“لقد كان الشيعة منذ كان لبنان، سكنوا سهوله والجبال وعمرّوها بالعرق والدماء”
(الإمام السيد موسى الصدر)
“إن لبنان هو لبنان: هو هذه الحالة الفريدة من العيش المشترك والحياة الواحدة، وهذه الصيغة التي ارتضيناها جميعاً.. في لبنان ليس هناك طرح يتناول أصل الصيغة، فالصيغة هي هذه! والذي يريد أن يغنيها، والذي يريد أن يرشدها، والذي يريد أن يحضنها، نحن نكون في غاية الشكر والامتنان له.. ولكن السؤال هو: هل نريد حقاً لبنان أم لا نريده؟ هل نريد نظاماً جمهورياً ديموقراطياً برلمانياً أم لا؟ نحن قلنا نعم للبنان، وقلنا نعم لنظام جمهوري ديموقراطي برلماني”.
(الإمام الشيخ محمد مهدي شمس الدين)
سألت نفسي مراراً كما سألت غيري (وخصوصاً الإمام محمد مهدي شمس الدين) كيف أن هذا الإمام الكبير الإيراني ـ النجفي مولداً، ونشأة، ودراسة، وتربية، وذائقة فكرية ـ ثقافية، ومزاجاً نفسياً، واستعداداً روحياً.. كيف توصل الى اكتشاف معنى لبنان وسر اجتماعه الأهلي والسياسي، فصاغ له مشروعاً بحجم رسالته التي قال عنها وقبل البابا يوحنا بولس الثاني: “إن لبنان أكثر من وطن.. إنه رسالة حوار وعيش مشترك وانفتاح”؟ وهو المشروع الصدري الذي أسماه الإمام شمس الدين: “المشروع السياسي الوطني العربي الإسلامي الإنساني للمسلمين الشيعة في لبنان”… وكان الإمام شمس الدين يفصّل لنا كل كلمة شارحاً ما قصده من معنى قوله: وطني وعربي وإسلامي وإنساني…
رأى الإمام الصدر (ومعه شمس الدين) أن نسبة الشيعة الإمامية (الاثني عشرية ـ الجعفرية ـ العلوية) تكشف بوضوح عن العلاقة العضوية المباشرة التي تربطهم بالأئمة من أهل البيت، بالإمام علي وزوجه فاطمة وبنسلهما المطّهر، وبمن سار على نهجهم في حياة الصبر والتقوى والعرفان والشهادة.. وأن هذا يحمّل الشيعة مسؤولية الأمانة الى الروحانية العرفانية أولاً، والى العلم والحكمة ثانياً، والى العدل والإحسان ثالثاً، التي طبعت نشأتهم ومسيرتهم التاريخية.. ولقد كان السؤال الذي شغل بال الإمامين حين قررا العمل على نهضة الشيعة في لبنان، هو: كيف نحدد ميزات تلك الشخصية الشيعية كما تجلّت في التاريخ (وليس في الأساطير والخرافات)؟.. ما هي قيمة وفاعلية القيم والمبادئ والأسس التي قام عليها التشيّع العلوي الأصيل في تجدد الذات الشيعية اليوم؟ كيف يمكننا استنطاق واسترشاد هذه القيم والأسس والمبادئ وتلك الروحانية العرفانية وذلك المحيط الزاخر بالعلم والحكمة، وذلك الظمأ للعدل، في حاضرنا، في وعينا، في سلوكنا وممارساتنا، وفي رسم خياراتنا؟؟ كيف ندرج المسلمين الشيعة اللبنانيين في سياق مشروع وبرنامج لإصلاح الوطن والدولة وليس في مشروع فئوي خاص؟؟ كيف نوفق بين العام والخاص: بين ما هو شيعي مذهبي عربي وعالمي وما هو شيعي وطني لبناني؟؟ كيف يكون الشيعة مجرد مواطنين في بلدانهم لهم ما للباقين وعليهم ما على اخوانهم في الوطن؟ كيف يسهم شيعة لبنان في تحرر ونهوض الشيعة العرب؟ كيف يسهم شيعة لبنان في تقدم وازدهار الإنسانية؟
التراث الشيعي اللبناني:
لم يبدأ الإمام الصدر من فراغ.. فهو حل بمدينة صور بناء على دعوة سابقة من المرجع السيد عبد الحسين شرف الدين.. وهو استند الى تراث شيعي لبناني أصيل يحلو للبعض نسيانه اليوم أو تجاهله حين يستحضرون وادي الحجير أو أدهم خنجر وصادق حمزة، وينسون أن ما صنع شيعة لبنان ليس محطات معينة خارج أي تاريخ أو سياق بل تاريخ طويل يبدأ مع ابي ذر الغفاري ولا ينتهي مع الإمامين الصدر وشمس الدين.. لقد كان الشيعة العامليون (وهذا لا ينطبق على شيعة بعلبك ـ الهرمل أو بلاد جبيل، وليس هنا مجال نقاشه) كما كثير من اللبنانيين في طليعة المعترضين على التشكيل الانتدابي للبنان الحديث.. غير أن هذا الاعتراض كان من شاكلة الاعتراضات اللبنانية الأخرى: أي أنه كان اعتراض وممانعة ما قبل تشكّل الدولة الوطنية الحديثة، نشط في مرحلة انعدام التوازن بعد انهيار الدولة العثمانية واحتلال البلاد العربية.. وهذا الاعتراض حملته قوى ومصالح وايديولوجيات ورؤى وأفكار، لا يمكن بحال من الأحوال نسبتها الى الأزلية والسرمدية، أو الى التشيع والإسلام، لعل أهمها كان الاعتراض الأورثوذكسي ممثلاً بالحزب السوري القومي وزعيمه انطون سعادة وهلاله الخصيب ونجمته قبرص… ولكنه كان أيضاً اعتراض البورجوازية المدينية السورية وآيته المؤتمرات السورية التي شاركت فيها البورجوازية السنية اللبنانية… كانت عروبة الشيعة وسوريتهم هي العروبة والسورية الطبيعية لتيارات وقوى مطلع القرن العشرين حيث الخرائط ترسمها الدول المستعمرة وحيث القوى الأهلية المحلية تقاوم فرض الأمر الواقع.. ولا يجوز تقديم التاريخ باعتباره فقط تاريخ هذا الاعتراض المشروع في يومه، وإنما باعتباره تاريخ تطورات اجتماعية اقتصادية سياسية ثقافية صنعت صورة لبنان الحالي، كما صورة المنطقة.. فلا بد من البحث الجاد عن أشكال انخراط النخب الشيعية والإسلامية في الممارسة السياسية وفي الحياة الوطنية، وعن التعبيرات السياسية المختلفة التي لوّنت الطيف الشيعي والواقع الإسلامي اللبناني، خلال المرحلة الانتدابية 1920 ـ 1943… بحيث أن الجاهل وحده هو من لا يرى الاختلاف بين رؤية السيد شرف الدين ورؤية السيد محسن الأمين لموقع ودور الشيعة في لبنان والمحيط السوري والعربي.. ولا بد أيضاً من قراءة الأصول السوسيولوجية للتيارات والأحزاب السياسية في جبل عامل.. إذ أنه من الجهل أيضاً أن لا نرى أين نجح القومي السوري مثلاً ومتى ولماذا؟ أو متى انتشر الحزب الشيوعي وأين ولماذا؟ أو الدور الفلسطيني الهام منذ ثورة 1936.. كما أنه من الجهل عدم رؤية وتقويم العواطف والمشاعر العربية لجبل عامل والاستعداد للدفاع عن كل القضايا العربية والتي حمل شيعة لبنان لواءها خصوصاً في ثورة فلسطين الكبرى 1936..
كانت عروبة الشيعة هي المساق الطبيعي لتاريخهم وجذورهم وثقافتهم ولغتهم ولهجاتهم وعشائرهم وبيوتاتهم… وهي لم تكن لتتعارض مع لبنانيتهم اللاحقة والتي كان الإمام شرف الدين أبرز من عبّر عنها (بعض الباحثين الأجانب وتابعيهم من اللبنانيين ينعتون موقف السيد شرف الدين بالعمالة للانتداب وقد شهدنا عينّة من هذا الهراء بمناسبة نقاش كتاب عن السيد محسن الأمين وردت فيه التصنيفات السخيفة حول عمالة السيد عبد الحسين للفرنسيين..).. والإبداع الشيعي المبكر تمثل في ايجاد تلك اللحمة ما بين وطنية لبنانية قائمة على واقع مستجد ومتصالح عليه (دولة لبنان الكبير) دون الإغراق في تاريخ غابر الى حد الأسطرة من جهة (الفينيقية وحضارة الستة آلاف سنة) ولا في أدلوجة الاصطناع للكيان اللبناني من جهة أخرى (وهذه ما زالت في وعي وسلوك أكثر من حزب وتيار عقائدي متناسين أن كل الكيانات العربية هي بهذا المعنى مصطنعة)، وما بين عروبة حضارية، طبيعية، لا تحتاج الى أدلوجات قومجية فاشيستية ولا الى مرتكزات سلطوية أو مخابراتية..
وأذكر أن الإمامين الصدر وشمس الدين كانا يطرحان دائماً هذه المعادلة ويقولان: إن التاريخ السياسي للبنان هو حاضرنا القائم والمتوافق عليه.. فلنتفق على أن تاريخ لبنان الكيان السياسي يبدأ عام 1920.. وإذا لم توافقوا فاجعلوه عام 1943.. وهذا هو تاريخ الكيان السياسي الحاضر الذي ارتضيناه وطناً نهائياً من دون أن يعني ذلك أننا تخلينا عن روابطنا العربية أو عن شيعيتنا أو عن إسلامنا.. ولم يكن الشيعة وحدهم على هذا الوعي المتفاهم عليه.. فالبيان ـ الرسالة الذي ألقاه السيد كاظم الصلح (ووافقه عليه السيد عادل عسيران) بعد مؤتمر الساحل 1936 (نشر بعنوان مشكلة الاتصال والانفصال في لبنان) يحمل هذا الهم المبكر في اجتراح معنى إسلامي للوطنية اللبنانية ومعنى لبناني للعروبة…
ومن المفيد الإشارة هنا الى أن هذا التطور في الفكر السياسي الإسلامي اللبناني نتج عن تطور مبكر في سوريا كانت أبرز علاماته الكتلة الوطنية السورية ومفاوضتها المنفردة (كسوريا) مع الانتداب الفرنسي وطلبها من جناحها اللبناني (بقيادة رياض الصلح) التفاوض المستقل وترتيب البيت اللبناني… وعام 1936 هو للمناسبة عام تبلور تلك الوطنيات المحلية بعد تطور وتبلور مشاريع وقوى وحركات ومصالح “وطنية” (سمهّا بورجوازية إن شئت) لم تعد تجد في الاستقلال الوطني خيانة قومية وهي عقدت في ذلك العام المعاهدات الشهيرة مع الأجنبي، من مصر الى العراق، ومن سوريا ولبنان الى المغرب والجزائر وتونس، وذلك بسبب صعود الفاشية والنازية وحاجة الديموقراطيات الأوروبية الى تأمين جناحها المشرقي والمغربي في أي حرب مقبلة، وهي تلاقت مع السياسة الستالينية القاضية يومذاك بإنشاء جبهات وطنية مع البورجوازيات المحلية…
ويستحق هذا الأمر دراسة مفصلة ليس هنا مجالها، إنما يعنينا هنا اندراج شيعة لبنان المبكر في البحث عن جوامع مشتركة على مستوى الوطن مع بقية الطوائف اللبنانية، وفي التأصيل الديني لهذه الوطنية.. وهنا يبرز الميثاق الوطني ومعركة الاستقلال كعلامات على هذا النضج وتلك الرؤية التي لم تكن لتختلف عن رؤية رياض الصلح أو صائب سلام.. وهي رؤية حملها صبري حمادة وعادل عسيران وآل الأسعد والزين والخليل وحيدر وغيرهم من العائلات الشيعية التي تصالحت مع اللبنانية ومع الدولة الجديدة.. صحيح أنها رؤية بورجوازية وطنية (بحسب ستالين وماو تسي تونغ) إلا أن المرحلة كانت (ولعلها لا تزال) مرحلة بورجوازية وطنية ديموقراطية (أم أننا نسينا ألف باء الماركسية).. ولعل هذه المصالحة التاريخية مع الكيان ـ الوطن والتي أعطت العائلات التقليدية سلطة الحكم في لبنان الاستقلال هي التي تفسر “ثورة” انطون سعادة 1949 وانضمام بعض زعماء العائلات المحتجين على تهميشهم في النظام الجديد (لاحظ خصوصاً آل دندش وبعض الوجوه العشائرية في بعلبك ـ الهرمل والتي لا تزال قومية الى يومنا هذا، ولاحظ بعض الأسماء السنية في بيروت والشيعية في صور والنبطية والتي انتسبت الى السوري القومي على هذا الأساس).. كما لا بد من دراسة التطور الديموغرافي والاجتماعي والتربوي الذي شهده الشيعة في مرحلة الاستقلال (1943 ـ 1958) والتي سمحت بانتشار الحزب الشيوعي وحركة القوميين العرب وحزب البعث في أوساط المتعلمين الشيعة في الخمسينات وذلك بتأثير من صعود الاتحاد السوفياتي (بعد الانتصار الكبير في الحرب العالمية الثانية، وبداية الصراع مع الغرب “الامبريالي”) والناصرية في آن معاً.. وصولاً الى المرحلة الشهابية…
ومن المفيد التذكير هنا بأن اللبنانية والسورية والعروبة كانت تنجدل في تناغم وتكامل ميّزا شخصية جيل من الكبار العظماء… فمن ينسى عروبة كميل شمعون (فتى العروبة الأغر في مطلع الخمسينات وهي عروبة العراق والثورة العربية الكبرى ونوري السعيد وكل ذلك الجيل الذي مضى مع صعود الضباط الصغار في مصر وسوريا والعراق ثم في غيرها من البلدان العربية) أو سوريا الرعيل الأول من المثقفين الذين طردهم سعاده من حزبه لشبهة اللبنانية (وأبرزهم غسان تويني وأسد الأشقر وفايز صايغ وفخري المعلوف ومأمون أياس ونعمه ثابت، وكلهم تأثروا بشارل مالك وبعروبة شمعون اللبنانية).. أو اتفاق الكتائب والنجادة على المطالبة بالاستقلال…. وما نستطيع قوله في هذه العجالة إنه لم يفرض أحد بالقوة والقهر الخيار اللبناني على شيعة لبنان… ولا يمكن نكران هذه الحقيقة البسيطة وهي أنهم ارتضوا لبنان فعلياً، سراً وعلانية، وطناً نهائياً… وهذا الرضى حملته أيضاً قوى ومصالح وطبقات ونخب لا يجوز البتة التهوين من شأنها أو من تمثيلها لشيعة لبنان.
التراث الإصلاحي للإمام الصدر
وهكذا فإنه لم يكن صدفة أن يحمل السيد موسى الصدر تراث السيد شرف الدين (اي التراث الوطني اللبناني المستند الى عروبة حضارية لا لبس فيها ولا غبار عليها)، وأن يتمايز عن أقرانه ورفاقه الذين أسسوا حزب الدعوة في النجف الأشرف (ما بين عامي 1957 و1959 وهو تاريخ عودة الصدر الى لبنان). وهنا تاريخ مجهول لم يفتح أحد صفحاته بعد إلا أنه يستحق الاهتمام والدراسة كونه يلقي لنا ضوءاً كاشفاً على أمور ومواقف ما تزال تتردد أصداؤها الى اليوم… فمن المعروف أن الإمام الصدر لبناني الأصل والجذور، والى قرية شحور واّل شرف الدين ينتسب أجداده ومنهم السيد صالح شرف الدين الذي انتقل الى قرية معركة حيث نشأت عائلة الصدر وعاشت مراحل اضطهاد أحمد باشا الجزار للعلماء والأهالي في جبل عامل.. مما أدى الى نزوح العائلة الى النجف حيث برز السيد اسماعيل (جد الإمام) ثم السيد صدر الدين الصدر (والد السيد موسى) الذي قاد حركة دينية إصلاحية تقدمية وارتبط اسمه بالنهضة الادبية والثقافية للنجف والعراق ومن ثم إيران التي هاجر اليها وتزوج فيها من السيدة صفيّة كريمة المرجع الديني السيد حسين القمّي..
وهنا تجدر الاشارة الى ارتباط السيد صدر الدين بأبرز مراجع التجديد والإصلاح في عصره من السيد القمي (والد زوجته) الى المرجع الكبير المجدد الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي الذي عاونه الصدر في ادارة الحوزة الدينية في قم وصار لاحقا احد اركانها وساهم معه في انشاء مؤسسات علمية ودينية واجتماعية وصحية.. وهذان المرجعان تتلمذا معا على الميرزا محمد حسن المعروف بالمجدد الشيرازي، وعلى الشيخ محمد تقي الشيرازي والشيخ محمد كاظم الخراساني وشيخ الشريعة الاصفهاني.. وهؤلاء لمن لا يعلم كانوا اركان التيار التجديدي الإصلاحي في الحوزات الشيعية وقادة الإصلاحية الدستورية في التاريخ الشيعي.. كما ان السيد القمي لم يكن فقط تلميذ ورفيق درب المجدد الشيرازي بل هو رفيق وزميل المجدد النائيني (صاحب كتاب تنزيه الأمة وتنبيه الملة وأحد أكبر الدعاة الى الحكم الشوروي الدستوري). والى هذا التراث ينتسب السيد موسى، فهو درس اذن في الحوزة العلمية بقم على ايدي اعلام التجديد والإصلاح الكبار. كما أنه كان أول معمم يدخل جامعة طهران الحديثة وكلية الحقوق فيها. وهذه نقطة ثانية مهمة لفهم العقل المنفتح والثقافة الواسعة التي ميزت الإمام الصدر عن أقرانه. وهو تخرّج من جامعة طهران الحديثة العلمانية وعاد الى قم استاذاً محاضراً في الفقه والمنطق ومؤسسا لاهم وأكبر مجلة إسلامية شيعية تنويرية إصلاحية (مكتب إسلام) مع الشهيد بهشتي والشيخ ناصر مكارم، ثم انتقل السيد الى النجف بعد وفاة والده (1953) حيث لمع نجمه خلال فترة وجوده هناك (حتى العام 1959) أي في فترة توهج وسطوع نجم مرجعية السيد محسن الحكيم الذي احتضن الإمام الصدر كما احتضن علما اخرا من جيله هو الإمام شمس الدين. وكانت اول زيارة للسيد الصدر الى لبنان العام 1955 (حيث تزوج من ابنة السيد عزيز الله خليلي).
وقد تميّزت مرحلة النجف التي شهدت زيارات متكررة الى لبنان وإلى قم، بدراسته على كبار المراجع: ابو القاسم الخوئي، محسن الحكيم، محمد رضا ال ياسين. وبإتمامه لمرحلة الدراسات العليا (بحث الخارج) واشتراكه في تأسيس جمعية منتدى النشر… وهنا زامل ورافق الإمام الصدر كبار النجف يومذاك: الشهيد محمد باقر الصدر (ابن عمه)، والسادة الشهداء مهدي ومحمد باقر الحكيم (ابني السيد محسن)، والشيخ الموسوي الاردبيلي والسيد موسى الشبيري الزنجاني والسيد مرتضى العسكري (أحد ابرز قادة حزب الدعوة) والشيخ محمد مهدي شمس الدين والسيد محمد حسين فضل الله، وغيرهم ممن ارجو ان لا اغمطهم حقهم لعدم ذكرهم هنا.
ان انتماء الصدر الى التيار الإصلاحي المجدد في إيران والعراق، ورفقته وزمالته لرموز الحركة الإسلامية الإيرانية المدنية (حركة تحرير إيران وقيادتها: اية الله طالقاني، د. مهدي بازركان، د. مصطفى شمران، د. علي شريعتي، وهي حركة إصلاحية كبرى كانت استمرارا وتطويرا لحركة الرئيس مصدق وتيارها المسمى الجبهة الوطنية) جعلاه يفترق ومنذ البداية عن اترابه الذين شاركوا لاحقا في تأسيس حزب الدعوة. ففي ذلك المفصل التاريخي الذي شكلته سنوات 1954 ـ 1959 كانت البلاد العربية تغلي بالتطورات المتلاحقة التي حملت اسم فلسطين وعنوان التحرر والوحدة، وكانت انقلابات سوريا (1949) ومصر (1952) ومعركة الاحلاف، وخصوصا حلف بغداد (1953 ـ 1955) وانطلاق الثورة الجزائرية (1954) ثم العدوان الثلاثي على مصر (1956) فالوحدة المصرية السورية (1958) وثورة 14 تموز في العراق ونزول القوات الاجنبية في لبنان والاردن (1958)، قد جعلت لبنان وغيره موقعا لصراع دولي من جهة اولى (روسي ـ اميركي أو شرقي ـ غربي) ولصراع عربي من ناحية اخرى (رجعي سعودي ـ ثوري وحدوي أو ناصري ـ هاشمي اوغيره). فالتيار القومي العربي (الناصري والبعثي) كان يواجه التيار الهاشمي (وحليفه الاساس كان الحزب القومي السوري لمن ينسى أو يتناسى) من جهة، كما كان يواجه التيارات الشيوعية والإسلامية من ناحية اخرى، ناهيك عن الهجوم الدولي الشديد والمركز على المنطقة. وقد عمل شاه إيران في تلك الايام على ربط الشيعة به ومن ثم بالاحلاف الغربية، يعاونه مسعى هاشمي (اردنيعراقي) وسياسة لبنانية رسمية (الرئيس كميل شمعون)، وهنا بالذات تطورت مشاركة بعض اعيان الشيعة في القومي السوري (بعض كبار عائلات النبطية وصور).
اذن انقسم شيعة لبنان بين هذين التيارين العربيين الكبيرين وممثليهم المحليين (ثورة 1958 تقدم لنا اشارات واضحة حول الانقسام الشيعي رغم الاكتساح الجماهيري للناصرية في الشارع)، وفي خضم هذه التيارات والتحركات شهد العراق نهضة ثقافية وسياسية هائلة كان النجف مركزها والمراجع الكبار محورها… فمع السيد الخوئي والسيد محسن الحكيم وولديه مهدي ومحمد باقر، ومع الشيخين الاخوين محمد رضا ومرتضى اّل ياسين (اخوال السيد موسى)، والسيد محمد صادق الصدر(ابن عم السيد موسى وجد السيد مقتدى)، تشكلت حلقات الدراسة والتفكير ووضعت برامج الحركة والعمل بدءا بجمعية منتدى النشر وجماعة العلماء (ومجلتها الاضواء) ومرورا بمنظمة الشباب المسلم ومنظمة المسلمين العقائديين (وقائدهما عزالدين الجزائري) والحزب الجعفري (عبد الصاحب دخيل وحسن شبر ومحمد صادق القاموسي)، ووصولا الى حزب الدعوة…
وكانت الاجواء العربية الملتهبة حافزا للطلبة والعلماء في النجف وكربلاء وبغداد وسامراء الى البحث عن اطر مناسبة للتحرك الإسلامي الجاد يلبي احتياجات الشيعة العراقيين من جهة (وهم كانوا حرموا اية مشاركة في الحكم رغم ثوراتهم التاريخية ضد الاحتلال البريطاني) ، ويواجه الاتجاهات الحديثة التي كانت تغزو بسرعة عقول وقلوب الشباب في مواجهة الملكية والاستعمار (المقصود الاتجاهات الليبرالية والقومية واليسارية والشيوعية منها تحديدا)…
وهنا يجدر تسجيل حادثة مهمة كان لها الاثر الكبير في التحركات اللاحقة وهي مظاهرة النجف الكبرى دعما لمصر في مواجهة العدوان الثلاثي.. فقد شهد العراق مظاهرات صاخبة ودامية كان اعنفها واكثرها تأثيرا مظاهرة النجف الاشرف التي قمعتها السلطة بوحشية رهيبة وتلاها اعلان الأحكام العرفية في البلاد… ورغم ذلك استمرت التظاهرات في النجف وأبرزها تلك التي خرجت يوم 23/11/1956 وشارك فيها علماء الدين واسفرت عن مجزرة دموية ارتكبتها السلطة وراح ضحيتها عدد كبير من الاهالي (ذكرت مجلة العرفان اللبنانية أن عدد القتلى بلغ 450). وقد تلا ذلك بيان عنيف للمرجع الشيعي السيد الحكيم وإعلان الاضراب العام الشامل في النجف وهو اضراب تجاوب معه العراق كله وانضمت اليه مصر ولبنان وسوريا….
وإلى تأثير هذه الحركة الجماهيرية في النجف، وتأثير حركة مصدق في إيران والتي أسقطتها المخابرات الاميركية ، جاءت تجارب لبنان (ثورة 1958) والجزائر (انطلاق ثورة التحرير الوطني) وفلسطين (حركة فتح) لتضيف وعيا كبيرا الى تحرك شباب الحوزات والطلبة والعلماء في النجف. كما بدا بوضوح تأثرالنجفيين بالتجربة الإيرانية الشديدة الوطنية الى حدود التعصب (..وكلنا نعرف ذلك) كما بالتجربة الجزائرية والتجربة الفلسطينية الوليدة، وهما تجربتان وطنيتان صافيتان لا بل انهما تشكلتا من رحم الاعتماد على الذات الوطنية وليس على المد العربي (تجربة الجزائر المتميزة بمزيج إسلامي ـ جزائري شديد الخصوصية وتجربة حركة فتح التي خرجت قياداتها من رحم الاخوان المسلمين والقوميين العرب والبعث وعلى اساس الوطنية الفلسطينية).. وقد عرف عن الإمام الصدر في تلك المرحلة تأثره الكبير بفرانز فانون وعلي شريعتي وبثوار الجزائر وفتح بقدر تأثره بالدراسة الحوزوية وبالتجربة الإيرانية الوطنية ـ الإسلامية…
في مثل هذه الاجواء ولدت فكرة تشكيل حزب إسلامي شيعي في العراق اسوة بالاخوان المسلمين وحزب التحرير وحركة فتح وجبهة التحرير الجزائرية وحركة تحرير إيران ومنظمة فدائيان إسلام الإيرانية (وقائدها نواب صفوي المتأثر بحسن البنا)… وقد رأى الداعون الى هذا العمل ضرورة النهوض بأعباء المرحلة وفي مقدمتها طرح الإسلام كعلاج للازمات الاجتماعية السياسية في مقابل التيارات الفكرية الاخرى التي كانت تستقطب شباب العراق، ومواجهة هذه التيارات بنفس الاسلوب الحركي التنظيمي الهادف الى ايجاد وسائل للوصول الى قطاعات في المجتمع كان يصعب الوصول اليها من خلال العلماء والطلبة الحوزويين في ذلك الوقت (مثل قطاعات الموظفين الحكوميين والطلبة الجامعيين في المدن الكبرى واصحاب المهن الحرة وضباط وجنود الجيش)…
وفي تلك المرحلة بالضبط بدأ المشروع الإصلاحي اللبناني للامام الصدر بالتبلور… فهو عايش معايشة وثيقة الحلقة الضيقة المؤسسة والقائدة لما اصبح فيما بعد حزب الدعوة… اذ في منزل السيد محسن الحكيم أو ولديه مهدي ومحمد باقر، أو في منزل السيد الخوئي نفسه، أو الشيخ مرتضى أو الشيخ محمد رضا آل ياسين، كانت تعقد الاجتماعات التأسيسية وبحضور ابناء السيد محسن ووكلائه الاساسيين) مرتضى العسكري ومحمد مهدي شمس الدين وموسى الصدر ومحمد باقر الصدر الى جانب السيد محمد صادق الصدر ومحمد حسين فضل الله والشيخ عبدالهادي الفضلي والسيد محمد بحر العلوم والشيخ عارف البصري والسيد طالب الرفاعي والسيد محمد هادي السبيتي.. وغيرهم).
غير ان السيد موسى الصدر لم يكن مرتاحاً للعمل وفق النمط الحزبي الإسلامي الحركي للاخوان المسلمين أو حزب التحرير… خصوصاً وأن بعض كبار مؤسسي حزب الدعوة كانوا ينتمون في البداية الى هذين الحزبين (عارف البصري ومحمد هادي السبيتي ـ وهو لبناني اغتيل لاحقاً في الاردن ـ وطالب الرفاعي).. كما أن التوجهات الفكرية والتنظيمية الاساسية للحزب الجديد جرت صياغتها استناداً الى كتابات الباكستاني ابو الاعلى المودودي والمصري سيد قطب والفلسطيني تقي الدين النبهاني.. وكان السيد الشهيد محمد باقر الصدر متأثرا بكتاباتهم الى حد كبير.. وهذه حقيقة أكدها لي مرارا الإمام شمس الدين كما اشار الى دور المجلات المصرية التي كانت تصل الى النجف في تلك الايام…كما ان الإمام الكبير آية الله حسين منتظري أكد في أحاديث كثيرة تأثير سيد قطب عليهم في قم والنجف ومحاولتهم التوفيق بينه وبين عبد الناصر.. وقال منتظري انه يوم اعدام سيد قطب (آب 1966) بكى بحرقة وهو في السجن في طهران…وقد روى أكثر من مرجع إيراني وعراقي تأثرهم بالثورة الجزائرية وبتجربة جبهة التحرير الوطني) وقد ظلت العلاقة المميزة بين حركة أمل والجزائر الى يومنا هذا تأسيسا على ما بدأه الإمام الصدر، ولعل الإمام لم يكن ليسافر الى ليبيا لولا الطلب الخاص من الرئيس بومدين)….
كانت مرحلة النجف اذن عاصفة ومليئة بالتحولات الفكرية التي كانت تعيشها النخب الدينية الشيعية.. وكل ذلك جعل السيد موسى يقرر الرجوع الى لبنان بعد ان نضجت في رأسه واختمرت فكرة العمل الذي كان ينوي القيام به. وقد اخبرنا الإمام شمس الدين ان الفكرة نضجت بالتشاور مع السيد محسن الحكيم الذي اعطى الإمام الصدر وكالة عامة وتفويضا كاملا، ولم تمض اشهر على عودة الصدر الى لبنان (1959) حتى اندلعت الانشقاقات والصراعات داخل حزب الدعوة الامر الذي ادى الى طلب السيد محسن الحكيم من ابنائه والمخلصين له الانسحاب من الحزب.. فانسحب السيد مهدي ثم السيد محمد باقر (اثر عودته من بنت جبيل في لبنان ولقاءاته مع السيد الصدر، والسيد محمد باقر الحكيم هو للمناسبة ابن شقيقة السياسي اللامع علي بزي وكان يحضر مجالسه في لبنان، وبالتالي فهو ابن خالة السيد فضل الله) ثم الشيخ محمد مهدي شمس الدين وتبعهم اخرون، الى ان اعلن السيد الشهيد محمد باقر الصدر فتواه التاريخية بعدم جواز انتساب علماء الدين وطلبة العلوم الدينية الى أي حزب كان إذ هم يعملون للإسلام أي لكل الناس.
وما زالت هذه الوقائع في أساس السجالات والخلافات داخل حزب الدعوة والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق وما بينهما الى يومنا هذا.. المهم هنا تسجيل الفرادة والتميّز للإمام الصدر ومنذ مرحلة مبكرة، ووعيه لظروف وأوضاع الشيعة ولحاجات التنظيم والاستنهاض التي رأى أنها لا بد أن تختلف عن نمط التنظيم الحزبي الغربي الذي يحمل أسماء إسلامية.
(يتبع غداً: مشروع الإمام الإصلاحي)
(*) كاتب وأستاذ جامعي
(المستقبل)