“المتهم برئ إلى أن تثبت إدانته” مبدأ إنساني عظيم، حاربت أوروبا في سبيل التوصل إليه أربعة قرون متتالية، وبشر به الإسلام منذ أن ظهر، عندما أخذ بمبدأ «البراءة الأصلية»، وعندما قرر أن إفلات مائة متهم أفضل من سجن برئ واحد، وأنه إذا قال أحد شيئاً يحتمل الكفر من ٩٩ وجهاً، ويحتمل الإيمان من وجه آخر حمل على الإيمان، ووضع ضمانات للمتهم، وصلت إلى حد أن يلقن القاضي المتهم الإنكار، فيقول له: «هل سرقت قل لا»، فيقول: لا، فيخلي سبيله «كما حدث أيام أبي بكر وعمر»، وقال الرسول لمن قاد إليه رجلاً لإقامة حد الزنى عليه «لو سترته بثوبك لكان خيراً لك».
وكان في أصل تقرير هذا المبدأ أن المتهم فرد أعزل يقف أمام قوة المجتمع بهيمنته وهيلمانه وسلطاته، والسجون التي تنتظر من يحكم عليهم بالسجن، وقاعة المشنقة لمن يحكم عليهم بالإعدام، فكان لابد من حمايته من تلك السلطة الرهيبة.
المتهم فرد ومن يتهمه سلطة، ولا يمكن للفرد أن يتصدى لسلطة، ومن هنا كان من الضروري حمايته بمبدأ أنه برئ إلى أن تثبت إدانته.
يختلف الأمر عندما يكون المتهم هو «البوليس» أي أداة القهر وكرباج السلطة المدني، الذي يماثل الجيش أداة القهر العسكري، واللذان يجعلان الدولة في اصطلاحات الكثيرين من رجال القانون الدستوري «أداة قهر..»!
هنا نجد المتهم يمثل هذه السلطة القوية الرهيبة، أما المجني عليه فهو الفرد الغلبان المسكين.
انقلبت الآية فأصبح المتهم هو صاحب الهيلمان، والسلطة والمجني عليه هو الفرد المسكين. في مثل هذا الوضع يبدو مبدأ «المتهم برئ إلى أن تثبت إدانته»، غير منطقي، وغير عادل، لأن من المسلم به أن السلطة مفسدة، وأن الظلم من شيم النفوس، فإن تجد ذا عفة فلعلةٍ لا يظلم، وأن البوليس ليس هيئة عادية، إنه يمثل السلطة تمثيلاً فعلياً، وإن في يده كل القوى، وإن من يقف أمامه يقف مجرداً، مهدداً أمام الاختلال الضخم في توازن القوى.
عندما يكون الاتهام موجهاً إلى سلطة البوليس الرهيبة، التي يقف أمامها الفرد أعزل، فإن العدل يوجب أن يأخذ المبدأ نقيضه ليصبح «المتهم مدان حتى تثبت براءته»، حتى يوجد نوع من توازن القوى.وما يحدث عملياً هو ما يثبت وجاهة وعدالة هذا المبدأ في وضعه الجديد، وأنه لا يظلم البوليس.
ذلك لأن المحاكم تصدر أحكامها طبقاً لمبدأ «المتهم برئ إلى أن تثبت إدانته»، ولا تثبت إدانته إلا بالاعتراف أو بأدلة قوية أو قرائن دامغة لا تحتمل شكاً، لأن الشك يفسر لمصلحة المتهم.
ويستحيل على القاضي أن يتوصل إلى صدور التعذيب من شخص معين إذا كان أول إجراء يعمله ضابط التعذيب هو أن يعصب عيني المتهم المسكين، ثم يساق كما يساق الأعمى إلى مكان لا يعرفه، ولا يري شيئاً منه، حيث يتلقى الضربات واللكمات من اليمين والشمال، لا يعلم من ضربه حتى يقاد إلى زنزانته.
عندما يسأل القاضي المتهم من ضربك؟ فكيف يستطيع الإجابة؟!
ويمكن أن يعترف المتهم فتحكم عليه المحكمة، ولكن هذا الاعتراف إنما جاء نتيجة التعذيب، ولكن لا شاهد على تعذيب يجري في حجرات مغلقة ومن ثم تسقط دعواه، أو لعدم وجود آثار للتعذيب، لأنه لا يقدم للقضاء إلا بعد انطماس آثاره، ولأن تقارير أطباء السجون لا تشير إلى تعذيب، ولأن هناك تعذيبًا لا يترك آثارًا مادية.
في الحالين يحكم على المتهم وهو برئ، ولا يتوجه اتهام إلى البوليس في حين أنه المقترف لأسوأ جريمة. منذ بضع سنوات قدمت النيابة ٤٤ ضابطاً للمحكمة بتهمة التعذيب، وحاكمتهم المحكمة وقضت ببراءتهم جميعًا لعدم ثبوت الأدلة!!
وعندما تقدم النيابة مثل هذا العدد، فلابد أن لديها أسبابًا مؤكدة لذلك، بل يقيناً عملياً بقيام التعذيب، ولكن المحاكم التي تعتبر المتهم بريئاً لا يمكنها الحكم عليه إلا بأدلة متضافرة من اعتراف أو تضافر شهود.. الخ، وهي لم تملك ذلك على سبيل اليقين فحكمت بالبراءة، ولا يمكن مؤاخذتها لأنها حكمت بالأصول القضائية، ولو كانت بالنسبة لضباط التعذيب هي الإدانة حتى تثبت البراءة لقبلت دعاوى الضحايا ولطولب الضباط بتفنيدها وهم لا يستطيعون.
عندما تحكم المحكمة بالبراءة يضج الناس «يحيا العدل»، ولكن عندما قرأت خبر تبرئة ٤٤ ضابطاً من ضباط التعذيب، انقبض قلبي وتساءلت «هل قضى على شعب مصر أن يكون كعبيد روما، يعذبون حتى يعترفوا بما يطلب منهم، ويحاكمون بمقتضى هذا الاعتراف».
يجب أن نعرف أن التعذيب قديم في مصر، على الأقل من ١٩٥٢م، وما مجازر حمزة البسيوني ولا مذابح صلاح نصر بمجهولة، ومن هذا الوقت وقد نشأت أجيال تمرست على فنون التعذيب ووجدت أمامها “تراكمًا” تفيد منه فتفننت في التعذيب الذي لا يترك أثرًا، والتعذيب النفسي من إذلال وإهانة، وتكليف بما تأنف منه الحيوانات حتى تتمزق نفسيته أشلاء، وهذه الإهانات لا تترك أثرًا ماديا لإثبات وقوعها، وحتى لو تركت فقد وجد في الأطباء من يتجاهلون التعذيب ويخونون ضمائرهم حرصًا على الوظيفة، ثم لا يقتصر الأذى على المتهم، بل يمتد إلى آله وزوجه وأمه وأبيه الذين يحضرون ويهانون أمامه ويهان أمامهم، كل هذا في غرف مقفلة لا يراها أحد.
ويسبق هذا إجراءات همجية عدوانية من الهجوم على البيوت في هدأة الليل واقتحام أبوابها، ثم التفتيش الذي يقلب الشقة رأسًا على عقب والاستيلاء على ما يوجد من مال (وعادة لا يرد)، ويصطحب هذا كله بالشتم والركل ثم يسحب الرجل أمام زوجته وأبنائه ليؤخذ إلى المجهول.
إن مبدأ «المتهم برئ حتى تثبت إدانته» بالنسبة لضباط التعذيب يصبح نوعًا من التآمر على الكرامة البشرية وتسهيل انتهاكها، والمفروض أن يكون «المتهم مدان حتى تثبت براءته».
ويشفع في هذا، بل يؤدي إليه، أن التعذيب أصبح ظاهرة متكررة تمتلئ بها صفحات الجرائد ليل نهار وتتحدث عن سلخانات الأقسام وما يجري فيها من صنوف التعذيب.
وتحدث الأستاذ فهمي هويدي في الدستور (١٩/٨/٢٠٠٧م) تلخيصًا لما نشرته صحيفة «البديل» من أن “أمناء الشرطة أصبحوا طرفاً فيها، في منافسة لرؤسائهم الضباط، كما لو كان قتل أكبر عدد من المواطنين تحت التعذيب مسوغاً جديدًا للترقي والترفيع في وزارة الداخلية.
تحدثت المنظمة عن واقعة قيام أمناء الشرطة في قسم العمرانية بإلقاء ناصر صديق جاد الله من نافذة منزله بالطابق الثالث، مما أدى إلى قتله، وهو نفس ما حدث في مارس ٢٠٠٧م مع محمد نبوي عبد الحفيظ الذي كان مكبل اليدين، وادعت الشرطة أنه ألقى بنفسه من نافذة مركز شرطة أوسيم التي تعلو عن الأرض مترًا ونصف المتر، ومن قبله ألقت الشرطة بشخص اسمه شرين غريب من الطابق الرابع بمنزله في المعادي، وقبله ألقي ببشير محمد شحاتة أيضًا من الطابق الرابع في مديرية أمن القليوبية، وادعت الشرطة أنه انتحر في يوليو ٢٠٠٤م، وقبله جريمة مباحث التليفونات بسنترال ألماظة حيث ألقي بمواطن آخر من الطابق الرابع، وذلك بخلاف من ألقي بهم أو حوصروا علي الأسطح أو دفعوا إلي الشبابيك أو الشرفات أو اضطروا إلي القفز وفقدوا حياتهم، مثلما حدث مع محمد محمد سالم في مشتول وصباح أحمد بدوي في الزاوية الحمراء.
وكشفت المنظمات أن عدد ضحايا التعذيب تضاعف مؤخرًا، فتم حرق جسد أحد الأشخاص في قسم سيوة بالكحول المشتعل، وهي قصة لها سابقة، حيث ألقي ضابط قسم شرطة سنورس بالكيروسين علي جسم ربيع سليمان وأشعل فيه النار وحين تصور أنه مات ألقي به أمام مستشفي الفيوم ليلقي حتفه هناك، وفي هذه الأيام أيضًا توفي أكثر من “رهينة” في أقسام الشرطة، وهؤلاء هم الأشخاص الذين يحتجزون بالأقسام ويعذبون فيها لحين القبض على ذويهم المطلوبين أو تسليمهم أنفسهم، وهي العملية التي راح ضحيتها عشرات الأشخاص، آخرهم شهيد تلبانة أحمد عبد الله الذي تعرض لتعذيب بشع حتى لفظ أنفاسه لينضم إلي قافلة الشهداء في أقسام المنتزه والرمل ومحرم بك والجمرك بالإسكندرية، وإمبابة ومدينة نصر وشبرا الخيمة ثان وقسم قصر النيل والوراق والعمرانية وحلوان والسيدة زينب والزاوية الحمراء، وغيرها من أقسام القاهرة وأنحاء مصر” انتهي.
إذا كان الذين يرتكبون هذه الجرائم يظنون أنهم يحمون النظام القائم، فإن هذا أبعد ما يكون عن الصواب، فالحق أنهم يضاعفون من نقمة الشعب عليه، ويهيئونه للانفجار، لقد كان التعذيب هو الذي أودي بعبد الناصر ومشروعه، لأن الظلم مرتعه وخيم، وهؤلاء العسكر يعجلون بنهاية هذا النظام، وكل الصحف تحمل رئيس الجمهورية شخصيا مسؤولية هذه الجرائم الخسيسة.
***
هناك جانب آخر غير مفهوم لهذه القضية هو موقف بعض المحاكم.
أذكر أني يوم (١٨/٦/٢٠٠٣م) كتبت إلى الأهرام معقبًا علي خبر نشرته، وكانت كلمتي تحت عنوان «أريد أن أفهم» وجاء فيها:
«جاء في جريدة الأهرام يوم ١٧/٦/٢٠٠٣ ص١٩ تحت عنوان «في قضية تعذيب مواطنين بقسم مدينة نصر ثان» براءة رئيس المباحث وسنة للمعاون، المحكمة تعدل التهمة من تعذيب إلى ضرب أفضى إلى موت واحد وإحداث عاهة.
وقالت المحكمة إن المتهم الأول الذي برأته لم يشهد أحد بأنه قام بالاعتداء على المجني عليهما، وذلك ما أكده المجني عليه الثاني في شهادته بأن دور هذا المتهم اقتصر على إعطاء التعليمات للمتهم الثاني وأمناء الشرطة بالقسم.
وأكدت المحكمة في حيثياتها أنه قد استقر في يقينها أن المتهم الثاني أشرف جوهر قام بضرب المجني عليهما بالكرابيج وصعقهما بالتيار الكهربائي، فأحدث بهما إصابات أدت إلي موت أحدهما دون وجه حق، وذلك من خلال اطمئنانها إلي جميع أدلة الثبوت قبله، لذلك المحكمة تقضي بمعاقبته بالحبس لمدة سنة واحدة بعد أن أخذت بقسط من الرأفة مراعاة لظروف الدعوي.
أريد أن أفهم كيف أن المتهم الأول ثبت في حقه أنه أصدر التعليمات للمتهم الثاني، ولكن دون المشاركة في الضرب، فيحكم له بالبراءة.
أليس في القانون مادة تعاقب علي إصدار الأمر بالتعذيب حتي وإن لم يمارس التعذيب نفسه؟ أليس موضوع القضية هو الضرب ؟ (والضرب إنما جاء نتيجة للأمر به).
وفي أي شرع تكون عقوبة الضرب بالكرابيج والصعق بالكهرباء حتى يموت واحد ويصاب آخر بعاهة الحبس سنة واحدة.
لقد علَّمنا سيد المشرعين جميعاً الرسول محمد «أن من صفع عبده فعليه أن يعتقه لينجو من النار»، ولدينا ليس فحسب حالة واحدة، ولكن بضع حالات» انتهي.
ولم يرد أحد.
ومازلت أقول «من حقي أن أفهم»؟
***
مع أن التعذيب يجب أن يعالج كظاهرة انحراف قد تعود إلي النشأة الأولى، أو إلى ظروف التربية العسكرية وفكرة «الاستعلاء».. إلخ، فإن هذا لا ينفي أن تشديد العقوبة سيكون له أثر في حسم هذه الجريمة الخسيسة، فأي تعذيب أو إهانة طفيفة يجب أن تكون عقوبتها تنزيل درجة الضابط وإحالته إلي عمل مكتبي لا يتعامل فيه مع الجمهور، أما إذا كان التعذيب جسيمًا فلا أقل من خمس سنوات سجن مشدد، وإذا وصل التعذيب إلي الموت، فلو وجد عقاب أشد من الإعدام لكان جديرًا به، لأنه قتل نفسًا بريئة بتعذيبها، وفعل هذا وهو المؤتمن علي الأمن وعلي سلامة المواطنين، وقد قال الله تعالي «مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً» (المائدة: ٣٢).
ختام الكلام:
أتمني أن تصدر منظمات حقوق الإنسان كتابًا أسود عن التعذيب في الأقسام، وأن يطبع منه عشرون ألف نسخة، وأن يباع بثمن رمزي (على أساس أنه مدعم من ميزانية المنظمات)، وأن يرسل إلى كل الهيئات ويدون على الإنترنت.
التحقيق مع ضباط التعذيب له أصول أخرى
مقال رائع حقا. شكرا لك أستاذنا الكريم. تمنيت لو يرسل المقال بالفاكس أو بأي وسيلة لكل الجرائد و المجلات وخاصة مجلات الحقوقيين العربية من الخليج الى المحيط حتى ينشر في أكثرها, وكذالك لكل كلية تدرس الحقوق حتى يطلع عليه الطلبة و يناقشوه مع أساتدةهم. تعميم نشر المقالات الجيدة مثلا هذا المقال هي التي ستساهم في صقل عقول الاجيال الصاعدة وترصيخ قيم الإنساية فيها.
التحقيق مع ضباط التعذيب له أصول أخرىاستاذي الفاضل جمال ولماذا لم تفهم!! انك اذا لاتعتقد يانك قي ازهي عصور الديمقراطية وإن الديمقراطية هي حرية التعبير عما يجيش في صدر اي انسان, واظنك توافقني في هذا!!فلماذا اذا عدم الفهم!!أن ضابط الشرطة الذي يعذب مواطن فهو يعبرعن افكاره فهل التعبير عن الفكرإلا نوع من انواع الديمقراطية فلماذ لا تفهم!!أذا ياستاذ جمال عليك ان تعي جيدا ان ما يحدث في مصرهو نوع من ارقي انواع الديمقراطية وقد اكتشف في مصر هذا النوع من التعبير الديمقراطي هو ارقي انواع الديمقراطبة!! فعندما يسحلويضرب عضو في مجلس الشعب الموقر الذي اطلق عليه اخيرا المنبطح من قيل… قراءة المزيد ..
التحقيق مع ضباط التعذيب له أصول أخرى
مقال رائع جداً، واتفق مع الأستاذ جمال البنا تماماً. الإعلام الحكومي المصري يقوم الدنيا إذا تعرض مصرياً لأهانة أو تعذيب في أحد مراكز الشرطة في الإمارات أو الكويت أو غيرها من البلدان الخليجية الصغيرة، ولكنه لا ينطق بكلمة عندما يتعرض المواطن نفسه لهذا التعذيب في بلده.