جاءت إحدى الصبايا منتشية وسعيدة:
ـ اليوم شربت قهوتي من يد حفيد الملكة.
ـ حفيد الملكة؟
فهمنا أن الشاب /قريب الملكة أو من عائلة الملكة قي هولندا، يعمل في فترة الصيف في مقصف الجامعة، مثله مثل بقية الشباب.
معظم الشباب الأوروبي يعملون في فترة الصيف، وربما أكثرهم يعملون طوال العام ليؤمنوا مصروفهم اليومي من مأكل وملبس ومواصلات.
معظمهم يستقلون بمصروفهم منذ السادسة عشرة.
يظل الطفل طفلاً مدللاً، مرفهاً، غير مبال، إلى أن يحل يوم ميلاده السادس عشر، فجأة ينتقل إلى خانة أخرى، تعامل آخر من الأهل، وتعامل آخر من المسؤولين ومن المدرسة، ومن المجتمع والقانون. صار هناك واجبات وحقوق جديدة، عليه أن يمارس الأولى وله أن يطالب بالثانية، هذا إن أراد أن بكون فرداً نافعاً وبالتالي جديراً بالاحترام.
يعمل الشاب/ الشابة في كل المجالات وحسب المتاح من دون احتجاج، قد يعمل في التنظيف، أو سائق سيارة أجرة، أو مساعدا لكبار السن، أو في روضات الأطفال. والأغلبية يتوجهون إلى أشغال الكافيتريات والمطاعم أوالمحاسبة في محلات التسوق، وهي الفرص المتاحة عادة لهذه الأعمار، والتي تتطلب الحركة السريعة والقوة البدنية والمرونة النفسية.
يشغلون وظائف وأعمالاً غالباً ماتكون مؤقتة، لأن أكثرهم بالضرورة طموح إلى إكمال التعليم وتحقيق الآمال الكبيرة والحرة.
يعمل الشباب كي يوفروا مصروفهم، ولايأبهون كثيراً لطول سنوات الدراسة، بقناعتهم أنهم لايضيعون الوقت، فالعمل يكسبهم مرونة حياتية لاتقل أهمية عن المعلومات التي يتلقونها في الجامعة. كأن عبور هذه المرحلة لايتم إلا بتخطي هذا الجسر، جسر الأعمال المؤقتة والمتنوعة والتي تخدم المجموع وتساعد الشاب أيضاً. قد تستغرق سنوات دراسة طالب الطب مثلاً ثلاثة عشر عاماً، في حال رغب أن يعتمد بمصروفه على نفسه.
يتخرج الطالب مختمراً تجربة وعلماً، ذلك لأنه اشتغل خلال هذه السنوات واختبر الناس والحياة، وصار بعد تخرجه، جاهزاً للعمل في مجال دراسته، ومستحقاً أعلى الرواتب، وصار أهلاً لأن يعيش حياة مريحة ويقضي إجازات صيفية في جزر الكناري مثلاً.
تكاد استوكهولم في شهر تموز/يوليو تفرغ من الناس، ذلك لأن الجميع يذهبون في إجازة الصيف، ولكي لاتتعطل بعض الأعمال، يشجعون الشباب على العمل المؤقت.
في ملصق أعد لبداية الصيف ملأ ساحات استوكهولم وأرصفتها، شابة، على سبيل الدعابة، تمسك بأذن رجل يبدو أنه صاحب العمل، وبيدها الأخرى سماعة الهاتف منادية الجهة المسؤولة محذرة:
ـ صاحب العمل لايريد تشغيل الشباب.
فيما تبدو صورة الرجل وهو مشدود من أذنه خجلاً من نفسه على فعلته.
كتبت إحدى الفتيات عن تجربتها الأولى بالنزول إلى العمل، وهي لم تتجاوز السادسة عشر من عمرها، كانت تجربة طريفة ومحزنة بالآن نفسه، تقول إنها عملت في مساعدة متقاعدين، رجل مسن كثير الطلبات، وأكثر طلباته لم تكن تستطيعها، منها أن تشتري لضيوفه مشروباً كحولياً. قالت إنها لم تكن تعرف أن شراء المشروب في استوكهولم يحتاج أن يكون الشخص بعمر لايقل عن العشرين، ذلك لأن المشروبات الكحولية بقبضة الدولة، بيعاً وشراء واستيراداً وتصديراً.. حين ذهبت إلى محل بيع الخمور وملأت السلة بأنواع النبيذ المطلوبة، وتوجهت إلى الصندوق، نظر الموظف إليها نظرة شزراء وطلب منها إبراز هويتها. خافت البنت وكادت أن تبكي.
هذا عدا عن المتقاعدة الثانية التي كانت تطلب منها أن تغسل لها الثياب بشكل يدوي كي لاتتلف بالغسالات الآلية، والثالث الذي يفضل التسوق بأرخص الأثمان، ومن حوانيت عديدة، مما كان يكلفها جهداً ووقتاً إضافياً..
طلبات لم تكن تنتهي، ومعظمها لاتفهمها ولاتعرف كيف تتدبرها. نوادر كثيرة حدثت معها، تقول بلغة طفولية حارة: كان صيفاً متعباً لي.
ـ أنت بالغ.
كلمة البالغ تكاد تلفظ آلاف المرات في اليوم لأهميتها. تكررها زوجة صديقنا السويدية مستغربة مساعدات المسكين لأهله في سوريا، تتساءل كيف يساعدهم، وكلهم من البالغين. أخته في الأربعين، أخوه في الخمسين، أمه في السبعين، وأبناؤهم أيضاً، تقول لايوجد أي طفل تحت السادسة عشرة.
ومع ذلك مضطر الرجل إلى إرسال نصف راتبه مساعدات.
كثيرون من الأمهات والآباء في بلادنا يعتبرون تشغيل الولد أو البنت قبل أن يتخرج من الجامعة، عيباً يؤخذ عليهم.
والطالب يتباهى بأن مصروفه الذي يأخذه من والديه يكاد يعادل مصروف عائلة بحالها، وأذكر أن هناك من المدللات اللواتي كن يسخرن من الأهل. وكيف أن أم إحداهن وأباها يكثران لها من الهدايا كي يكسبانها صريحة معهما..
ولكن علينا أن لانلوم الأمهات والآباء في حرصهم على أولادهم شباباً وفتيات ذلك لأننا نعرف كلنا أن فرص العمل في بلادنا لمثل هذه الأعمار ضاغطة ومؤذية.
في قرية من قرى بلادنا، فتاة بعمر السادسة عشر، كعمر الصبية السويدية، طموحة إلى شراء الثياب وأدوات الزينة، واقتناء الهاتف المحمول. لكنها بنت قرية بسيطة، وأبوها المسكين لايحتمل طلباتها وطلبات أخوتها. قررت أن تشتغل بياعة في محل نوفوتيه، رأت أنها بهذا تكون على ملامسة مع عشقها/ التزين، وتتمكن ربما من الاستفادة من بضائع المحل، كذلك يمكنها أن تضع في جيبها مايساعدها على تحقيق غاياتها. ماذا حدث؟ بعد أسبوعين من العمل وبعد أن أعجبتها بضاعة المحل وقبلت كل الهدايا التي قدمها لها مالك المحل، صار عليها أن تكافئه بقبول ملاطفاته، وحين لم تقبل لأنها لاتحب ملاطفات كل الرجال، طردها.
لم تتأثر البنت ولم تبك، كانت فتاة عملية. راحت تفكر، ماذا تفعل، وقد ضاقت أمامها السبل في نيل رغباتها الجامحة بشراء الثياب والأحذية؟
سمعت أن شيخ الجامع في القرية يكافئ على حفظ سورة طويلة من القرآن بمبلغ ألف ليرة. وذلك تشجيعاً لشباب وشابات القرية على العودة إلى الدين.
وجدت الفتاة الحلول العملية لرغباتها، وراحت تحفظ كل أسبوع سورة طويلة من القرآن وتنال عليها ألف ليرة سورية.
تملأ هاتفها المحمول، وتشتري أنواع الشوكولا التي تفضل.
ضربت البنت الرقم القياسي في الحفظ. وتفوقت على بنات الضيعة في تزينها، وغلبت أباها وأهلها بحكمتها، ولم تنته عطلة الصيف باكية، كما حدث مع البنت السويدية التي اشتغلت مع الرجل المسن.
فهل نصفق لبنت البلد لأنها نفدت من مأزقها وحققت مآربها، أم نصفق لبنت استوكهولم التي أنهت الصيف متعبة وكبرت فيه عشر سنين؟
sarraj15@hotmail.com
* كاتبة سورية