بعد جولتين من التصويت البرلماني، وبعد كل التهديدات والامتعاضات من جانب العلمانيين الأتراك، وبعد “العراك” العلماني – الإسلامي الذي دام اشهر، انتخب البرلمان التركي في جولته الثالثة عبد الله غول رئيساً للبلاد. وبهذا التحول عاد احمد نجدت سيزر، الرئيس التركي السابق والحقوقي التركي الشهير، الى منزله خائبا بعكس ما جرى لدى استلامه منصب الرئاسة للمرة الأولى. رجع خائبا لأنه لم يحقق رغبته في ابعاد القصر الرئاسة (كنكايا) عن الإسلاميين، ولم يستطع تحقيق أي حلم للجمهور العلماني (الاتاتوركي) المتحسس جدا من الإسلام. والحق ان حزب “العدالة والتنمية” كشف عدداً من الحقائق التركية التي كانت مطمورة بقوة العسكر أثناء “عراكه” مع أنصار العلمانيين. فهو، أولا، اظهر للرأي العام بان العلمانية الأتراك تختلف عن العلمانية الحقيقية، وان الديمقراطية التي دافع برنارد لويس(المؤرخ الأمريكي) عنها ليست ديمقراطية حقة. واثبت أيضا ان ثمة هوة شاسعة تفصل بين السلوك الذي تمارسه الأحزاب العلمانية وبين الديمقراطية، .. وان الجيش ما زال يمسك بالحياة المدنية والسياسية. بمعنى آخر، كشف حزب”العدالة والتنمية” للرأي العام بان النظام التركي كان نظاما عسكريا بزي مدني. ومن هنا ينطلق تحليلنا بان اكتفاء الجيش بالتنديدات والانتقادات عبر الإعلام لا يعني قط بأنه كان يمكنه تنفيذ الانقلاب ولم يفعل، وأنه صمت لان مصلحة الامة التركية تطلب ذلك. العكس هو الصحيح، حيث العكس يقول بأن حزب “العدالة والتنمية” أصبحت له قوة مرئية وحقيقية على الأرض وهذه القوة سوف تقاوم أي انقلاب عسكري مهما يكن مصدره. والحقيقية الثانية هي ان التيار المجتمع المدني الحقيقي (والمنظمات الحقوقية) بدأ يستعيد دوره وثقله في تركيا وهذا ما يشكل مانعا حقيقيا لحدوث أي انقلاب عسكري. والحق لولا هذين العاملين لرأينا وضعا على غير ما نراه اليوم في تركيا!
لكن فوز حزب “العدالة والتنمية” في ثلاث مؤسسات الهامة (برلمان، والرئاسة، والرئاسة الحكومة) لا يعني أن تركيا باتت مستقرة سياسيا وامنيا وأنها في الطريق الى تنفيذ وعودها الأوربية والأمريكية وعلى الصعيد الإقليمي (أي ان تكون دولة فاعلة ومتجاوبة ومتحاورة ومتواصلة مع المحيط الإقليمي). فقد دخلت تركيا في ذروة الانقسام المجتمعي والسياسي (عموديا وأفقيا)، ويبدو ان إكليل الورد الذي وضعه الرئيس الجديد على قبر مصطفى كمال أتاتورك (باني تركيا الحديثة)، وكلامه عن دوره مستقبلا الذي أكد فيه بان: “العلمانيّة، التي تشكّل أحد المبادئ الأساسيّة في جمهوريّتنا، هي شرط مسبق من أجل السلام الاجتماعي، بقدر ما هي محرّرة لمختلف أساليب الحياة.. ما دمت موجوداً في منصبي الجديد سأحتضن جميع المواطنين من دون تفرقة، وسأحافظ على عدم الانحياز بكثير من الحرص، وأبوابي ستبقى مفتوحة”. وكذلك، فتصريحات اردوغان عشية انتخاب غول لم تطمئن العسكر والأحزاب العلمانية. فما سمعناه من اردوغان من التصريحات التصالحية يفهمها العسكر والمتابعون للشأن التركي كنوع من سلوك “تقية” يمارسه رجب طيب اردوغان وجمهور حزبه في هذه الأيام. خصوصا ان اردوغان وقبل أيام قليلة صرح وهذا ما أثار الخوف من جديد في نفوس العلمانيين بأنه سيطرح مسودة دستور مدني على البرلمان. والدستور المدني المقترح يعطي الحق بلبس الحجاب في المدارس والمعاهد والجامعات وفي مؤسسات الدولة. وهذا يعني أن ما فعلته تركيا من خلال عمرها العلماني استطاع اردوغان محوه بلمح البصر. ومن الطبيعي هذا يشكل تهديدا حقيقيا للدولة العلمانية الكمالية التي بنيت بالأساس على اساس انسلاخ تركيا من عالمها الإسلامي وكذلك عن تراثها وثقافتها.
في كل الأحوال، هذا الأمر لا يقبله كل من له صلة بالعلمانية الكمالية… قد يبدو ان صمت الجيش وامتناع حزب الشعب يعني قبولاً ضمنياً لوصول غول إلى الرئاسة. إلا ان البيان الذي أصدره قائد الأركان بيوك انيت في مناسبة “عيد النصر” (نقتبس منه: “أمّتنا تراقب تصرّفات مراكز الشرّ التي تحاول، وبشكل منهجي، المساس بالطبيعة العلمانيّة للجمهوريّة التركيّة.. إنّ المخطّطات الشنيعة التي تهدف إلى هدم القيم الديموقراطيّة والعلمانيّة في الجمهوريّة التركيّة تظهر بأشكال مختلفة كلّ يوم.. لن تحيد القوات المسلحة التركية كالعهد بها دائماً عن موقفها الحاسم وعن واجبها حراسة تلك القيم”) يوحي بان ثمة صراعاً حاداً قادماً لا محالة. ويبدو أنّ تصريحات رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان عقب الانتخابات الأخيرة، التي أكد فيها تمسّكه بـ”النظام العلماني” واستعداده للنقاش مع “الشركاء في الوطن”، وكذلك محاولة غول لطمأنة النخبة العلمانيّة من خلال التشديد على المبدأ نفسه، لم تنجح في تهدئة بيوك انيت ومؤسّسة الجيش.
ثمة من يرى بان تركيا في عهد غول ستدخل في وضع مختلف كليا عن وضع السابق. وهناك من سمى مرحلة غول بمرحلة “الجمهورية الثانية”، وهناك تسميات أخرى… بيد ان الأمور لا تجري كما يحلوا للعلمانيين. فهم يعرفون بان الثقافة التي يحملها غول ليست الثقافة التي يحملها دانيز بايكال او ثقافة سيزر او أي علماني آخر. فالثقافة التي يحملها غول هي ثقافة إسلامية، وهذا ما يثير حساسية بالغة لدى العلمانيين. وما يثير الحساسية هو الحرب الإيديولوجية وحرب الحامل الثقافي. وحسب العلمانيين فرغبة غول وإردوغان في دخول النادي الأوروبي تعكس همّاً إسلامياً في بعده الإستراتيجي، بقدر ما تعكس همّاً قومياً.
ولا نستغرب بان “العدالة والتنمية” سعى كثيرا لتقرّب نحو الاتحاد الأوربي. فلولا هذا السعي ربما كان اخفق في الوصول الى الرئاسة والبرلمان ورئاسة الحكومة. بمعنى ان اهتمام “العدالة والتنمية” بالاتحاد الأوربي ساهم في تعبيد الطريق لاستلام حكم تركيا ثانية. فمن سمع كلام رئيس المفوضية الأوروبية خوزيه مانويل باروزو بأن ” انتخاب غول رئيساً قد يعطي زخماً جديداً لمفاوضات انضمام تركيا إلى الاتّحاد الأوروبي… إنّ الانتخابات الرئاسية التركية ووصول حكومة جديدة تحظى بتفويض شعبي واضح يشكّلان فرصة لإعطاء دفع إيجابي لعملية الانضمام من خلال تحقيق تقدم في العديد من المجالات الأساسية، أنّ الرئيس الجديد سيضطلع بمهماته بحسّ كبير بالواجب حيال بلده وشعبه” يفهم مدى الجهود التي بذلها زعماء “العدالة والتنمية” ليدفعوا الأوربيين للعودة باهتمام بتركيا! والسؤال الأكثر إلحاحا هو الى أي مدى سيكون غول صادقا مع وعوده الاخيرة؟ والسؤال الآخرهو: هل انتهى دور العلمانية الكمالية في تركيا، وعادت تركيا لتأخذ مسارا أكثر صحة عن ما قبل؟ والسؤال الأهم هو: هل سينقذ العدالة والتنمية تركيا من حالة الانقسام المجتمعي والسياسي؟ وهل سيبني الحزب جسرا تصالحيا بين التيارات والإيديولوجيات والخصوصيات المختلفة في تركيا؟
faruqmistefa@hotmail.com