منصب رئاسة الجمهورية في تركيا هو تعريفاً المنصب الحافظ للعلمانية. هذه العلمانية لم يفرضها المستعمر على تركيا، ولا كانت تقليعة جنحت اليها النخبة، العسكرية أو المثقفة، المنقطعة عن شعبها. بل كانت العلمانية شرطاً لازماً استندت اليه الحركة الكمالية، وجمعيتها الوطنية التأسيسية، لاستثمار وتحصين منجزات حرب الاستقلال التي ولدت الأمة التركية الحديثة من رحمها، كأمة مقاتلة وواقعية في آن، وهي حرب الاستقلال التي نجحت في وأد مفاعيل اتفاقية سيفر، في حين ارتضى السلطان الخليفة محمد السادس في آب من عام 1920 بهذه المعاهدة، وتربّص معشر المتزمّتين دينياً شرّاً بالحركة الوطنية المكافحة.
بموجب اتفاقية سيفر المذلّة كان يتوجب سلخ شرق الأناضول لاقامة كيان أرمني، وسلخ جنوبه لاقامة كيان كردي، وسلخ غربه لاهدائه، مع تراقيا الشرقية، الى اليونان، مع سلخ مناطق منه لأجل النفوذ الفرنسي والايطالي، وجعل الأستانة وبحر مرمرة والدردنيل منطقة منزوعة السلاح، والتدويل التام للمضائق.
يوم كانت القضية الوطنية مطروحة فعلاً على المحك في تركيا، أثبت الكماليون جدارتهم في مواجهة المشاريع الاستعمارية. ويوم تمكنوا من ابعاد كأس المستعمرين عن وطنهم التزموا حد السياسة الواقعية القومية، العاملة على بناء دولة أمة، وكذلك فعل الحبيب بورقيبة في تونس. حارب المستعمر يوم كان الاستعمار قائماً. وما عاد مقتنعاً بمحاربته حين لم يعد الاستعمار قائماً. مع ذلك، أو لأجل ذلك، فإن ثقافة عربية بائسة تحقن على هذين الرمزين، أو تسقطهما من حسابها عند التأريخ للحركات الوطنية التحررية.
يوم كانت القضية الوطنية مطروحة فعلاً على المحك في تركيا، لزم السلطان الخليفة ومعشر المتزمتين والدراويش خط السياسة البريطانية، وأصدروا ما طاب لهم من فتاوى مكفرة للغازي كمال والجمعية الوطنية، وفيما كانت تركيا تنهض من حرب الاستقلال، لجأت هذه الجمعية الوطنية الى تدبير من نوع فصل الخلافة عن السلطنة واعتماد مبدأ الخليفة الرمزي المنتخب من لدن البرلمان، الا أنه لم يطل المقام بالعناصر المعادية للجمهورية حتى استجمعت قواها، وأخذت تطالب من جديد باحياء السلطة السياسية للخليفة، فما كان من الجمعية الوطنية الا أن اتخذت تدبيرها الشجاع بالغاء الخلافة، في وقت صارت فيه الخلافة احد العناوين البارزة في السياسة الكولونيالية البريطانية، اذ درست بجدية مسألة تنصيب الملك فؤاد خليفة، في حين أن الشريف حسين كان سباقاً يوم الغت تركيا الخلافة لاعلان نفسه خليفة من جانب واحد.
لا تضع الحركات الاسلامية اليوم مسألة احياء الخلافة على رأس أولوياتها، اذا ما استثنينا الحركات الأكثر تطرفاً أو بيانات «حزب التحرير» التي تردّد الشيء اياه، بيد أن هذا الاسلام الحركي قد ولد من رحم المحنة الثقافية التي تفجرت بالغاء الخلافة، وبعجز المؤتمر الاسلامي الذي دعا اليه الأزهر في اثر هذا الالغاء، عن تأمين خليفة جديد للمسلمين.
يمكن القول رأساً في هذا المجال، إن «حزب العدالة والتنمية» في تركيا لا علاقة له بإحياء الخلافة لا من قريب ولا من بعيد، وإنه بالفعل مؤمن بالانتماء للحضن الأوروبي، وباحترام الجمهورية العلمانية الأتاتوركية. بيد أن ما لا يقال في هذا المجال هو أن مؤثرات الهيمنة السياسية لهذا الحزب على المؤسسات الدستورية في تركيا، بما فيها رئاسة الجمهورية، انما هي مؤثرات تتغذى وتغذي هذا الاتجاه الجوفي حيناً، والظاهر حيناً آخر، في طول وعرض المجتمع التركي، والذي تدغدغه مسألة احياء الخلافة، وهو بهذه المناسبة يشغل باله باحياء الخلافة، دون أن يكون مهتماً البتة باحياء السلطنة.
بل إن الاسلام الحركي التركي يمكن تعريفه في نهاية الأمر على أنه نتيجة تدرّب القوى المحافظة دينياً في تركيا على الفصل التام والشامل بين موجبات احياء السلطنة التي جرى الاقلاع عنها، وبين موجبات احياء الخلافة التي جرت ترجمتها بطرق أخرى. تحاول هذه الطرق محاكاة نموذج «الديموقراطية المسيحية» في الغرب، لكن يبقى الفرق شاسعاً بين كونراد اديناور وهلموت كول، وبين نجم الدين اربكان ورجب طيب أردوغان، والأخير صاحب شعار «المساجد ثكناتنا»، لا يعتد كثيراً بتصريحاته الموافقة للعلمانية، ساعة يكون قد دافع قبل سنتين عن قانون يجرّم الزنى، وعن زيادة منسوب التربية الدينية في المدارس.
يجدر التذكير هنا، بأن العلمانية الكمالية لم تفكر يوماً باستئصال الدين من المجتمع أو من التربية، وأنها أقامت منذ البدء مفوضية للشؤون الدينية تابعة لرئاسة الوزراء (فيما وجب أن تكون رئاسة الجمهورية بحد ذاتها هي المفوضة بحماية العلمانية). هذه الملاحظة تطرح بدورها سؤالاً حسّاساً بالنسبة الى كل من يبالغ في تصوير «اعتدال الاسلاميين الأتراك»، لأن المبالغة في تصوير اعتدالهم ستصوّر لنا في نهاية المطاف معشر القوميين العلمانيين في تركيا على أنهم كفرة وملاحدة. بهذا المعنى تتخفى نزعة تكفيرية مضمرة تحت وابل المبالغات حول «اعتدال الاسلاميين» في تركيا.
هؤلاء الاسلاميون من جهة «حزب العدالة والتنمية» هم فعلاً معتدلون قياساً بجماهير لهم أكثر تشبثاً بعاداتها وتقاليدها، وأكثر استعداداً للارتباط الوجداني مع المناخات المنتشية في طول وعرض العالم الاسلامي. كما أن هؤلاء الاسلاميين نجحوا في أن يسوّقوا نظافة كفّهم وحسن ادارتهم للمرافق العامة، ويعبّرون عن فئات اجتماعية أناضولية صاعدة، استفادت من تحرير الأسواق والخصخصة، وعرفت كيف تزاوج مصالحها مع مطالب وأحلام الهجرة الريفية الواسعة النطاق الى اسنطبول وبقية المدن.
بيد أن هذه المزايا لا تكفي بحد ذاتها للارتياح من مشهد وصول اسلامي الى رئاسة الجمهورية في تركيا، والسبب كامن في هذه المزايا بحد ذاتها، فأن تكون قيادة الاسلاميين الأتراك أكثر اعتدالاً من جمهورها بأشواط، فهذا بحد ذاته مثير للقلق حول منازع المجتمع التركي، وهو قلق يتضاعف ساعة يبقى العلمانيون الأتراك متفرقين في أحزاب خائبة ومترهّلة، فيتأرجحون بين تلزيم مهماتهم للجيش وحده، أو بين تسليم مؤسسات الدولة، واحدة بعد أخرى، للاسلاميين، وهؤلاء مهما كانت درجة اعتدالهم، فان منسوب التزمت الديني واللاواقعية السياسية سيعود ويزداد في صفوفهم، اذا لم يواجهوا بغريم محترف، يتقن فنون النضال المؤسسي والشعبي.
(السفير)