من نوادر أو غرائب مصر المحروسة أنها، رغم ملايينها الذين قاربوا الثمانين، تبدو كحارة أو زقاقاً يعرف أهله بعضهم بعضاً. ومن ذلك أنه رغم التباعد الهائل، والقطيعة المتزايدة بيني وبين آل مبارك، للدرجة التي دفعتهم إلى الأمر بوضعي وراء القضبان منذ سبع سنوات، إلا أن صدفة غريبة جعلت حفيديّ، لارا وسيف الله، يتزاملان ويتصادقان مع حفيديّ حسني مبارك، محمد وعمر، في نفس المدرسة. ورغم علمي بهذه الحقيقة في أوائل عهدي بسجن مزرعة طره، وأوائل عهدهم بالمدرسة (2000-2003)، إلا أنني حرصت على عدم إقحام خصومتي مع حسني مبارك على علاقة أحفاد أبرياء. فلم أذكر حسني مبارك أمام حفيديّ بسوء، أو أتحدث معهم في السياسة. وأغلب الظن أن السيد/ علاء مبارك وقرينته فعلا نفس الشيء مع محمد وعمر. وساعد على تجاهل موضوع العلاقة بين الأجداد، أن الأحفاد كانت لهم اهتماماتهم التي استغرقت وعيهم ووقتهم ـ من دراسة، ورياضة، وتمثيل وأعياد ميلاد. حتى حينما كان حفيديّ يزوراني في السجن (2001-2003)، فقد كانا يعتبران الزيارة بمثابة نزهة خلوية أو رحلة مدرسية لأحد المواقع الطريفة التي تعمدت مدرستهم في ذلك الوقت على التردد عليها ـ مثل سوق الجمال، وسوق الجمعة، والحسين والسيدة زينب. فقد كانت المدرسة الخاصة في أحد الضواحي المتميزة حريصة على أن يختلط تلاميذها مع بقية أبناء مجتمعهم. ومما ضاعف من طرافة زيارة أحفادي لسجن مزرعة طره، هو أن جزءاً من الرحلة كان ممنوعاً فيه السيارات الخاصة، ربما لأسباب أمنية. ولكن إدارة السجن، لاعتبارات “إنسانية”، وفرت لزائري السجن وسيلة مواصلات بدائية أشبه “بالطفطف”، الذي تعود عليه المصطافين في رأس البر. وكان حفيديّ ينتظران بفارغ الصبر الزيارة نصف الشهرية لركوب الطفطف، ربما أكثر من رؤية جدهما! وكان يضاعف من بهجتهما مداعبة سائقوا الطفطف، وحراس السجن لهما، وهو ما يُعزي إلى طيبة مصرية أصيلة، حتى لو كانوا سجّانين. فبعد تنفيذ الأوامر الكريهة عليهم بقدر ما هي بشعة بالنسبة للسجناء، فإن الوجه الإنساني الطيب، سرعان ما يكشف عن نفسه حتى عند من يُجبرون على القيام بدور الجلاد!.
مضى على الإفراج عني أربع سنوات، لم يعد حفيديّ بنفس البراءة… فقد كبرا، وبدءا يهتمان تدريجياً بأحاديث الكبار وما يشغلهم. وعادة ما يحدث ذلك بعيداً أو تحت “شاشات الرادار”، التي يراقبها الكبار. وبعد الحملة الأخيرة التي شنتها أجهزة آل مبارك، وصحفهم المباحثية الصفراء، ومبادرة تسعة من أعضاء الحزب الوطني الحاكم، بما فيهم أعضاء من مجلس الشورى، بتقديم بلاغات إلى النائب العام للتحقيق معي في اتهامات تتراوح من الإساءة إلى سمعة مصر، إلى الخيانة العظمى، نصحني فريق من محامي مركز ابن خلدون بالبقاء في الخارج لمدة ثلاثة شهور على تقديم البلاغات، خلالها تظهر نوايا النظام.
فإذا قرر وأعلن النائب العام حفظها، فإنهم سيشيرون عليّ بالعودة، وإلا فإنهم لا يأمنون غدر النظام، فالغدر أصبح جزءاً لا يتجزأ من طبيعة آل مبارك، الكبار منهم طبعاً، وليس الأحفاد الصغار، وهو ما يعود بي إلى حديث مدهش مع حفيديّ مؤخراً. وفيما يلي تفاصيل حوار معهما على ضفاف ومضيق البسفور، في العاصمة التركية، استانبول.
بعد شهرين بعيداً عن الوطن، اشتدت الوحشة المتبادلة مع الأهل والتلاميذ والأصدقاء. وكان أكثرها لوعة هو الشوق للأحفاد. وأدركت صدق القول المأثور، “إن أعز الولد هو ولد الولد”.
وتزامنت أجازتهم الصيفية مع تجوالي في بلاد الله الواسعة. فاقترحت على الأسرة في القاهرة أن نلتقي في إحداها، ولو لأسبوع أو حتى لأيام، إما في كندا أو رومانيا أو اليونان أو تركيا، حيث كانت لديّ ارتباطات أخرى في هذه البلدان الأربعة، خلال شهر يوليو. ووقع اختيار الأحفاد على تركيا، وهي أيضاً أحد تفضيلات صهري نبيل الذي تحوّل إلى الصوفية في السنوات الأخيرة، وحيث ولدت الطريقة النقشبندية في الأناضول، وتعشقها ابنتي راندا لأنها تذكرها بمصر كما كانت في طفولتها، والتي تتمنى أن تعود، حيث الأصالة والحداثة، وحيث إسلام بلا تزمت، وتديّن بلا تعصب. أما أنا فكنت على موعد لمراقبة الانتخابات البرلمانية التركية، ثم المشاركة في مائدة مستديرة حول تداعياتها الإقليمية، وخاصة على مصر، وهو ما كتبت عنه بالفعل في مقال سابق.
في اليوم التالي لوصول الأحفاد، وأثناء أمسية صيف جميلة، على شاطئ البسفور، فاجأتني حفيدتي لارا (عشر سنوات ونصف) بسؤال حول موعد عودتي إلى مصر. وحاولت الإجابة بعمومية غامضة، من قبيل “قريباً، إنشاء الله …”، وسارع حفيدي سيف الله بسؤال من عنده “قريباً إنشاء الله، يعني امتى بالضبط؟” أحسست أن الحفيدين ربما يعلمان السبب الحقيقي وراء ابتعادي المؤقت عن مصر. نظرت إلى صهري نبيل، طالباً المساعدة، فهز كتفيه، كما لو كان يوحي لي بأنني لا بد أن أواجه الحفيدين وحدي وعلي مسؤوليتي! حاولت المراوغة مرة أخرى بعموميات غامضة عن ارتباطات هنا وهناك، طوال الشهور الثلاثة القادمة. فقاطعتني لارا بقذيفة غير متوقعة: “لماذا تغضب الرئيس حسني مبارك؟”.
نظرت إلى الحفيدين… إنهما لم يعودا طفلان بريئان ساذجان يقنعان بأي إجابة لأسئلتهما… إنهما يريدان إجابات مقنعة… شرحت للحفيدان، “أنني لم أتعمد إغضاب حسني مبارك، ولكني فقط أُعبّر عن آرائي بحرية… وهذه الآراء لا تعجبه، ويعتبرها تلحق الضرر بمصر. والواقع أن حسني مبارك هو الذي يُغضب مصر كلها”.
سألاني عن حيثيات ما قلته عن غضب مصر من حسني مبارك فذكرت إضرابات العمال، ومظاهرات الطلبة، واحتجاجات القضاة، والاستبداد والفساد… سألا: كيف يكون حسني مبارك بهذا السوء بينما حفيداه محمد وعمر ـ في غاية الظرف والمرح والأدب؟ أجبت بأن هذا فعلاً أمر غريب، ولكنه ممكن… وذكرتهما بقصص الأنبياء، وخاصة سيدنا نوح وسيدنا إبراهيم… وكيف كان الأبناء والآباء على طرفي نقيض.
وقال سيف الله (8 سنوات)، “جدو، إننا نريدك أن تعود قبل رمضان، لأنني أنوي الصيام طوال كل يوم من أيام رمضان هذا العام…” هنأته على هذه النوايا… وحاولت تشتيت الموضوع باسترجاع واستذكار عدد الأيام التي صامها في السنوات القليلة الماضية… ولكنه سرعان ما عاد يُلح على موضوع العودة إلى مصر قبيل حلول شهر رمضان الكريم . حاولت تغيير الموضوع مرة أخرى بسؤال عما إذا كان يتذكر ركوب “الطفطف”. فتهللت أساريره وأجاب “بنعم”، فسألته هل يريد أن يفعل ذلك مرة أخرى؟ .. تغيرت ملامح الحفيدين فجأة، وتساءلا “وأين نركب الطفطف هذه المرة؟ فقلت في نفس المكان… حيث إذا عدت الآن، فقد يأمر حسني مبارك بوضعي في السجن، كما فعل من قبل…”. وبعد لحظة صمت ثقيلة، قالت الحفيدة الفصيحة، “لي اقتراح… وهو أن تعتذر لحسني مبارك، حتى يرضى عنك، وتعود إلى مصر… ولا يضعك في السجن… وتقضي معنا رمضان وبقية العمر…” تأثرت بكلمات لارا ونظرات حفيدي، وصهري الذي كان يتابع هذا الحوار، دون أن يتدخل في الحديث. وحاولت أنا حسم الحوار الذي امتد أطول مما توقعت. فقلت” أنا لم أخطأ في حق مبارك لأعتذر له… فالتعبير عن الرأي هو حق إنساني للصغار والكبار، وللمرؤوسين والرؤساء، والنساء والرجال على السواء… وحتى إذا كان رأيي لا يعجب حسني مبارك فيمكن له أن يرد عليه برأي آخر، أو يتجاهله بالمرة”. تأملتني الحفيدة المشاكسة، وقالت: “أنت هنا أيضاً لمتابعة الانتخابات… أليست الديمقراطية التي تؤمن بها، يا جدو، هي سيادة رأي الأغلبية؟” فهززت رأسي بالموافقة، دون أن أنتبه لكمين مباغت، حيث بادرت هي بالآتي: “أما وقد ناقشنا الموضوع، فلنقم بالتصويت على الاقتراح بالاعتذار للرئيس حسني مبارك واسترضائه” فصحت أنا: “نقطة نظام… إن أمكما (ابنتي راندا) وجدتكما (زوجتي باربارا) ليستا هنا، فكيف نصوّت على أمر مهم يتعلق بالمصير، دون مشاركتهما؟ ومن ناحية أخرى، لماذا لا تقترحا لصديقيكما الآنتيم محمد وعمر، أن يطلبا من جدهما حسني مبارك أن يعتذر للشعب المصري عما ارتكبه في حقه من أخطاء وذنوب. فإذا فعل، فإنني سأعتذر وأبوس رأسه أيضاً”. عند هذا الحد من الحوار عادت راندا، بعد جولة تسوّق، تحمل عدة أكياس بلاستيك، فانشغل الحفيدان فوراً بما اشترته أمهما.
وتنفست أنا الصعداء. وبالمناسبة، فإن المدرسة التي يذهب إليها الأحفاد تدربهم على المهارات الاتصالية وعلى فنون المساجلة والمناظرة. ولست أدري ما إذا كان نفس ما حدث بيني وبين أحفادي على شاطئ البسفور يحدث بين حسني مبارك وأحفاده على شاطئ شرم الشيخ!
saadeddinibrahim@gmail.com