراق ومنحهم الشطر الصحراوي المقفر الذي يفتقد للثروات الطبيعية كالنفط والمياه والمقصود بها المنطقة الغربية المحصورة بين حدود العربية السعودية وسوريا والأردن وجزء ضئيل من المنطقة الوسطى . فالفكرة المتداولة بين بعض الأوساط الأمريكية حول تقسيم العراق إلى ثلاث كيانات ضعيفة ومتناحرة أو متحاربة على الدوام ، وهي شيعستان الحليفة لإيران وكردستان المهددة من قبل إيران وتركيا وسنستان المحاذية والموالية للعالم العربي السني في غالبيته الساحقة ، تثير قلق العراقيين على كافة الصعد وكذلك مخاوف وقلق العرب . فالأنظمة العربية السنية في العالم العربي تخشى من نشوء دويلة شيعية في العراق موالية لإيران ومعتمدة عليها تهدد استقرار الأنظمة العربية عموماً والخليجية على نحو خاص إذ تضم دول الخليج أقليات شيعية تشعر بدورها بالاضطهاد والتهميش والإقصاء ، كما تبدي تركيا وبعض الدول الأوروبية قلقها من هذا السيناريو الكارثي. لذلك تبدو الفيدرالية أو الصيغة الاتحادية الطوعية أفضل السبل والحلول الممكنة التي تحافظ على وحدة وسلامة العراق أرضا وشعباً بكل مكوناته الإثنية والقومية والعرقية والدينية والطائفية وضمان تحقيق الأمن والاستقرار لهذا البلد . بيد أن نجاح هذا الحل منوط بنجاح الخطة الأمنية وإعادة الأمن والاستقرار للعراق، ومرهون بنوع العمل والنشاط السياسي والعسكري الذي تخوضه الحكومة العراقية الحالية وما سيؤول إليه من نتائج، إلا أن تفشي الفساد في مفاصل الدولة وانتشار التقصير واللامبالاة وعدم الكفاءة وانعدام الخبرة لدى العديد من المسؤولين في المواقع العليا وصناع القرار يثير أكثر من علامة استفهام ويعبر عن خشية الجميع من حصول التفكك والانهيار المفاجيء . والأمر الأكثر احتمالاً ، في حالة فشل المساعي الحكومية في إعادة اللحمة للشعب العراقي، هو ظهور نوع من التقسيم الفعلي والقسري كواقع حال تحت غطاء تسوية كونفدرالية مهلهلة ومطاطة بلا جوهر ولا مضمون قابلة للاجتهاد والتأويل في تفسير النصوص التي تحكمها وهو الأمر الذي لن يرضي السنة مما سيدفعهم لتعزيز مقاومتهم المسلحة مستعينين بالدعم والتمويل من العالمين العربي والإسلامي لاسيما الأنظمة السنية فيهما عند ذلك سيتولد مناخ من العداء والصراع الطائفي والمذهبي السني ـ الشيعي الذي سيشجع بدوره الولايات المتحدة الأمريكية على ضرب إيران الشيعية وحلفاؤها في المنطقة دون خوف من إثارة العالم الإسلامي ضدها بل على العكس ستكون متمتعة بدعم وتمويل وتأييد الغالبية السنية في العالمين العربي والإسلامي بحجة كبح طموحات إيران النووية التي تشكل خطراً مباشراً على تلك الأنظمة الموالية لواشنطن.
أمريكا والمعضلة الإيرانية:
لايقتصر الخطر الإيراني على تدخلات إيران السافرة في الشأن العراقي الداخلي فحسب، بل هناك عوامل ومؤثرات إضافية لاتقل خطورة قد تدفع الأمريكيين إلى تجاوز الخطوط التي رسمتها لهم أوضاع منطقة الشرق الأوسط البالغة الخطورة والتعقيد. من تلك العوامل الخطاب الشعبوي والعنصري للرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد ولغة التهديد والوعيد الفارغة التي كانت من سمات الخطاب السياسي لنظام صدام حسين المقبور . فاللغة العدوانية التي يستخدمها محمود أحمدي نجاد رئيس الجمهورية الإيراني تثير غضب وحفيظة زعماء البيت الأبيض فضلاً عن عواصم أخرى كتل أبيب والرياض والقاهرة ودول الخليج . فهو لايكتفي بالتوعد بتدمير الشيطان الكبر والتنبؤ باحتضاره بل لايتوانى عن الترديد مراراً وتكراراً وفي كل مناسبة في خطبه ومداخلاته الإعلامية بإزالة إسرائيل من الخارطة. بل وذهب إلى حد تنظيم مؤتمر للتعديليين الناكرين للمحرقة النازية ضد اليهود في طهران وهذا يمثل للغرب قمة الاستفزاز. لقد دفعت هذه اللهجة الاستفزازية بعض الأوساط اليمينية المحافظة في الولايات المتحدة الأمريكية إلى الدعوة لقلب وتغيير النظام في إيران أسوة بالسيناريو الذي نفذته الإدارة الأمريكية إبان ولاية جورج دبليو بوش الأولى بدقة خلال العام 2002 ضد النظام العراقي السابق وتكثيف الحملة الإعلامية وتصعيد النغمة العدائية والحمى الحربية واللغة التهديدية ضد نظام صدام حسين والتي تكللت بإسقاطه وإطاحته بالقوة العسكرية ومن ثم مطاردته وإلقاء القبض عليه ومحاكمته وإعدامه بطريقة مهينة . بيد أن العامل الأهم والأخطر هو بلا جدال ذلك الذي يتعلق بالملف النووي الإيراني وبموضوعة منع وتحريم انتشار أسلحة التدمير الشامل والذي تتبعه إيران بلا كلل ومن شأنه أن يقود لامحالة إلى مجابهة عسكرية . والحال أن إيران لاتخفي رغبتها في امتلاك التكنولوجيا النووية ودورة الوقود النووي الكاملة داخل أراضيها والقيام بتخصيب اليورانيوم بكميات صناعية عبر طريقة مفاعلات الطرد المركزي بكميات تفوق حاجتها لتوليد الطاقة الكهربائية بواسطة المفاعلات النووية المدنية كما تدعي طهران ، ولأن إيران بلد منتج ومصدر للنفط فإن سعيها المحموم لامتلاك الطاقة النووية يدل على أن لديها نوايا غير سلمية أو أغراض وأهداف عسكرية خفية حسب التأويل الأمريكي حيث تجسد ذلك يرغبتها العارمة بامتلاك السلاح النووي على غرار الهند والباكستان وإسرائيل بالرغم من الضغوط الدولية التي تحاول أن تردعها وتمنعها من تحقيق هذا الهدف المخيف.
إيران بين خيار الحرب والسلام:
إن مما يجمع عليه الخبراء هو أن مصير الملف النووي الإيراني وما سيؤول إليه سيحدد ملامح القرن الواحد والعشرين وليس في هذا القول مبالغة أو تضخيم فالحرب والسلام النووي في العالم يعتمد على مستقبل الطموحات النووية الإيرانية . فلو حصلت إيران على السلاح النووي فإن قضية إمتلاك القنبلة النووية ستصبح هي القاعدة وليس الاستثناء في منطقة الشرق الأوسط وكذلك على المستوى الدولي في جميع أنحاء العالم الذي سيعيش هاجس إندلاع حرب نووية إن آجلاً أم عاجلاً لامحالة بين العالم الإسلامي وخصومه أي الغرب و إسرائيل والهند ، وبعكس ذلك، أي لو تخلت إيران حقاً عن تلك الرغبة الجامحة التي لاتقاوم ولم تتجاوز عتبة امتلاك ناصية صناعة السلاح النووي فسوف تكون هناك فرصة لكوكب الأرض أن يفلت من مصير خطر يتمثل بانتشار السلاح النووي في كل ارجاء الأرض وانطلاق سباق تسلح جنوني في جميع أنحاء الكرة الأرضية. هذه ليست تخويفات فارغة أو تخمينات مبالغ فيها بل هي حقائق تنطوي على الكثير من المحاذير والمخاطر ويترتب عليها تبعات وعواقب وخيمة ورهانات خطيرة لو نظرنا إليها بجدية من منظار التحليل السياسي والاستراتيجي .
قد يتساءل البعض لماذا ننطلق من بديهية وضعناها لأنفسنا تقول أن حصول إيران على السلاح النووي سيترتب عليه تبعات وانعكاسات ونتائج أكثر دراماتيكية ومأساوية من حصول أي بلد آخر على مثل هذا السلاح حتى من ضمن الدول الواقعة في الجوار الاستراتيجي لإيران؟ ولماذا تعتبر القنبلة النووية الإيرانية أكثر خلخلة وزعزعة للاستقرار والأمن العالميين من الترسانة النووية الإسرائيلية أو الباكستانية أو الهندية على سبيل المثال لا الحصر وهي كلها دول تقع في نطاق قوس الأزمة الاستراتيجي ؟ وفيما يتعدى الاعتبارات المتعلقة بالسلوك الاستراتيجي الخاص بإيران ، وهو أمر مطروح ومشروع وقابل للمناقشة، هناك إجابة مباشرة وغير حيادية تتكون من شطرين: الأول هو أن إيران من الدول المؤسسة والموقعة على معاهدة منع وتحريم نشر الأسلحة النووية وبالتالي فهي ملزمة باحترام التزاماتها وتعهداتها وتوقيعها وهو الأمر الذي لاينطبق لا على إسرائيل ولا الهند ولا الباكستان لأن أي من هذه الدول النووية الجديدة لم يوقع على المعاهدة المذكورة. من هنا يمكننا القول إن انسحاب إيران من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية سوف يسدد ضربة قاضية لسلطة ومصداقية ونفوذ تلك المعاهدة الدولية التي سبق أن تعرضت لهزات مميتة وعوامل مؤثرة كالبرنامج النووي الكوري الشمالي الذي تمكنت المجموعة الدولية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية أخيراً من البدء في تفكيكه بموجب اتفاق مبرم بين كوريا الشمالية والمجموعة الدولية ممثلة بمجلس الأمن ، والاتفاق النووي الأمريكي الهندي الذي أثار حفيظة ومخاوف الباكستان ومحاولة إبرام اتفاق مماثل مع بكين حليفة كراتشي. فتحول إيران لدولة نووية سيحفز بلا شك كافة دول المنطقة لاسيما بلدان الخليج وتركيا ومصر وسوريا لامتلاك السلاح النووي متذرعة بسابقة السماح لإسرائيل والهند والباكستان وإيران فلماذا لايحق لها أيضاً أن تمتلك سلاحاً نووياً وعنها سينطلق أخطر سباق تسلح في تاريخ البشرية لأنه سوف يقود لمواجهة نووية حتماً بين مكونات هذه المنطقة التي تنام على التوترات وتصحو على التهديدات وتعوم على بحار من النفط والثروات .التحذير من الخطر النووي الإيراني المحتمل فقد بريقه بعد الصراخ الذي أطلقته الولايات المتحدة بشأن مخاطر وتهديدات أسلحة التدمير الشامل العراقية عشية حرب الخليج الثالثة سنة 2003 واتضح فيما بعد الحرب أن العراق خال من أسلحة التدمير الشامل وليس فيه برنامج للأسلحة النووية. صحيح أن العراق كان قد سار شوطاً كبيراً في سنوات الثمانينات في برامج تسليحية طموحة في مجال الأسلحة المحظورة دولياً وهي النووية والبكتريولوجية أو الجرثومية والكيمياوية ولكن حرب الخليج الثانية 1990 ـ 1991 التي أعقبها حملات تفتيش دولية فرضها مجلس الأمن أدت إلى تفكيك تلك البرامج التسليحية الممنوعة والتي لم يعرف مداها الحقيقي وأبعادها إلا بعد حرب الخليج ووصول المفتشين الدوليين إلى العراق، وعندما قررت إدارة جورج دبليو بوش سنة2002 عشية التحضير لغزو العراق حيث كانت تحوم شبهات وتساؤلات حول إحتمال إخفاء نظام صدام حسين المقبور لكميات من أسلحة التدمير الشامل المحظورة دولياً وبالتالي كان يفترض بالمجموعة الدولية وبموجب قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن تصفية وإزالة مخزون تلك الأسلحة العراقية المفترضة.وقد كان المفتشون الدوليون أنفسهم يغذون مثل تلك المخاوف والاحتمالات والشكوك واتضح بعد الغزو العسكري للعراق أن صدام حسين كان يتعمد لأسباب لامجال لذكرها هنا، في جعل المجتمع الدولي يعتقد بوجود مثل هذا المخزون الخطير من أسلحة التدمير الشامل من خلال تصرفاته ومناوراته المثيرة للشكوك وإتقانه للعبة القط والفار مع المفتشين الدوليين وتبين بعد سقوط وانهيار نظامه أن تلك الأسلحة قد دمرت كلياً منذ زمن بعيد أما في مجال السلاح النووي فمما لايقبل الدحض أو الجدل أن برنامج السلاح النووي العراقي قد فكك كلياً ولكن مازالت هناك شكوك تحوم حول إحتمال تهريب صدام حسين لبعض مخزونات أسلحة التدمير الشامل الكيمياوية والبيولوجية وبعض البرامج والخطط في مجال التسليح النووي لسورية قبل سقوط نظامه كما تشيع المخابرات الإسرائيلية . بعبارة أخرى كانت هناك مخاطر ما من إمكانية توصل صدام حسين لصنع القنبلة النووية في الماضي ومخاوف إيران وإسرائيل من مثل تلك الإمكانية المفترضة ، حيث قامت إسرائيل بضربة استباقية سنة 1981 ضد مفاعل أوزيراك الفرنسي النووي في العراق ، إلا أن هذا الخطر النووي العراقي قد زال تماماً اليوم ومنذ بداية سنوات التسعينات أي قبل غزو العراق سنة 2003 . بيد أن الأمر مع إيران مختلف كلياً ويعتمد على معطيات وحقائق وتحقيقات نابعة من الوكالة الدولية للطاقة النووية التابعة لمنظمة الأمم المتحدة وبما أن مجال عمل وتحرك المفتشين الدوليين محدود في إيران فهناك مجال للخطأ والصواب في التقدير وربما سوء في تقدير الخطر الحقيقي ومدى ما وصلت إليه الأبحاث السرية التي تجريها طهران في المجال النووي والتي قد تستغل سياسياً وإعلامياً بطريق الخطأ ودفع إيران نحو المغالاة ورفض مبدأ الحوار السلمي لاسيما بعد تصعيد لهجة الغرب ـ ومن جانب فرنسا والولايات المتحدة بالذات ـ والتهديد باللجوء لخيار القوة والحرب لإجبار إيران على الإذعان والتخلي عن برنامجها لتخصيب اليورانيوم بالطرق الصناعية الممنوعة والمحظورة عليها بموجب اتفاقية ومعاهدة منع انتشار الأسلحة النووية . الذي يدور حالياً حيال إيران هو بمثابة محاكمة على النوايا وإن هذا التصعيد في اللهجة ينطوي على نوايا مبيتة تفترض عدم استبعاد اللجوء إلى خيار الحرب واستخدام القوة ضد إيران من خلال إضفاء السمات المأساوية للرهانات القائمة . هل طهران صادقة في ادعاءآتها في الاستخدام السلمي للطاقة النووية أم تخفي خططاً وأهدافاً سرية لتصنيع السلاح النووي وفرضه على العالم كأمر واقع؟ وهل الولايات المتحدة الأمريكية صادقة في مساعيها الدبلوماسية في اللجوء إلى الحوار لحل المعضلة النووية الإيرانية أم أنها حسمت موقفها باللجوء إلى خيار الحرب في الوقت المناسب لها بعد تهيئة الظروف والأجواء والحسابات اللازمة لمثل هذه الخطوة الرهيبة؟ فلكل خيار مخاطره وعواقبه وتبعاته التراجيدية فضرب إيران عسكرياً خطر جداً ولكن الأخطر منه في نظر واشنطن هو السماح لإيران بامتلاك السلاح النووي لأن ذلك سوف يفتح أبواب جهنم أمام البشرية جمعاء فلا يمكن ضبط هذه الدولة أو الوثوق بها في عدم لجوئها للسلاح النووي في حالة امتلاكه من قبلها. من هنا عزم أمريكا وإسرائيل معاً على منع طهران من امتلاك هذا السلاح المدمر مهما كان الثمن وبكل الطرق وبما أن مثل هذه الفرضية قائمة وممكنة فإنه يتعين على الجميع التفكير والتأمل فيها سواء في طهران أو في غيرها من عواصم العالم المعنية بالأمر.
أي أن عواقب وتبعات عدم استخدام القوة حيال إيران في حالة صواب فرضية التصنيع السري للقنبلة النووية من قبل طهران، سيكون أكثر مأساوية وخطورة من التدخل العسكري وربما أسوء حسب ما تعتقد واشنطن وتل أبيب وعواصم أخرى كباريس وسدني ولندن. حيث قارن الرئيس بوش عدم اللجوء للقوة في حالة الضرورة القصوى كحل أخير ، بروحية ميونخ المستسلمة والمتخاذلة حيال هتلر في ثلاثينات القرن المنصرم قبل الحرب العالمية الثانية. وقد استغل البريطانيون والفرنسيون التخويف من هذه النغمة الاستسلامية المتخاذلة المسماة روحية ميونيخ لتبرير حملتهم ضد مصر في أزمة السويس عام 1956 كما استخدمها جورج بوش في حملته الدعائية والإعلامية التي سبقت هجومه على العراق. والحال أن الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد يقوم بكل ما يلزم في مجال محاربة الصهيونية وتبني أطروحات التعديليين الناكرين للمحرقة النازية لكي يدفع الغربيين لإقامة المفارنة والربط بين الأخطار التي ظهرت عقب وصول هتلر للسلطة والتي واجهت أوروبا بعد سنة 1933 وما يمكن أن يحدث من جانب إيران حيال اليهود والدولة العبرية لو امتلكت إيران القنبلة النووية . كانت إيران وماتزال تستهين وتسخر من التهديدات الغربية تجاهها وتحذر من اتخاذ إجراءات عقابية ضدها وكأنها تمتلك القوة على الرد ضد القوى العظمى بقيادة الدول الغربية وضد المجتمع الدولي بغالبيته الساحقة الذي يعارض برنامجها النووي وهذا ينم عن مكابرة وغباء سياسي وسوء في التقدير والحساب الصحيح لما سيترتب على تعنتها وتجاهلها للمواقف الدولية ضدها. فمستقبل الكوكب يتشكل في الوقت الحاضر استناداً إلى ما ستقرره طهران بشأن مستقبلها النووي إلى جانب مواضيع أخرى مؤثر كالاحتباس الحراري وتزايد قطر ثقب الآزون . لم تنبيء تصريحات السيد منو شهر متقي وزير خارجية إيران عن تفاؤل أو بداية انفتاح وتعقل في الفهم الإيراني عندما صرح معلقاً :” إن أي قرار جديد يصدر عن الأمم المتحدة يشدد العقوبات على إيران يعني رجوح كفة المواجهة ونهاية البحث عن حل سلمي عن طريق التفاوض للملف النووي كما سيعني انسحاب إيران من معاهدة منع وتحريم انتشار السلاح النووي. السابقة الكورية ينبغي أن تقدم درساً بليغاً للإيرانيين فاستخدام القوة كان مطروحاً كآخر حل إذا لم ينجح المجتمع الدولي في التوصل إلى اتفاق مع بيونغ يانغ لكن الإدارة الأمريكية ارتأت الجمع بين الضغط العسكري والدبلوماسي والسياسي والتلويح بالامتيازات الاقتصادية لاقناع كوريا الشمالية وإفهامها أنه غير مسموح لها بالاحتفاظ بأسلحتها النووية حتى لو كانت بدائية. لأنها تشكل تهديداً ضد جاراتها كوريا الجنوبية واليابان الحليفتين لواشنطن. والجدير بالذكر أن حصول بيونغ يانغ على السلاح النووي لم يتسبب في سباق تسلح نووي في المنطقة ويضعها على شفير الهاوية كما هو الحال مع إيران ومنطقة الخليج والشرق الأوسط برمته. فالتهاون الأمريكي سوف يترجم أو يفسر بأنه ضعف من جانب الولايات المتحدة وسيشكل لها نوعاً من الإهانة وفقدان الهيبة والمصداقية والنفوذ وهذا ما لن تقبل به واشنطن إطلاقاً. فهي بالكاد تبتلع الاخفاق في الملف العراقي وفشلها في تحقيق اهدافها الاستراتيجية كاملة في مغامرتها العراقية. لذا من المحتمل أن تخضع سنة 2008 لشعار: ضرورة الخيار بين اللجوء إلى القوة أو القبول بمنطق انتشار السلاح النووي في منطقة الشرق الأوسط الواقفة على حافة الانفجار وفي العالم الذي يغلي بالصراعات الإقليمية والحضارية والدينية ويسوده منطق العنف والبقاء للأقوى، وكلا الخيارين كارثي وسف نعرف قريباً أي الخيارين هو الغالب بمجرد أن نلاحظ بدء الماكنة الإعلامية الجبارة في حملتها التشهيرية والتهديدية لإيران . وإضفاء الصفات الشيطانية عليها واعتبارها مركز الشر وبؤرة الخطر الذي يهدد السلام العالمي وربما سيبدي العالم بعض التفهم للأطروحات والذرائع الأمريكية عكس ما حصل مع المغامرة العراقية لأمريكا . بعض حلفاء أمريكا سيعتبرون خيار اللجوء للقوة العسكرية لحسم الملف النووي الإيراني كنتيجة للتدهور الحاصل للوضع الاستراتيجي الدولي والإقليمي الناجم عن إخفاق المشروع الأمريكي في العراق ولن تشارك في الحملة العسكرية التي ستشنها الولايات المتحدة الأمريكية عدا إسرائيل بالطبع فالأمر يتعلق بالأساس بمصداقية وهيبة الولايات المتحدة وإليها يعود أمر فرض احترام المجتمع الدولي لها وعلى رأس القائمة إخافة طهران وإخضاعها للقرار الأممي. خاصة وإن الدول الأوروبية تخاف من ردة فعل الجاليات الإسلامية التي تقيم على أراضيها.
لقد أشارت الوكالة الدولية للطاقة الذرية في عدة تقارير لها إلى الانتهاكات والخروقات الفاضحة التي قامت بها إيران لاتفاقية أو معاهدة تحريم ومنع انتشار الأسلحة النووية وأسلحة التدمير الشامل ولجأت في شكواها إلى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة وقد تبنى مجلس الأمن بالإجماع في 23 ديسمبر 2006 القرار 1737 استناداً إلى البند السابع الإلزامي من ميثاق الأمم المتحدة الذي يجبر إيران بكل الوسائل والطرق الممكنة ، بما فيها القوة العسكرية، على وقف نشاطاتها النووية ووقف تخصيب اليورانيوم والبدء بفرض جملة من العقوبات التمهيدية لضمان عدم تمتع إيران بالمساعدات والقروض والخبرات والمساهمات الأجنبية والخارجية لبرنامجها النووي والصاروخي الباليستي البعيد والمتوسط المدى . كما تمس تلك الإجراءات والعقوبات الأشخاص والخبراء والأفراد المسؤولين في النظام الإيراني عن تلك النشاطات المحظورة وعلى رأسها النشاط النووي. فالرسالة التي أرسلت إلى إيران من مجلس الأمن واضحة وصريحة ولاتقبل التأويل : فإما التخلي عن إرادة السيطرة على التكنولوجيا النووية التي ستوصلها على المدى المتوسط والمنظور، إلى امتلاك السلاح النووي، أو تحمل نتائج موقفها الرافض والمتعنت وتحمل مخاطر تلك العقوبات والعزلة الدولية والحصار والمقاطعة مما يمكن أن يدمر اقتصاد البلاد وإرجاعها نصف قرن إلى الوراء كما حصل مع العراق قبل شن الهجوم النهائي عليه وإطاحة نظامه بسهولة ويسر مدهشين.
ظل النظام الإيراني على تصلبه وعناده يماطل ويراوغ ويجادل في حوارات سفسطائية مع خبراء يعرفون قواعد اللعبة ويفقهون أبعاد أفعاله وتحركاته ومناوراته ومحاولاته التلويح بالمزايا الاقتصادية التي ستحصل عليها الدول التي تتعامل معه وتجاهله القرارات الدولية، فهو لم ولن يتوقف أو يتخلى عن نشاطاته الممنوعة . بيد أن قلق حقيقي بدا واضحاً في تصرفات التيار الإصلاحي المعتدل وشعوره بجدية المخاطر التي تواجه البلد . كما ظهرت عدة مؤشرات خجولة تشير إلى أن القادة البارزين والمراجع الدينيين الكبار ، وعلى رأسهم علي خامنئي، يمكن أن يسحبوا من يد الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد كل السلطات الحقيقية المتعلقة بالبرنامج النووي لكن أغلب تلك الإشاعات لاتعدوا عن كونها محاولات لكسب الوقت بينما العالم الغربي مايزال يشتاط غضباً من تعنت إيران وعدم استجابتها للضغوط الدولية.
استناداً إلى نص القرار 1737 الصادر عن مجلس الأمن ، راجعت المنظمة الدولية بعد مرور 60 يوماً على تاريخ التصويت على القرار تطورات الموقف الإيراني والدولي فيما يتعلق بالملف النووي، وقررت المجموعة الدولية فرض عقوبات إضافية أكثر صرامة وشدة وبالأخص العقوبات المالية والتجارية وطالبت العديد من المؤسسات المالية والبنوك الالتزام بنص وفحوى القرار الدولي الجديد بغية الضغط أكثر على النظام الإيراني والسيطرة على المصادر المالية التي يعيش عليها نظام الملالي وعلى رأسها مبيعات النفط.
ماتزال المشاورات مستمرة بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين وروسيا والاتحاد الأوروبي ، وعلى رأسه فرنسا وألمانيا وبريطانيا، مستمرة لتعزيز وتفعيل العقوبات الجديدة . والجدير ذكره أن الصين وروسيا كانتا راغبتين في الوصول إلى حل تفاوضي مع طهران رغم تجاهل ومماطلة وتهرب هذه الأخيرة عملياً وموافقتها شكلياً على الحوار الحر بلا شروط مسبقة. فلا أحد يرغب في رؤية ظهور إيران قوية مدججة بالسلاح النووي بعد بضعة سنوات حتى تصبح قوة إقليمية يهاب جانبها وتضع قوتها التسليحية الفتاكة في خدمة توجهاتها المتطرفة وطموحاتها كقوة إقليمية لايستهان بها ولا يمكن لأحد أن يتجاهلها، إلا أن الإجماع يتوقف عند هذه الفقرة فقط. فأمريكا وإسرائيل ترغبان باستخدام القوة حيال إيران وتحطيم برامجها النووية والتسليحية البالستية وتدمير بناها التحتية فهي أنجع السبل للتعامل مع هذه الدولة المارقة ، بينما لا ترغب الصين وروسيا بتبني هذا المنحى أو اللجوء إلى هذه الطريقة بالتعامل وترددت العاصمتان في التصويت على إجراءات تتجاوز ما جاء في نص القرار 1737 أما الدول الأوروبية الغربية فهي مستعدة لزيادة الضغوط ورفع سقف المطالب بيد أنها ماتزال متمسكة بضرورة استنفاذ كافة الوسائل السلمية وتحقيق النتائج المرجوة عبر الحوار والمفاوضات عدا فرنسا التي صعدت من لهجتها التهديدية متدرعة بدعم وتأييد واشنطن ، وصارت تطالب على لسان كبار مسؤوليها من وزير الخارجية إلى رئيس الجمهورية مروراً برئيس الوزراء، بإرغام إيران على الانصياع حتى لو اضطر الأمر إلى توجيه ضربات عسكرية موجعة وتدميرية للجمهورية الإسلامية في إيران.
إن منبع القلق ناجم عن تلاقي بديهيتين هما إصرار السلطات الإيرانية على مواصلة السير في طريق إنتشار أسلحة التدمير الشامل من جهة ، وإصرار الإدارة الأمريكية على اللجوء إلى القوة المسلحة لوقف النشاط النووي الإيراني مهما كانت النتائج المترتبة على مثل هذا السيناريو. وقد أثبتت المغامرة العراقية أن الولايات المتحدة الأمريكية ، عندما لا تحصل على موافقة وتأييد المجموعة الدولية ، لن تتردد باستخدام الوسائل العسكرية منفردة عندما تقدر أن تصرفها مبرر استراتيجياً وسياسياً من وجهة نظرها وحسب تقديرها لخطورة الأوضاع. فنفس الأسباب يمكن أن تقود إلى نفس النتائج في الحالة الإيرانية . وتؤكد عدة مؤشرات ومعلومات وتقارير متراكمة بأن الولايات المتحدة الأمريكية قد أعدت بالفعل مجموعة من الخطط العسكرية الجاهزة للتنفيذ لشن هجوم عسكري وشيك على إيران قبل نهاية ولاية جورج بوش الثانية وبمختلف الصيغ والمستويات تتراوح بين إثارة القلاقل الداخلية ومحاولة قلب نظام الحكم أو القصف الجوي المكثف لتدمير المنشآت النووية والبنى التحتية والتصنيعية والإنتاجية وصولاً إلى الغزو الشامل إذا سنحت الظروف بذلك.
لقد أرسلت أمريكا إلى مياه الخليج حاملات طائرات وبارجات حربية وصواريخ وطائرات وعتاد وذخيرة واستقرت قواعدها في المنطقة بصورة تذكرنا بالاستعدادات التي أعدتها ضد العراق عشية حرب 2003 كما نصبت واشنطن أنظمة صواريخ مضادة للصواريخ من بطاريات الباتريوت في دول الخليج الحليفة وفي إسرائيل تحسباً لرد أي هجوم صاروخي إيراني محتمل يمكن أن ينهال عليها كرد انتقامي وتم تعيين أميرال لقيادة قوات المنطقة بدلاً عن الجنرال جون أبي زيد.
إن من مثالب العمل العسكري المحدود هو تحقيق نتائج محددة ومحدودة ، وعلى أفضل الأحوال تأخير البرنامج النووي الإيراني لبضعة سنوات أخرى في حين سيكون له تداعيات سياسية وميدانية هائلة وبلا شك ستكون غاية في الخطورة على مجمل المنطقة وعلى الأنظمة القائمة برمتها . وسوف تبدو العملية العسكرية هذه المرة بمثابة هجوم غربي ـ صليبي على الإسلام وعلى العالم الإسلامي في نظر الكثيرين من سكان هذه المنطقة مما سيثير فيهم الحمية القومية والدينية والالتفاف أكثر ربما حول نظام الملالي الذي سيبدو في نظرهم كأنه الضحية التي تقاوم الظلم والعدوان الغربي ضد الإسلام. وسيفتح مثل هذا العمل العسكري المحدود الطريق أما ضربات انتقامية وردود أفعال عنيفة ويعمق من هوة الخلاف القائم في المنطقة منذ حرب العراق الأخيرة، بين الغرب والعالم الإسلامي كما صورته التنظيمات الإسلاموية التكفيرية المتطرفة التي فتحت باب الحرب بهجمات الحادي عشر من أيلول سنة 2001.
فالتوتر على أشده والخطر يتفاقم يوماً بعد يوم، والأسوء لم يحصل بعد ولم نلمسه لمس اليد وقد يكون انفجاراً هائلاً في المنطقة بأكملها مما سيعني نشوب أزمة خانقة ومميتة في إمدادات النفط والوقود المتمركزة أغلبها داخل هذه المنطقة الحساسة والحيوية مما يمكن أن يفتح الطريق أمام نشوب حرب عالمية ثالثة أو رابعة إذا اعتبرنا الحرب الباردة هي الحرب العالمي الثالثة. أو العكس هو الذي سيحدث حيث قد تؤدي الضغوط والتوترات العسكرية إلى غلبة الخيار الدبلوماسي الذي سينشط لتفادي وقوع الكارثة إذا تصرفت طهران بحكمة وتعقل وقامت بحسابات دقيقة بعيدة عن العواطف وتقدم الدلائل على سلمية برنامجها النووي وإخضاعه للمراقبة والتحقيق الدوليين باستمرار . ولكن من صفات جورج بوش التشبث برأيه ولو كان على خطأ وعدم الاستماع إلا إلى مستشاريه ومعاونيه المتشددين من الصقور والمحافظين الجدد اليمنيين من أمثال نائبه ديك تشيني وبما أنه في نهاية ولايته الثانية وليس محكوماً بضرورات ومتطلبات الحملة الانتخابية فربما سيغريه ذلك لشن هجومه العسكري الساحق على طهران رغم المحاذير الكثيرة لتحقيق مهمته التاريخية المتجسدة بمنع إيران من الحصول على السلاح النووي .كما إن تطورات الوضع ميدانياً على الأرض في العراق قد يدفع الرئيس الأمريكي إلى ارتكاب حماقة ومغامرة جديدة للخروج من عنق الزجاجة والإفلات من المستنقع العراقي بطريقة الهروب إلى الأمام إذ أن القضاء على النظام الإيراني ، وهو ليس بالأمر المستحيل على واشنطن، يعني بنظر الولايات المتحدة إنهاء مصدر أساس من مصادر التمويل والتسليح للإرهاب والإرهابيين والميليشيات والعناصر المسلحة في العراق الشيعية والسنية على السواء خاصة بعد أن بات ملموساً بأن استراتيجية الرئيس بوش الجديدة في العراق لم تفلح في بسط الأمن والاستقرار أو تمنع إحتمالية نشوب حرب أهلية شاملة في بلاد الرافدين رغم المؤشرات الإيجابية التي تحققت مؤخراً في العاصمة بغداد وفي الأنبار وربما في ديالى قريباً. وستكون الهجمة على إيران وسيلة بيد الرئيس الأمريكي لمنع الكونغرس من التحرك ضد والحد من توفير الاعتمادات المالية لحملته العسكرية الشاملة على الإرهاب باعتبار إيران دولة راعية وداعمة للإرهاب بنظر الأمريكيين وذلك من أجل حماية الأمن القومي الأمريكي على غرار ما قام به نيكسون وكيسنجر من توسيع نطاق الحرب على كمبوديا للتخلص من تداعيات حرب فيتنام الكارثية.
التوتر المتفاقم بين أمريكا وإيران يثير قلق العراقيين فالقادة السياسيون في العراق يدركون مدى خطورة المواجهة العسكرية بين الجانبين على مستقبلهم السياسي وقد صرح وزير الخارجية العراقي هوشيار زيباري لصيحفة لوموند الفرنسية بتاريخ 16ـ17 أيلول 2007 أثناء زيارته لباريس ولقائه وزير الخارجية الفرنسي برنارد كوشنير :” إن العراق يدفع ثمن التوترات القائمة بين واشنطن وطهران لهذا السبب سعينا باتجاه فتح حوار مباشر بين البلدين وكلما كان هناك توترات ومواجهات أو صدامات كلما تحمل العراق عواقب ذلك لأن العراق بات بمثابة الساحة الرئيسية للصراع . واعترف الوزير العراقي بأن ضغوط واشنطن ستزداد على الحكومة العراقية لكي تتحرك وتتقدم في طريق تحقيق المصالحة الوطنية والوئام الوطني وتقاسم الثروات وإعادة البناء وألا يعيق تطورها وعملها مقاطعة أو غياب هذا الطرف أو ذاك لحسابات سياسية ضيقة .
أما فيما يتعلق بسوريا فإن الأوضاع المتأزمة في لبنان وتهديدات المحكمة الدولية وأصابع الاتهام الموجهة لدمشق في قضية اغتيال رفيق الحريري والوضع الاقتصادي المتردي وارتفاع الأسعار الجنوني وانخفاض القدرة الشرائية والتضخم والبطالة وأزمة اللاجئين العراقيين العويصة فهي كلها عوامل كافية لدفعها للقبول بأي حل تفاوضي من أجل استعادة الجولان بأقل الخسائر الممكنة والقبول بأمر التطبيع مع إسرائيل على غرار مصر والأردن والتخلي عن حزب الله وحماس وفك الارتباط الاستراتيجي بإيران ، أو التفكير خارج الزمن ودفن الرأس في الرمال كالنعامة وتبني خيار خوض مغامرة المقاومة والتصدي التي قد تدفع بالبلاد إلى الهاوية والجميع يشهد ويلمس تصاعد الاستعدادات العسكرية على الجانبين السوري والإسرائيلي وما الطلعات الجوية والضربات ضد أهداف سورية مؤخراً إلا مؤشر على حدة وخطورة الموقف بين البلدين فإما السلام وإما الحرب وأحلاهما مر. وأخيرا تجدر العودة إلى العراق حيث اتضح بأن مستقبل العراق وآفاق العملية السياسية فيه ومصيرها ونجاحها أو فشلها سيكون بمثابة البوصلة أو جهاز القياس الذي سيلجأ إليه المراقبون لمعرفة ما ستؤول إليه أوضاع لمنطقة الشرق الأوسط في المستقبل القريب فالمناورات والتصريحات والخطب والرسائل المشفرة تتوالى بشأن حكومة أبو إسراء المالكي وطبيعة الدعم والتأييد الأمريكي الممنوح لها وانعكاسات ذلك على الوضع الداخلي في العراق ومحيطه الإقليمي حيث يعيش العراق ساعات حرجة وتجاذبات خطيرة تجابه العملية السياسية والتحالف الرباعي بعد خروج التيار الصدري من الإئتلاف العراقي متتبعاً آثار حزب الفضيلة الذي سبقه بالخروج من الإئتلاف وخروج وزراء القائمة العراقية بقيادة أياد علاوي ووزراء جبهة التوافق العراقية بقيادة عدنان الدليمي وخلف العليان وطارق الهاشمي من الحكومة وسبقهم وزراء التيار الصدري ودخول عامل جديد يتمثل بمجموعة مؤتمر عشائر صحوة الأنبار الذي انقلبوا على حلفاء الأمس من التنظيمات المسلحة الإسلاموية والتكفيرية المتطرفة المعادية للعملية السياسية، والتحالف مع الحكومة والقوات الأمريكية لضرب تنظيم القاعدة الإرهابي وقد دفع زعيمها عبد الستار أبو ريشة رأسه ثمناً لهذا الانقلاب حيث أغتيل أمام بيته قبل أيام . كما أبلى الأستاذ المالكي سياسياً وإعلامياً وأبدى موقفاً حازماً ووطنياً عندما وقف وبقوة وصلابة وجرأة بوجه التدخلات الأمريكية والفرنسية والعربية السافرة في الشؤون الداخلية العراقية رداً على مطالبة بعض السنياتورات في مجلس الشيوخ الأمريكي ووزير الخارجية الفرنسي وبعض القادة العرب وبصلافة ووقاحة باستبدال السيد المالكي برئيس وزراء جديد وكأنه موظف بسيط عندهم ووضعهم عند حدهم وأفهمهم أن العراق ليس ضيعة أمريكية خاضعة لنزوات هذا السيناتور أو ذاك وأدان بقوة الهفوة الدبلوماسية الفرنسية الخطيرة التي ارتكبها وزير الخارجية الفرنسي برنارد كوشنير وتراجع عنها بسرعة وقدم اعتذاره للحكومة العراقية وللشعب العراقي والتقى في باريس بوزير الخارجية العراقي لتصحيح المسار الدبلوماسي الفرنسي حيال العراق الذي انتعش بعد زيارة كوشنير لبغداد وما بني عليها من آمال وتوقعات بتحسن العلاقات بين باريس وبغداد وعودة فرنسا بقوة للساحة العراقية بعد غياب دام عقود بسبب الموقف الفرنسي الداعم لنظام الرئيس العراقي المقبور صدام حسين . تتصاعد وتيرة الأصوات المطالبة بسحب الثقة من حكومة المالكي ولكل طرف أهدافه وغاياته التي يضفي عليها غلالة المصلحة الوطنية العليا والحال أنه ليس من مصلحة العراق سقوط حكومة الأستاذ المالكي المنتخبة دستورياً بفعل مناورات سياسية خبيثة وخاضعة لأجندات غير عراقية تستهين بالدستور وبإرادة الناخب العراقي. فقد يكون سقوط الحكومة العراقية من مصلحة خصومها كجبهة التوافق السنية والقائمة العراقية ومن ينسق معها من العرب والأمريكيين ، خاصة بعد تسرب أنباء عن صفقة بين أياد علاوي وإحدى الشركات الأمريكية المتخصصة في العلاقات العامة لتحقيق هذه الغاية وتفاهمه مع بعض أعضاء الكونغرس الأمريكي وتقديم عريضة لهم تطالبهم بالضغط لإسقاط المالكي وخلق فراغ دستوري سبسعى علاوي فوراً لملئه تنفيذه لأمر أمريكي أملي عليه بالإلتقاء بقيادات بعثية صدامية من جناح عزة الدوري وجناح محمد يونس الأحمد المقيم في دمشق وبحضور مسؤولين كبار من الجانب الأمريكي لمناقشة إمكانية إشراكهم في السلطة في حالة عودة علاوي للحكم. من هنا ليس من صالح العراق أبداً أن تنهار الحكومة ويحدث الفراغ السياسي والدستوري الذي ينبيء بوقوع حرب أهلية ـ طائفية تأكل الأخضر واليابس وتكون أكثر دموية من الحرب التي تدور رحاها اليوم بين الحكومة والإرهابيين والصداميين والتكفيريين. بيد أنه يمكن أن تتم عملية التغيير وفق الأصول الدستورية والنظامية الديموقراطية كإجراء انتخابات تشريعية مبكرة شرط أن تتوفر للمطالبة بها أغلبية برلمانية ساحقة أي أكثر من الثلثين أو قيام غالبية البرلمان الحالي يتقديم طلب سحب الثقة والتصويت عليه ولو فاز بالأغلبية الساحقة يصبح بالإمكان الدعوة لتشكيل حكومة تكنوقراط انتقالية تهيئ الأجواء لإجراء انتخابات تشريعية طبيعية تداولية تحترم الدستور والقانون وخيارات الشعب العراقي وفيما عدا ذلك ليس من حق أحد أن يطالب باستبدال رئيس الحكومة الحالي وتعيين آخر في مكانه وكأننا إحدى جمهوريات الموز الأفريقية.
/ باريس
Jawad_bashara@yahoo.com