(الصورة: هاشم الأتاسي وفارس الخوري في توقيع المعاهدة الفرنسية- السورية، 1936)
ثمة مسلمة ضمنية غير مفحوصة في الدعوة الديموقراطية التي هيمنت في أوساط المثقفين والناشطين العرب منذ أكثر من ربع قرن: إن التطابق بين الديموقراطية والوطنية مسألة بديهية لا إشكال فيها، أو إن بلداننا الراهنة أطر طبيعية للتحول الديموقراطي. والحال، يبدو ذلك تبسيطيا في أحسن الأحوال، وخاطئا بالمرة في أسوئها. يبدو كذلك أنه يصدر عن افتراض أن بلداننا تعاني من مشكلة الاستبداد فقط، وأن هذا استبداد محض، محايد وطنيا واجتماعيا. ليس الأمر كذلك.
طوال عقود كان لبنان البلد الديموقراطي العربي الوحيد. لكن الديموقراطية اللبنانية عانت على الدوام من آفتين خطيرتين: انقسام اللبنانيين، وقد تفجر صراعا أهليا عنيفا غير مرة؛ والحضور الكثيف لقوى خارجية قريبة وبعيدة في الشأن اللبناني، وهو ما يعبر عنه بكلمة «ساحة» التي لطالما استخدمها لبنانيون وغير لبنانيين في وصف البلد الصغير. وفي المجمل كان اندماج اللبنانيين الوطني من جهة، واستقلال بلدهم بشؤونه وعن غيره من جهة أخرى، منقوصين بشدة. هذه حالة عدم توافق بين الديموقراطية والوطنية نكتفي هنا بتسجيلها.
سورية، جارة لبنان وشبيهته في أمور عديدة، سلكت طريقا سياسيا مختلفا. حاز البلد على تماسك سياسي ظاهري لا يقارن بنظيره اللبناني. وفي الوقت نفسه كان حضور القوى الخارجية في الداخل السوري معدوما. لكن، بالمقابل، كان النظام السياسي في سورية، الذي لطالما فاخر بوطنيته («الوحدة الوطنية» والاستقلال عن القوى الخارجية) بعيدا عن الديموقراطية بأي تأويل لها، وغرق طوال أزيد من عقدين في آخر القرن السابق في طغيان دراكولي مخيف.
كان العراق قبل الاحتلال الأميركي من نموذج سورية. استقلال عن الخارج وانفراد بالداخل يسمى «وحدة وطنية» أيضا. كشف الاحتلال الأميركي أن المجتمع العراقي كان ممسوكا أكثر مما هو متماسك. واليوم النظام السياسي العراقي يقوم على انتخابات حرة وتمثيل شعبي، لكن المجتمع العراقي منقسم بشدة وفقا لخطوط مذهبية وإثنية، والبلد محتل وفاقد لاستقلاله، وفعل قوى خارجية متصارعة كبير فيه. وحتى لو انسحب الأميركيون اليوم، فإن من المتوقع أن يكون نفوذ القوى المجاورة والإقليميّة، فضلا عن أميركا ذاتها، حاضرا بقوة.
ما الذي نستدل عليه من هذه الأمثلة لثلاثة بلدان مشرقية؟ ألا يبدو أننا نرصد تنافيا بين الديموقراطية والوطنية؟ أن الديموقراطية تقترن باستقلال محدود واندماج داخلي ضعيف ومخاطر نزاعات أهلية؟ وأن الاستبداد قرين الوطنية وكفيل الاستقلال والاندماج (ولو أن الاندماج فوقي، والاستقلال انفراد نظام سلطة مغلق بالحكم)؟ العبرة الظاهرة من هذه الأمثلة أن الديموقراطية تفضي إلى تبعثر اجتماعي ووطني من جهة، وإلى انفلاش الداخل ونفاذ قوى خارجية إليه من جهة أخرى. العبرة أيضا أن الوطنية صنو قمع التعدد السياسي، وأن هذا يشف في كل الحالات عن تعدد أهلي.
كأنما لا مجال لكسب الديموقراطية والوطنية معا. لماذا؟ أين الخلل؟ النموذج الضمني الذي يوجه تفكيرنا السياسي هو الدولة – الأمة الغربية، ونظيراتها تنتشر في كل مكان من العالم، في أميركا الجنوبية وفي آسيا، وبعض أفريقيا. فلماذا تشكل الدول هناك إطارا لتطور ديموقراطي متماسك بدرجات معقولة، فيما يبدو التطور هذا مفتتا للدول عندنا، وتبدو حماية الدول، مؤسسات حكم وكيانات سياسية تاريخية، مقتضية للدكتاتورية؟
السر في الدولة. ذلك أن التحول الديموقراطي في أقطار أوروبا الرئيسية كان مسرحه دولا راسخة ككيانات وكمؤسسات حكم، وكانت الدول مقرا للوطنية، صانعة للاندماج وممثلة للسيادة الدولية للأمة. في هذا الشرط تكون فرص التطابق بين الديموقراطية والوطنية أكبر. وهذا لا ينطبق على دولنا لسببين كبيرين. أولهما حداثة الدولة في المشرق. فلم يكن أي من بلدان المشرق الشامي العراقي والجزيرة العربية مقرا لدول أو حاملا تقليد دولة طوال قرون أو أكثر. وهي تاليا لا تتوفر على رموز تخص الدولة أو ذاكرة دولة، ما يجعل كيانات الدول هشة وشخصياتها ضعيفة. وهو ما ألجأها إلى رموز التاريخ العربي (اليرموك، القادسية، حطين، خالد، صلاح الدين…)، لكنه هو ذاته قديم ومنقطع طوال ما يزيد على ألف عام كانت كافية لضمور ملكة الدولة عند العرب (خلافا للأتراك والفرس مثلا). عدا ذلك لا يمنح الاندراج في تراث عربي عابر للأقاليم الدولَ القائمة شرعية بقدر ما يسلبها منها. تقوم شرعية الحكم السوري، وهو نموذج أقصى فحسب لغيره، على إنكار شرعية سورية ككيان لمصلحة كيان عربي شامل مفترض. بلى، ما كانت السلطات السورية المتعاقبة جادة في قضية العروبة السياسية، لكن عقيدتها القومية المعلنة تقف عائقا أمام تطوير وعي ذاتي متسق للدولة والوطنية السورية. وليس غير هذا يرتفع بسورية من واقع كامد إلى مرتبة فكرة وقيمة ورمز يتماهى فيها السوريون على اختلاف منابتهم الأهلية.
وفي خط مواز لتعويض فقرها الرمزي جنحت الدول المشرقية جميعا إلى رفع حكامها إلى مرتبة رموز مقدسين. هذا يناسب الحكام طبعا، لكنه يسهم في إبقاء الدول الحديثة في حالة إدقاع رمزي مطبق.
وتعويضا عن ضحالة الذاكرة الوطنية لجأت حكوماتنا إلى العودة إلى ذاكرة عربية مركبة بصورة مفارقة تاريخيا من هداية دينية وأخلاقية في العهد النبوي والراشدي، ومن مجد عسكري أموي، ومن ازدهار حضاري عباسي، مع أمثَلة مفرطة في جميع الحالات. وفي خط مواز هنا أيضا جرت موازنة تباعد هذه الذاكرة عنا بنزوع إلى اعتبار تاريخ بلداننا بدأ مع عهد الحاكم الحالي. هذا كان واضحا جدا في سورية (التاريخ بدأ عام 1963، وبدايته الحقيقة عام 1970) والعراق.
أما السبب الكبير الثاني فيتمثل في التدويل العميق للشرق الأوسط، والريع الاستخراجي الجاذب له والريع السياسي المتولد عنه. ويوفر الريْعان فرصة لاستقلالية غير مستحقة لنظم الحكم عن مجتمعاتها، ولنمو غير متكافئ للجهاز السياسي والبنى الاقتصادية والاجتماعية المحلية. وحماية هذه الاستقلالية تقتضي إما الاستناد إلى عصبيات داخلية أو إلى حماة خارجيين أو إليهما معا. وفي الحالين إلى احتلال الدولة من قبل الطواقم الحاكمة. هذا محقق في جميع دول المشرق العربي بلا استثناء واحد.
وبمقتضى هذا الشرط تعاني الدولة في منطقتنا من تشوه عميق، بالنظر إلى أن دوامها مقرون بتمكنها من فنون السياسة الأهلية، وجمعها بين تفكيك مجتمعاتها (فلا تتماسك ذاتيا) و»إمساكها» أو منعها من الانفراط (بما يجعل السلطة القسرية مبدأ تماسكها الوحيد)؛ أو هو مشروط باندراجها في خطط وترتيبات وتحالفات خارجية. ليس استقرار نظم الحكم في بلداننا إلا ثمرة هيمنة عصبوية داخلية أو تبعية خارجية.
مفهوم تاليا أن دمقرطة هذه الدول تفتح الباب لاستقلال العصبيات التي كانت تشكو من الهيمنة، واتجاه هذه إلى الاستناد إلى حلفاء خارجيين يرجّحونها في علاقة التنافس والإقصاء الطبيعية مع عصبيات أخرى. ولن تكون الوطنية هنا إلا إيديولوجية تخفي الانشقاقات الاجتماعية وتعادي الديموقراطية وترعى العداء للأجنبي.
وهنا المشكلة اليوم. فالديموقراطية قد تفضي إلى انقسام وطني واجتماعي صريح وإلى فتح بلداننا ساحة للاعبين إقليميين ودوليين. لكن «الوطنية» تغدو مجرد غلالة مهترئة لانقسام وطني محقق ولارتباطات إقليمية ودولية تضمن دوام نظم الحكم، فوق اقترانها باستبداد فاحش. وحين تكون الديموقراطية مشكلة والوطنية مشكلة فمعنى ذلك ربما أننا دخلنا طور أزمة مفتوحة، قد تتفجر هنا أو هناك في أي وقت.
الحياة
في أصل خراب الديموقراطية والوطنية في المشرق
نرجو من السادة المشرفين على الموقع ان يوضحوا لنا سبب وضع هذه الصورة و مدى علاقتها بالنص المنشور . اذ انني بعد قراءة المقالة لم أستطع تبين الغاية من نشر صورة لسياسيين بارزين كهاشم الاتاسي و فارس الخوري – لا نستطيع الا ان نقول ان الحكام الحاليين لا يصلحون ان يكونوا احذية لهما – مع هكذا نص و تحليل . مع الشكر الجزيل لكم