يعاني الشباب السوري عموماً مشاكل وهموما عديدة تبدأ بالفقر ولا تنتهي بالبطالة وتأخّر سنّ الزواج، ويتلمّس الشباب أيضاً وبشكل يومي سيئات الوضع القائم في بلادهم من فساد واستبداد، ويعون تماماً أن وضعهم البائس لا يعدو كونه نتيجة لسياسات السلطات، فالحريات العامة معدومة، والتعبير عن الرأي بشكل علني شبه مستحيل بالنسبة للكثيرين، حتى لو اختص هذا التعبير بقضايا الشباب وهمومهم بعيداً عن السياسة ومكوناتها.(تم الحكم على الطالبين الجامعيين محمد عرب ومهند الدبس، بالسجن ثلاث سنوات بسبب اعتراضهم على مرسوم تشريعي يتعلق بأوضاع طلاب كليه الهندسة، حيث لا وجود لأي نشاط سياسي في موضوع نشاطهم)، فالجامعات تعدّ الوسط الأكثر نشاطاً وفاعلية بالنسبة للشباب إلا في بلدنا سوريا، حيث تعمل أجهزة الأمن على تدجين الشباب الجامعي استكمالاً لما تكون منظمات حزب البعث قد فعلته بعقولهم في مرحلة ما قبل الجامعة، ما دفع بالجيل الشاب لأن ينأى بنفسه عن العمل بالشأن العام، فأفسح المجال إلى “الختيارية” ليحتلوا الشأن العام كله، حتى المختّص منه بقضايا الشباب.
أما الشباب الذي غامر ودخل إلى حقل العمل العام فقد وجد نفسه فجأة بين مطرقة النظام وسندان معارضته، فهو محاط بالسلطة من جهة، مع كل ما تمثله من ظلم وقسوة في التعامل معه، ومحاط من جهة أخرى بالنشطاء “الكبار” الذين ـ وفقاً لآراء الشباب ـ لا يختلفون كثيراً عن سلطة عاصروها وتربوا في كنفها، أثرت فيهم ووصمتهم بأسوأ طوابعها: الإقصائية.
لعلّي ألتمس عذراً للمعارضين الكبار، وأرجع السبب إلى إحساسهم الدائم بعظمة وجلالة التضحيات التي قدموها، فاعتقال أشخاص لفترات راوحت بين عشر سنوات وعشرين سنة تضحية جليلة، لا يحق لأحد أن ينتقص منها أو أن يتجرأ ويشرع بتقييمها، فالإحساس بمنافسة بعض الشبان الصغار قد يثير حفيظة بعضهم.
لكن هذا لا يعني أن الناشط الشاب لا يضحّي ولا يدفع ثمناً، ربما هذا الثمن لا يقارن بالطبع بما قدمه النشطاء الكبار، فبالرغم من إدراك الجيل الشاب لما قد يعترضه من مخاطر لانخراطه في العمل العام، فهو يقدم عليه إيماناً منه بأحقيته في هذا العمل، كون التغيير نحو الأفضل سيطاله أكثر من الآخرين الذين يفوقونه سناً بكثير، وعلى الرغم من إدراك كبار المعارضين (الكبار بالسنّ) لما يقدمه الناشط الشاب من تضحيات مضاعفة أبرزها وضعه مستقبله المهني والدراسي في كفة والعمل العام في الكفة الأخرى وترجيح كفة العمل العام، فهم ـ ياللأسف ـ لا يقيمون لهذه التضحية وزناً، ولا يقدرونها بالحد الأدنى، مع إدراكهم لحاجتهم الماسة لهؤلاء الشباب كونهم رافداً طبيعياً للجيل السابق.
نتيجة لذلك نشأ صراع غير معلن بين شباب المعارضة السورية وكبارها، تمثل هذا الصراع بخروج معظم الشباب من المعارضة وابتعادهم عن معظم كوادرها، تلتها حالة من النفور من هذه المعارضة التي تقصي الشباب كما يفعل النظام تماماً، دفعت الشباب إلى عزل أنفسهم عن الكبار وممارسة نشاطهم المستقل وبدون وصاية من أحد.
لكن القاعدة ليست جامدة إلى هذا الحد، فقد يعمد النشطاء الشباب إلى طلب المشورة أو النصح ممن يجدونه ثقة من المعارضين الكبار، لكن الأخيرين يخذلونهم في معظم الأحيان لأسباب تراوح بين الخوف من تحمل جزء من تبعات نشاطهم، وبين عدم أخذهم على محمل الجد، أو عدم امتلاك فائض في الوقت لتخصيصه لهم، أو عدم رغبتهم في التعاطي معهم أصلاً.
أما الشباب الذي “كسر على أنفه بصلة” ودخل إلى الأحزاب أو إلى المنظمات وجدها بعيدة عن العمل المؤسساتي الذي تنادي به، تختصر نفسها في شخص واحد هو رئيسها وصاحب الحل والربط فيها، حتى ضمنها يوجد سلطة ومعارضة، الفردية فيها واضحة وتدفع إلى الاحباط، يرأسها ـ كالنظام تماماً ـ شخص ما “إلى الأبد”، ما جعل العناصر الشابة في موقع صدام مع القيادات في كثير من الأحيان ودفعها إلى الانتقال إلى منظمة أو جمعية أو حزب آخر، لم تكن تجاربها فيه أوفر حظاً، وفي النهاية قررت الابتعاد عن الشأن العام.
لعل أبرز ما يعانيه الكبار (الحرس القديم كما أصفهم) في المعارضة معاصرتهم مرحلة الاعتقالات الجماعية الطويلة الأمد، وأحداث الثمانينيات، فهم يعون تماما قسوة النظام وظلمه، الأمر الذي يجعلهم يعدون حتى المليون قبل أن يفكروا القيام بأي عمل أو نشاط، وهنا يبدأون إقصاء الشباب الذي من شأنه أن يحرج مواقعهم في حال تبين أن شباب المعارضة أكثر جرأة وفاعلية من الكبار، فيبدأ الكبار بحملة إقصاء وتهميش ضد الشباب، تتمثل أحياناً بلوم الشباب ووصفهم بالطيش والتهور وقلة الخبرة، فيما الحقيقية أن الجيل الشاب مندفع ومستعد للتضحية تماماً كما ضحّى الكبار في شبابهم (معظم النشطاء الكبار حالياً اعتقلوا في شبابهم). فالعلاقة بين الجيلين لا يمكن أن تكون جيدة طالما أن الجيل القديم يسعى نحو رضوخ الجيل الجديد لشروطه وأفكاره وآليات عمله التي يعتبرها الجيل الصاعد قديمة.
أما الجيل الجديد فقد ملَّ من الإيديولوجيات، وأصيب بتخمة من التنظير لذلك فقد أدرك تماماً بأن عليه أن يبدأ عمله بشكل مستقل ومن الصفر، وأن يتجاوز كبح الحرس القديم.
فحتى لو بدأت محاولة للتعاطي بين الجيلين بهدف استيعاب الجيل الشاب نجد أن عناصر من الجيل القديم تتصدر لتشرح بدورها مشاكل الشباب كما تراها هي، ولا تتيح للشباب أن يشرح مشاكله بنفسه، وفي النهاية على الشباب أن يقبلوا بهذا الواقع أو يتهموا بالطيش والتهور.
أما ما يدفع به المتحمسون للنشطاء الكبار من خبرات ومعارف الجيل القديم وأن الجيل الشاب عاجز عن صناعة شيء جديد، فهو مبرر ضعيف عموماً، فخبراتهم “على العين والراس” لكنها لا تنتج كثيراً في أيامنا هذه، أصبحت “دقة قديمة” كما يراها الشباب، معظمها مخيب لآمال الجيل الصاعد، إضافة إلى ما يراه الشباب من تهافت بعض النشطاء الكبار على النجومية وشن حملات ضد بعضهم البعض، ناهيك عن أن معظم نشطاء الجيل القديم ليسوا ديمقراطيين داخل مؤسساتهم، الأمر الذي يجعلنا نتوقف عند مصداقية دعواتهم إلى عمل مؤسساتي ديمقراطي.
أما عن “الشيء الجديد” فإن الوضع في البلاد عموماً لا يسمح بالجديد، فحرية الفكر مسلوبة، التجمعات ممنوعة، الحوار ممنوع، حتى المواقع الإلكترونية حجبها النظام، والجيل القديم أيضاً “بخبراته” عاجز عن تقديم أي جديد.
لكن المطلوب ليس الوصول إلى حالة من القطيعة بين الجيلين، بل الوصول إلى صيغة يصنعها النشطاء الكبار والشباب معاً، تساعدهم على تأطير نشاطهم في قطاعات منتجة، وتساعدهم بالإحساس بأهمية نشاطهم الأمر الذي قد يحفزهم على المزيد بعدما عانوا ما عانوا من قمع من السلطة وتهميش ـ ربما غير مقصود ـ من المعارضة. إضافة إلى المساعدة في تثقيف النشطاء قانونياً تحسباً لأي مواجهة مع السلطات سيكونون منها في موقع الضعيف دون معرفتهم بحقوقهم ولو نظرياً، ومساعدتهم في الحصول على الكتاب ولو بطريقة الإعارة الأمر الذي يساعدهم على القراءة مع كل ما يرافقها من زيادة في المخزون الثقافي والعلمي والتحليلي، وتنازل النشطاء الكبار قليلاً وقبولهم بعض الإقتراحات التي يقدمها الشباب، والمساعدة في وصول بعض الكوادر الشابة ـ المؤهلة طبعاً ـ إلى بعض المواقع الهامة، ناهيك عن مراقبة هذا النشاط والمساعدة في منع الخروج عن القواعد والأعراف التي اتفق الجميع عليها ضمن العمل العام (شرف الغاية من شرف الوسيلة).
لا تعدم المعارضة طبعاً نقاطاً مضيئة كثيرة بهذا الصدد، فتجربتي الشخصية، رغم قصرها وقصورها، جمعتني بعدد ليس بقليل من كبار السن، أثر في معظمهم، سلباً وإيجاباً، لكن الشخصين اللذين تركا فيّ أثراً إيجابياً كبيراً هما الأستاذان ميشيل كيلو ورياض الترك؛ فكيلو مثلاً كان خير الصديق والرفيق خلال اعتقال والدي عام 2005 رغم حداثة معرفتي به وقتها، (أصبح يلقبني بأبو نضال بعد اعتقالي)، ونصحني كثيراً خلال غياب والدي، ونصحني أكثر عندما جمعنا القدر في ذلك السجن الكريه، وأرشدني إلى نوعية الكتب التي تفيدني قراءتها داخل مكتبة السجن، شجعني دائماً وأخذ بيدي، وبصراحة، أشبع “غروري” المتواضع لدرجة لم أعهد لها مثيلاً، قرأ مقالاتي القليلة وهنأني باستمرار على تقدمي في الكتابة.
أما “ابن العم”، رياض الترك، إبن الـ74 عاماً ، فهو، كما يصفه الأستاذ بيار عقل، ينتمي إلى جيل الشباب الصغار الذين يتحدّثون عنه كواحد منهم. وبين الحزبيين، والنشطاء غير الحزبيين، يبدو الأقل محدودية حزبية والأجرأ فكرياً رغم انتمائه الحزبي المديد، ميله إلى الجيل الشاب واضح، فحتى في الماركسية، يميل إلى “ماركس الشاب”، الذي كان تخلّف بلاده في القرن 19 يشابه تخلّف بلادنا.. في القرن الـ21.
لعل الروح الشابة التي يتمتع بها رياض الترك قربّته منا كشباب وقربتنا منه كنشطاء، ففي حواره لذة لا تنالها مع الكثيرين، وفي عصبيته حِلم لا يخفى، وفي أسلوبه طريقة إقناع يعجز معظم الآباء عن التعاطي مع أبنائهم بمثلها. لعل هذا أبرز ما نحتاجه نحن الشباب من النشطاء الكبار، فالقبول بنا وأخذنا على محمل الجد وتشجيعنا ومساعدتنا في نشاطنا إضافة إلى إنارة الدرب أمامنا هي من صلب مهام هؤلاء.
ختم د.عصمت سيف الدولة كتابه: “الشباب العربي والهوية، مشكلة الإنتماء”، بحديث للرسول محمد عليه الصلاة والسلام، أختم فيه بدوري هذه المقالة وأوجهه إلى النشطاء الكبار.
قال رسول الله: “استوصوا بالشباب خيراً، فإني قد بعثت فحالفني الشباب وخالفني الشيوخ”.
ma.abdallah2007@gmail.com
* ناشط وحقوقي سوري.