في حروبها مع الصين وروسيا وكوريا منذ 1894 إلى 1945 كانت اليابان تخرج منتصرة، وهي دائماً إمّا مجتاحة لهذه البلدان، أو محتلة، أو ضامّة لها [أو لأجزاء منها] إلى إمبراطوريتها.
لكن، ما حدث في عام 1945، بإلقاء القنبلة الذرية الأمريكية على هيروشيما اليابانية، كان صدمة للإمبراطوية اليابانية.
حينها كان الإمبراطور الياباني، حسب الثقافة التقليدية، شبه إله، فهو إذا أمر يابانياً بأن يموت لُبّي طلبه كأنّه أمر مقدس؛ إلاّ أن الإمبراطور هيروهيتو، وهذه مكانته، لم يتراجع عن إعلان هزيمة اليابان عبر بيان الاستسلام الذي بثّته الإذاعة في 15أغسطس 1945.
وتفاجأ الكثيرون من اليابانيين الذين يتباهون بانتصاراتهم، وقدرتهم على المقاومة، بإعلان الاستسلام، كما فاجأتهم الهزيمة، إذ يعني أن الإمبراطور (المقدّس) قد تحوّل إلى كائن بشري، حسب تعبير الروائي كينزا بورو أوي، ومع هذا أصبح غضبهم من اكتشاف الحقيقة مصدراً للطّاقة، حيث كان على اليابانيين أن يعيدوا ترتيب أوضاعهم من جديد، من خلال البحث في الخلل الذي أدّى بهم إلى هذه الفجيعة عبر إعادة النظر في المنطلقات الأساسية العقائدية: الفكرية والسياسية، واتخاذ وجهة جديدة تستفيد من الماضي، لكنّها لا تكرّره، كما تستفيد من العوامل التي أدّت إلى تفوق الآخرين.
ولم يكن لليابانيين، بعد ذلك، تلك النهضة الصناعية والتكنولوجية، كما يبدو لي، لو لم يعترفوا بهزيمة مشروعهم القديم وانطلاقاته.
في الحال العربي، تأسست جامعة الدول العربية في القاهرة عام 1945 وهو العام نفسه الذي استسلمت فيه اليابان، كما تم فيه إعلان ميثاق منظمة الأمم المتحدة. وقد توالت انقلابات عسكرية باسم ثورات وحركات تصحيحية، كما توالت الهزائم الوطنية والقومية، سواء بين الدول العربية نفسها، أو بينها وبين دول خارجية، حتى جاءت هزيمة 1967. يومها كان جمال عبد الناصر حكيماً وشجاعاً إذ أعلن عبر وسائل الإعلام تحمّله المسؤولية الكاملة لما حدث، وبالتالي قرّر تنحّيه عن الحكم. لكن المنافقين والمنتفعين من قادة حزبه لم يرضوا بذلك فدفعوا بالجماهير المنفعلة إلى الشوارع، وعلت الهتافات: ((سنحارب..سنحارب))، وهم بذلك لم يتركوا للثكالى واليتامى والجرحى بعض وقت للحزن والتضميد، ولم يَدَعوا للعيون والعقول فرصة لفحص الجثة المنهكة والمثقلة بالهزيمة، ولم يرتّبوا لنهارات أخرى جديدة أكثر امتلاء ووجوداً ونهضة. كان يكفيهم الشعار المجلجل ((سنحارب.. سنحارب)) الذي لم يعترف بما حدث وما هو واقع.
وها نحن الآن، بعد توالي خيبات وهزائم أخرى، وبعد كل ما حدث في العراق، وما هو قائم في الواقع العربي، نجد من يصرّح ويكتب تمجيداً للمقاومة، في مستواها الممارس، في الوقت الذي لم يتح فيه للملاين من العراقيين أن يلتقطوا أنفاسهم من أثر الحرب، ولم تنته بعد مراسم الدفن والعزاء…. والبكاء، الذي هو بعُرف هؤلاء خاصية (نسائية) وإعلان جبن (ذكوري).
وليس لهؤلاء أسئلة تثبِّت خطاهم مثل: مقاومة في سبيل مَنْ، وهل هي من أجل إيجاد حكومة وطنية؟ أم هي من أجل دولة إسلامية؟ وفي الحالين: ما شكل الحكومة الوطنية المرجوة وهل يمكن إقامتها من دون القوى السياسية الأخرى المختلفة معها و المتواجدة بعضها حالياً في السلطة؟. وما هو مفهوم الوطنية إذا لم تشر إلى فكرة المواطنة الآمنة والحرّة والعادلة لكل فئات وطبقات المجتمع بمختلف قومياتهم ومذاهبهم الدينية والثقافية؟ وهل حكم صدام حسين حقق هذه المواطنة حتى يصبح نموذجه منشوداً؟
وبالنسبة للدولة الإسلامية، هل يمكن تحققها على الأسلوب البنلاديني، نسبة إلى بن لادن، أم على الطريقة الخمينية؟ وإلى أين سيذهب العراقيون غير المسلمين، من الديانات الأخرى واللامتدينين؟
وأيضا، وبحجة الاحتلال: أليس مصيره الرحيل، وأن أي حكم وطني ديمقراطي لا يمكن أن يقبل بإدامته بعد أن تستقر الأوضاع؟
ثم، هل الشعوب العربية، عامة، بخير بحكّامها؟ وأين يكمن الخلل ومن المسئول عنه؟ أليس الخلل في الحكّام والشعوب معاً، في المشاريع السياسية والثقافية والاجتماعية؟
وسؤال الأسئلة: ما هو مستقبل العرب حكاماً وشعوباً بعدما حدث؟
طرح هذه الأسئلة والإجابة عليها، يبدو لي، إحدى المرجعيات الضرورية للمقاومة؛ إذ من العبث أن تستمر مقاومة بل جدوى، سوى ما تحققه يوميا من سفك لدماء العراقيين.
ولا يعني هذا القول أنني مع بقاء احتلال العراق، بل يعني أنني لست مع الذين يقدمون أنفسهم كبديل له على الهيئة التي ظهروا بها قتلة وتجار حرب أهلية، ومتطرفين لا يقبلون بمن لا يقاسمهم المذهب وسفك الدم.
وأنا لست مع القول بأن أميركا جاءت من أجل سواد عيون العراقيين، إذ هي جاءت لتحقيق مصالحها الإستراتيجية، إلاّ أنها أيضاً حققت مصالح الكثير من العراقيين بمساعدتهم في التحرر من سلطة قمعية لم يستطيعوا أن يسقطوها في كل محاولاتهم.
ومهما كانت المسببات والأهداف التي أدّت إلى الحرب ضد العراق فإن ما حدث هو الهزيمة، والتي برزت في عدم قدرة المشروع القومي السلطوي على الصمود والمواجهة، وهو المشروع الذي مارس الاستبداد القمعي ضد الشعوب العربية في الوقت الذي رفع فيه شعار التحرر القومي. فما حدث ليست معركة عابرة، بل هي هزيمة لهوية ثقافية وحضارية تكلّست ولم تتجدد، هزيمة لتوجه سياسي واجتماعي واقتصادي تخلّف عن متطلبات العصر، تلك المتطلبات التي هي بالضرورة حديثة، ولا تنسجم مع نظام الحكم العربي الذي انتهى، لعجزه عن مواصلة البقاء.
من هنا فإن الاعتراف بالهزيمة، بل وبفداحتها على كل المستويات، يعني بداية القدرة على إعادة بناء ما تخرّب في الإنسان العربي. وتشكيل وجهة جديدة لمقاومته التي ليست بالضرورة أن تكون مسلّحة وضد الآخر، خاصة حين نكتشف أن الآخرين هم نحن! أي من الأهمية أن تبدأ المقاومة فينا ومن خلالنا. فمن حق الشعوب العربية أن تمارس أبسط حقوقها في المواطنة المتساوية وحرية التعبير، وحقها في تغيير الحكم والحاكم لكي لا يصبح هذا التغيير من مهمة القوات المسلحة الأميركية وحدها. كما من حقّها أن يتم تسخير أهداف التنمية الشاملة لصالحها بدون أية إعاقة.
ولا يبدو، والحال هكذا،أن باستطاعة الحكّام العرب أن ينجوا من الهزيمة وتبعاتها ليواصلوا رحلتهم مكللين بالشعارات الوهمية إذ أنهم العنوان الأول لهذه الهزيمة وفضيحتها. وليس أمامهم سوى طريق الإمبراطور الياباني هيروهيتو، الذي تدارك الأمر مبكراً، أو الانتحار بطريقة (الهاراكيري) المشرّفة، وهي طريقة يابانية، أيضاً.
* كاتب من اليمن
ali_almuqri@yahoo.com
نقلا عن ( الصباح الجديد)
لماذا لا يعترفون بهزيمتهم؟
*لم تفعل امريكا في العرب ما فعلته في فيتنام ومع ذلك لم يضعوها عدوا لهم يجب الانتقام منه” بتفخيخ” الاطفال والشبان وسط المدنيين، انما عدوهم الاساسي هو الفقر والتخلف الذي باشروا محاولة التغلب عليه بالتعاون مع كل من يستطيع مد يد العون حتى مع الشياطين كبارهم وصبيانهم و في مقدمتهم امريكا…!
*الاساس في العلاج النفسي ان يذهب المريض من تلقاء نفسه الى الطبيب، ولن يتأتى ذلك الا اذا اعترف لنفسه بأنه مريض يحتاج الى العلاج، آنذاك فقط يمكن لتدخل المعالج ان يفيد..
*ربما العراقيون لم يتعودوا مباشرة امورهم التي كانت تباشر من طرف “الحجاج”!!