الجيل الثالث من قادة الصين يرسخ
ليست هناك دلائل تشير إلى أن المؤتمر القادم للحزب الشيوعي الحاكم في بكين سوف يجري تغييرات في المناصب القيادية العليا في البلاد. بل على العكس من ذلك، هناك ما يفيد بأن الثنائي الحاكم في بكين، و نعني بهما رئيس الحزب و الدولة “هو جينتاو” و رئيس الوزراء “وين جياباو”، اللذان يمثلان الجيل الثالث من قادة البلاد، سوف يجدد لهما لخمس سنوات أخرى أو ربما ابعد من ذلك، مكافأة لهما على انجازاتهما المتميزة و نجاحهما في تعزيز مركز و نفوذ الصين على المستويين الإقليمي والدولي.
والحقيقة أن مراقبين كثر لم يتوقعوا لجينتاو أن يبرز كزعيم قوي للصين أو أن يحقق نجاحا يرسخ به أقدامه في الحكم ، بل ذهبوا في وقت من الأوقات إلى القول بأنه لن يصعد إلى السلطة ، أو انه إذا ما صعد إلى السلطة فسيخرج منها سريعا في حلقة جديدة من حلقات الصراع على النفوذ داخل الحزب الحاكم الذي يزدحم تاريخه بالتصفيات الدموية و حملات التطهير.
فحينما حضر الرجل إلى بانكوك في منتصف التسعينات ممثلا لبلاده في إحدى المؤتمرات الدولية التي شاركت فيها كمراقب، لم يكن يتولى أية مسئوليات رفيعة، و كانت المعلومات المتوفرة عنه جد شحيحة، لكنه على الرغم من ذلك كان مدار حديث و همس الكثيرين باعتباره النجم الصاعد في هرم السلطة و المرشح المحتمل لقيادة بلاده في الألفية الثالثة. ولم يكن هذا الاهتمام في حينه نابعا من فراغ، و إنما من معلومات مؤكدة حول تمتعه برعاية عراب الانفتاح الاقتصادي الزعيم الإصلاحي “دينغ هسياو بينغ”، و أن الأخير كان سببا في إيصاله إلى المكتب السياسي للحزب الحاكم كأحد اصغر الأعضاء سنا و ذلك في المؤتمر العام الرابع عشر للحزب في عام 1992 . غير أن وفاة بينغ في عام 1997 دفع البعض إلى استخدام سوابق تاريخية للتشكيك في احتمالات خلافته لرئيس الحزب و الدولة وقتذاك “جيانغ زيمين”، زاعمين أن الأخير سوف لن يجد حرجا في التخلص منه لصالح احد المقربين منه ضمن ما عرف ب “مجموعة شنغهاي” النافذة التي كان يتزعمها، و هو السيناريو الذي يبدو أن جينتاو برع في تجنب وقوعه.
ولئن كان من أسباب ذلك انه أدرك مبكرا أثناء سنوات تدرجه في المسئوليات أن ما يحفظ راس الطامحين إلى قمة الهرم في النظام الصيني، هو البقاء قدر الامكان في الظل و الابتعاد عن الظهور في وسائل الإعلام أو الإدلاء بأحاديث و تعليقات صحفية، كيلا يشعر من في السلطة أن نفوذه مهدد أو أن هناك من يجهز نفسه لخلافته، فان السبب الآخر أن جينتاو استثمر مواهبه القيادية وشخصيته الكاريزمية و سنوات عضويته الطويلة في المكتب السياسي في نسج علاقات هادئة ومتشعبة مع مختلف الأجنحة و كسب احترامها و ثقتها.
وهكذا، لم يجد الرجل صعوبة في التكيف مع ظروف مرحلة ما بعد رحيل سنده و مصدر قوته، كما لم يواجه بمقاومة شرسة أثناء المؤتمر العام السادس عشر للحزب الحاكم في عام 2002 الذي تم فيه اختياره لخلافة زيمين. صحيح أن عملية انتقال السلطة من الأخير جاءت متدرجة بتسلمه زعامة الحزب الشيوعي في عام 2002 و رئاسة الدولة في عام 2003 و رئاسة اللجنة العسكرية للحزب في عام 2004 ، إلا أنها كانت أول عملية سلمية سلسلة من نوعها في تاريخ الصين الشيوعية، الأمر الذي عزاه الكثيرون إلى مواهب جينتاو ودهائه في تجنب العواصف و إدارة أموره بحكمة.
وقتها رحب الكثيرون داخل الصين و خارجها بانتهاء حقبة العواجيز و بدء حقبة الشباب من الجيل الثالث، لكنهم كانوا متعطشين لمعرفة المزيد عن الزعيم الجديد وأسلوب إدارته و ماهية أجندته الداخلية و الخارجية، في ضوء التكتم الشديد و العزلة الإعلامية الذي فرضه على نفسه طوال المرحلة السابقة. غير أن الرجل آثر ألا يقتفي سيرة أسلافه في الحديث الممل عن برامجه أو إطلاق الشعارات و الوعود الرنانة، مفضلا أن يترك أفعاله تتحدث عنه.
و اليوم و بعد مضي أكثر من أربعة أعوام على زعامته للحزب و الدولة، يمكن القول أن جينتاو قد أسس لنمط جديد في قيادة الصين وإدارة علاقاتها الخارجية قوامه المزيد من الشفافية و الهدؤ والعقلانية و التوازن و الانفتاح و البرغماتية، و غير ذلك مما ساعد البلاد على مواصلة استقرارها و نموها الاقتصادي المذهل، ووصول احتياطياتها من العملة الصعبة إلى رقم لم تسبقه فيه أية أمة و هو أكثر من تريليون دولار، و بروزها كقوة صناعية تنتشر منتجاتها في الأسواق العالمية، وكسبها لأصدقاء و شركاء جدد في كل مكان، و امتداد نفوذها في العالم عبر تقديم المساعدات الإنمائية والخبرات الفنية للدول النامية (و إن لم يزل نظامها في دائرة الانتقادات بسبب ملفها الضعيف في الحريات و حقوق الإنسان، و إنفاقها الهائل على بناء ترسانة عسكرية تثير قلق جاراتها).
ويمكن في هذا السياق أن نستشهد بالعديد من القرارات و السياسات التي لجأت إليها إدارته في السنوات الماضية. فحينما اجتاح وباء سارس المعدي البلاد في عام 2003 ، أي بعد وقت قصير من تسلم جينتاو للسلطة رسميا، و تعرض النظام بسببه إلى انتقادات شرسة من منظمة الصحة العالمية و دول الجوار على خلفية تلكؤه في محاصرة المرض و منع انتشاره، لم يتردد الرجل في التعاطي مع تداعيات الحدث بأسلوب غير مسبوق، هو الاعتراف بالتقصير و تجنب المكابرة مع عزل وزير الصحة و عمدة بكين من منصبيهما فورا.
و حينما اندلعت المظاهرات و الاعتصامات الشعبية العارمة في شوارع هونغ كونغ في عام 2003 احتجاجا على تمرير إدارتها لقانون امني مثير للجدل و قد يستخدم لتكميم الأفواه وحظر أنشطة المعارضة و خرق حقوق الإنسان، قامت إدارة جينتاو علنا بتأييد سياسات رئيس المجلس التنفيذي للجزيرة “تونغ تشي هوا”، بينما عملت من وراء الستار على الإطاحة به واستبداله بشخصية أخرى. و كانت النتيجة أن تم سحب القانون المذكور لتخفت المظاهرات وتعود الحياة الطبيعية إلى الجزيرة.
ولمواجهة مشاكل و تداعيات التنمية غير المتوازنة جغرافيا و التي اتسعت بسببها الفجوة ما بين الأقاليم الساحلية و الأقاليم الداخلية و ما بين الأغنياء و الفقراء و أدت بالتالي إلى بروز ظواهر اجتماعية و بيئية خطيرة لم تعرفها البلاد من قبل، سارعت إدارة جينتاو إلى تبني خطة قومية قد لا تظهر نتائجها سريعا لكنها كفيلة على المدى البعيد بإصلاح بعض الخلل و إقامة مجتمع أكثر توازنا وتناغما، بل قام الرئيس شخصيا بمبادرات نوعية استهدفت التواصل مع مختلف الطبقات الاجتماعية والمهنية و تلمس همومها و مشاكلها عبر زيارات ميدانية مكثفة في طول البلاد وعرضها، إلى الدرجة التي صار معها يلقب بالأخ الأكبر بدلا من الألقاب الإيديولوجية القديمة مثل “الرفيق” و”المعلم”.
أما بشأن قضية تايوان التي تعامل معها أسلافه بالتهديد و الوعيد و استعراض العضلات العسكرية كلما ارتفع صوت في تايبيه ينادي بالاستقلال أو جرت انتخابات أو استفتاءات، فيبدو أن جينتاو قد توصل إلى قناعة بأن تلك السياسات كانت لها نتائج عكسية في صورة توجه التايوانيين إلى المزيد من التصلب، فقرر تبني استراتيجية مختلفة قوامها عدم اللجؤ إلى التلويح بالقوة ضد “الجزيرة المنشقة” بحسب التعريف الصيني الرسمي طالما أن الأخيرة لم تعلن استقلالها رسميا، مع دفع القوى صاحبة المصالح في المنطقة مثل الولايات المتحدة و الاتحاد الأوروبي و مجموعة آسيان، إلى تحمل مسئولياتها في الضغط على تايبيه لإبقاء الأوضاع الراهنة على حالها في المدى المنظور على الأقل.
*محاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية
elmadani@batelco.com.bh