على عكس مراد الجيش والأحزاب التقليدية (العلمانية)، أعاد حزب “العدالة والتنمية” التركي الإسلامي التأكيد على الترشيح عبدالله غول وزير الخارجية الحالي لمنصب رئاسة الجمهورية ثانية. ومن الطبيعي ان لا احد من العلمانيين ولا من أنصار منظمات المجتمع المدني والهيئات والفعاليات التركية يريد ان يكون عبدالله غول مرشحا للرئاسة، وذلك ليس تضامنا مع الجيش والأحزاب “العلمانية” إنما لأجل تجنيب تركيا الإرتدادات السياسية التي ستنعكس على الحياة الاقتصادية سلبا، واحتمال وقوع انقلاب العسكري يعيد تركيا الى ما كانت عليه قبل السنوات..
هذا الهم بات هماً رئيسيا لكل المنظمات الإنسانية والحقوقية، ومنظمات المجتمع المدني والفاعلين في حقل الدراسات والبحوث وكذلك العلمانيين الحقيقيين الذين يختلفون بالرؤى والأفكار مع العلمانية التركية (علمانية مصطفى كمال أتاتورك). هناك شريحة واسعة من المثقفين الأتراك تعتبر أنه شتان ما بين العلمانية الصحيحة والعلمانية الاتاتوركية. هذه الفئة غير محسوبة على جناحي الصراع، ولا مصلحة لها ان كان المرشح من العدالة والتنمية او من أي حزب آخر. فهمها الوحيد هو ان تكون تركيا بلدا علمانيا وديمقراطيا يفسح المجال أمام كل الفعاليات وعلى مختلف مشاربها للمشاركة والعمل. والسؤال هو : لماذا رشح العدالة والتنمية عبدالله غول ثانية؟ في الحقيقة هناك سببان:
*السبب الأول : الخوف على مستقبل حزب العدالة والتنمية وتجنّب إحتمال حدوث إنشقاق بعد ان أصر غول على عدم سحب ترشيحه، الأمر الذي وضع رجب طيب اردوغان (رئيس الوزراء التركي) أمام أمرين لا ثالث له. أما التضحية بغول وهذا سيؤثر سلبا على وحدة الحزب وعلى مكانته في الخارطة السياسية من جهة. أو انسحاب غول من العدالة والتنمية (وهذا سيحصل فعلا تبعا لتاريخ غول الانشقاقي)، وهذه ضربة كبرى لإردوغان لأن غول من المقربين جدا منه ويعتبر ذراعه الأيمن.
*السبب الثاني : لا يريد اردوغان (وكذلك غول نفسه) ان يظهر للرأي العام التركي والعالمي بأنه ما زال للجيش تأثير قوي على الساحة التركية، وان ادعائه أمام الاتحاد الأوربي بان تركيا خطت خطوات جادة وفعلية من ناحية الإصلاحات مجرد هراء.
ثمة من يرى بات تركيا أصبح على مرمى حجر من الاضطراب الداخلي مع بقاء العدالة والتنمية على مرشحه غول، خصوصا وان اردوغان لم يتقدم بخطوة تجاه مراعاة مطالب العلمانيين والجيش. كل ما فعله اردوغان هو بمثابة تحدي من نوع آخر. ولعل مخاوف المعارضين لأردوغان كثيرة ،أولها ان حزب العدالة والتنمية لم يشرح (حتى الآن) دور الدين في الحياة السياسية التركية، وماذا سيكون مستقبلا.
ثانيا: يرى “العلمانيون” والجيش بأنه عند وصول العدالة والتنمية الى قصر رئاسة الجمهورية سيعمل الحزب جاهدة على تطبيق برنامجه الديني على حساب العلمانية التركية وهذا ما لا يقبله أي طرف من الأطراف التقليدية العلمانية في تركيا.
ثالثا : ان منصب رئيس الجمهوري ليس منصبا رمزيا خاويا إنما الرئيس يتمتع بصلاحيات فاعلة وأهمها ان يستطيع نقض القوانين التي يصدرها البرلمان.
في الحقيقة ان تركيا في طريقها الى أزمة سياسية جديدة. وإذا كانت الانتخابات استطاعت تبديد جزء من الأزمة السابقة فان هذه المرة أصبح الأمر شديد التعقيد، ومن الصعب إقناع الأطراف العلمانية بان انتخاب رئيس من حزب العدالة والتنمية لا يعني قط بأنه في الطريق الى فرض الهيمنة على الدولة ونقل تركيا الى الاستبداد السياسي وفرض نظام ديني إسلامي مخالف للتاريخ التركية العلماني.
بيد ان الواقع غير ذلك. فحتى الآن يقتنع المراقبون في الغرب وفي سائر أصقاع العالم ان تركيا تمثل المثال الأفضل للتوفيق بين المجتمعات الإسلامية ومبادئ الديمقراطية الصحيحة، وهي في ظل حزب العدالة والتنمية الذي ينتمي الى الجذور الإسلامية ورغم الاتهامات التي توجهها القوى العلمانية والجيش إلى حكومة رجب طيب اردوغان، خطت خطوات مهمة تجاه بلورة الديمقراطية الصحيحة. ولعل هذا ما يظهر من خلال العلاقة المنفتحة مع الاتحاد الأوربي والعالم من جهة وتركيز على إعطاء دور اكبر لمنظمات المدنية في الحياة السياسية وتخفيف قبضة العسكر على مجلس الأمن الوطني التركي. هذا فضلا ان حكومة العدالة والتنمية أعطت رونقا للدبلوماسية التركية، وفي ظل هذه الحكومة حصلت تطورات جمة مع الدول التي كانت تركيا على الخلاف معها مثل الأرمن وقبرص ومع العالم العربي ..
بقي القول أنه مع إبقاء العدالة والتنمية مرشّحه غول أصبحت تركيا على سكة أخرى من الصراع. ومن المؤكد ان قرار العدالة والتنمية سيساهم شئنا ام أبينا في خلق نوع من عدم الاستقرار السياسي. والسؤال هو: هل بوسع العدالة والتنمية إنقاذ المجتمع التركي من الانقسام وتضيق الهوة بين القوى السياسية والمجتمعية؟ الوقائع على الأرض تقول بان العدالة والتنمية ربما يستطيع تجاوز أزمة ترشيح الرئيس إنما ليس بوسعه إقناع المجتمع التركي المخالف له (المجتمع العلماني) بأنه يتبنى مبادئ الكمالية وبأنه سيحافظ على التوازن بين الدين والسياسة، وسيعزز الحياة الديمقراطية ونمط الحياة العلماني، أو إقناعه بانه لا يسعى الى فرض قوانين تحد من حرياته الشخصية، مثل حرية شرب الكحول وحرية المرأة.. وأمور أخرى!!
faruqmistefa@hotmail.com