عمومية البابا بينيديكتوس السادس عشر الجامعة والكونية
لعل مقالة حبر الكنيسة الكاثوليكية الأول وأسقف حاضرتها، روما (والفاتيكان هو كناية عن كنيسة بطرس الرسول أو الحواري المقدم)، بينيديكتوس السادس عشر، بريغينسبورغ ـ وأهل اللغة الفرنسية يسمونها راتيسبون ـ في 12 أيلول (سبتمبر) 2006، أو مطارحته على جمهور جامعتها، لعلها، على ما أزعم، مقالة من صنف مقالات الأساقفة والشراح هذا. فهي مقالة في العقل والإيمان المسيحيين، والكتبيين عموماً (“مباني الإيمان في الكتاب المقدس والقرآن”، على قول صاحب المطارحة، أو “طرق الحياة الثلاث”). ويجري المحاضر مقالته على رسم وترتيب يشفعان بمقصده أو مقاصده، ولا ينفكان من عبارته عنه (عن مقصده) أو عنها. فيوطئ بتذكر ما كانت الجامعة نفسها عليه قبل 47 سنة، يوم كان يوزيف راتسينجير (اسم الحبر قبل حبريته) مدرساً في عداد مدرسيها وهيئتهم. ويروي ان الجامعة هذه، “على المثال القديم” والقليل الأول، كانت تدعو مدرسيها في “يوم أكاديمي” مشهود، فيمثلون هيئة مجتمعة ومتماسكة على رغم تفرق معارفهم، وتباين اختصاصاتهم. وليس جامعهم غير “العقل الواحد على مداه ومظانه”. والعقل الواحد هذا، وهو على هذه الحال من التمادي واستيفاء موضوعاته ومواده (وجملتها هي “ما صدقه”) ومناهجه، يلم شتات الاختصاصات والمذاهب في واحد هو “الجامعة”، أو المدرسة الجامعة. وهي جامعة “الكليات”، كليات المعارف والعلوم الضرورية والجوهرية، على خلاف الجزئيات والأعراض، وجامعة الكليات، على معنى وحدات التدريس وهيئاته، وحدوده المنبثقة من وحدة المواد والموضوعات والمطالب. والكليات، على المعنيين، هي نظير الملكات، على نحو القول: ملكة التخييل، أو ملكة الحس وملكة الأقضية وغيرها. ويترجح كيان الجامعة، على هذا، بين التوحيد، أو الحمل على واحد كلٍّ وجميع، وبين التفرق على خاصيات وذاتيات مفردة، تقوم الواحدة منها برأسها، وتثبت بموضع على حدة، فلا يأتلف من كثرة المواضع المتفرقة حد مشترك.
“الكلمة”
وعلى نحو ما لم يَسَعْ ملكَ الروم تنزيه مقالته من الخطابة و”فجاجتها”، لا يمتنع الحبر المسكوني من الخطابة. فيحمل (لا إكراه في الدين)، من سورة البقرة، على التنزيل بمكة، ويشرح “سبب” تنزيلها بضعف الرسول وعسره وضيق ذات يده. ويصل بين الحرب وبين تنزيه الذات الإلهية بإطلاق، ويغفل نيفاً وثلاثة قرون من الجدل والكلام الإسلاميين (قبل ابن حزم الأندلسي) في خلق القرآن، والقدر والجبر، ومنزلة الفاسق وجزائه، الى الجدل والكلام في قراءات التنزيل وأحرفه، وفي تفسير آياته وتأويلها وأسباب نزولها وناسخها ومنسوخها. وأخيراً يتوسل أستاذ اللاهوت، وأمين لجنة الإيمان الفاتيكانية السابق، الى برهانه على وحدة الفكر “المسيحي ـ اليوناني”” باحتجاج لغوي، أو لفظي، من فاتحة انجيل يوحنا يعرف، قبل كثيرين غيره، ان احتجاجه اللغوي هذا غير قاطع ولا حاسم. فهو جزء من مطارحة قديمة قدم الإيمان المسيحي نفسه، موضوعة على دعوة اليهود والأميين، من غير أهل الكتاب (التوراة)، جميعاً. والإنجيل الرابع ليس “إزائياً”، على تصنيف المدونين، وليس قرين الأناجيل الخبرية و”الفلسطينية” الأخرى. فهو ثمرة “بشارة” الوثنيين والأميين، واليهود الاسكندرانيين. و”في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الله الكلمة”، أي فاتحة انجيل يوحنا، تدين لفيلون، اليهودي اليوناني الاسكندراني، بمفهوماتها وألفاظها، فوق ما تدين للنبي والقاص الجليلي ثم الأورشليمي، نذير قدوم ملكوت الرب الوشيك وبشير هذا القدوم.
والإنجيل الرابع، غير الإزائي، والمتأخر، رواية وتدويناً، نحو ثلث إلى نصف قرن (دُوِّن على الأرجح، في أوائل القرن الثاني الميلادي) عن تدوين انجيلي متى ومرقس (في 55 ـ 60م)، هو ثمرة دعوة أو بشارة الأميين (غير أهل الكتاب، وهو التوراة الموسوية وحدها يومها)، وثقافتهم اليونانية، وهي الثقافة الغالبة على السادة والفاتحين الرومان، وعلى نخبهم. والإنجيل المشكل هذا، “ميتافيزيقي”، على قول ألفريد لوازي منذ مطالع القرن العشرين، من ألفه الى يائه. ويقصد الشارح الفرنسي الرائد بقوله هذا ان مدونيه وكتّابه اليوحناويين (واسم الحواري، “حبيب يسوع”، عَلَم على مدرسة رواة ومدونين) يونانيو الثقافة ومتهلينون. وعلى هذا، فالقول أن “عقل” المسيحية ـ وهو في هذا المعرض عقل اللاهوت الكنسي على ما صاغته عليه المجامع “اليونانية”، بأرض بيزنطية أو رومانية مشرقية مثل نيقيا وخلقدونية ـ هو و”الكلمة” (العقل) اليونانية واحد، هذا القول دور يدور، أو أشبه بالدور. فهو يستودع المقدمة ما ينوي استيلادها واستنتاجها إياه في المحصلة أو النتيجة: فالبيّنة على ان إله المسيحية هو “عقل” اليونان، هذه البينة هي التدوين اليوناني والميتافيزيقي “للشاهد للنور”، على قول التدوين في صاحبه المفترض (7 ـ 8/1 من يوحنا).
اليوناني و”السامي”؟
فتصل الفقرةُ الثالثة مقالةً مسيحية “منحرفة”، أو مقالة متكلم مسيحي، بمقالة “إسلامية” تكاد تنوب مناب المقالة الإسلامية على عمومها ومن غير تخصيص. ويتشارك ابن حزم وجان دانس سكوت (ت. 135م) في إثبات الله على وجه إرادة محض لا قيد لها (ما خلا قيد التناقض، فيما يعود الى المتكلم المسيحي). وليست الشراكة هذه، في سياقة المقالة البابوية، قرينة على جواز التقاء “فلسفي” ولاهوتي يترتب على نحو اعتقادي، غالب أو شاذ. فلا يدري القارئ الى أي وجه او معنى يصرف الشراكة هذه. وكان المحاضر قدم لها، في ابتداء كلامه على المتكلم المسيحي الوسيط، بالقول أن “الاستقامة” وحدها تدعوه الى ألا يغفل المقالة “الإرادوية” الشاذة. ولكنه لم يثبتها مقدمة تنشأ عنها، أو عن نظائرها، حوادث كتلك التي أنكرها ملك الروم على المقدمة “المحمدية” المفترضة. فبقيت “الاستقامة” حلية خطابية من غير ذرية. فإذا كان السيف، أي الدعوة به، نتيجة خلط العقل بالنفس (الحية)، وكان هذا (الخلط) ثمرةَ حلِّ مبدعِ الكون وخالقه من حد المعقول والمفهوم والمقسِط، وحملِه على إرادة موجبة محض ـ فالأحرى بمن يسوق مقالة على هذا الترتيب ان يستوفي سياقتها في الحالين، وأن يحقق مفاعيل الترتيب على الوجهين.
الدخول تحت الجامع العام
وربما كان هذا يدعو صاحب المقالة الى النظر في قسمته تاريخ المجتمعات، أو “الممالك” والحضارات، شطرين ونحوين: واحداً “يونانياً” عقلانياً نحت إليه مسيحية “العهدين” في مهدها، وخالطَ جِبِلَّتها الأولى ولم يفارقها إلا في بعض شعابها الثانوية أو بُنيّات طريقها؛ وآخر “ساميّاً” أو شرقياً، لم تمسه نعمة التهلين بعد أن نفي من حضانتها ومن تحدره من صلبها، وأقام على انتفائه من نسبها هذا. ودخول النحوين هذين “الجامعة” الموعودة محال. والدعوة الى دخولها حلية (خطابية) أخرى. والقول (قولي) هذا لا يزعم ولا يفترض أن دخول “الجامعة”، وجامعها العام، “حق” عمومي، وليس على من يدعي “الحق” هذا إلا إشهار دعواه، وانتظار إحقاق حقه السابق غير منازع ولا مدفوع ـ على ما تنم به دعوات “ثقافية” معاصرة كثيرة.
فالدخول تحت الجامع العام ليس “حقاً” تلقائياً. وليس ثمة نصاب أو مرجع يقضي في الدخول أو في الإقصاء. والانتحاء ناحية، أو البقاء بمعزل من الجامع العام، يبعث (“أهل”) الجامع العام على الطعن فيه، والشك في استقامته كفءاً لمفهومه وفكرته. ولكن الدخول هذا، من وجه آخر، هو فعل يبادر إليه من ينوي الدخول ويتعمده. وقوام الفعل هذا اقتراح صياغة جديدة “للجامعة” تحتسب دخول الوافد الجديد، أو الوافدين الجدد. والوافدون لم يكونوا، على وجوه “ثقافتهم” كلها، غرباء أو دخلاء. فما من “ثقافة” لا تمت بسبب أو بخيط، مهما بلغ من الرقة أو “الوحشية”، الى العمومية الجامعة. و”اليونانية”، على قول أحد أعلامها، إنما هي وِجدان هذا التعلق بالغير، وتعقله، والسعي في تخليص معاييره من عين الجماعة أو إنِّيتها الماثلة، وتوحيده بها كلاً وجميعاً. وعلى هدي “اليونانية” ليس ثمة من جماعةٍ الجامعُ العام من جبلتها أو في جبلتها، أو هو “قدرها”.
الطبيعتان والمنطقان والعلمان
وتثبت الفقرة الرابعة “معتقد الكنيسة”، على خلاف لاهوت التنزيه المحض، البات صورَ التشبيه كلها، والمفضي الى “إرادوية” ذاتية لا يؤمن تعسفها أو إفضاؤها الى التعسف. ومبنى المعتقد هذا على منزلة بين منزلتي تنزيه يحيل الفهم، ويحمل الله على فرق أو غيب لا سبيل الى الحدس فيه، ولا الى نقل وفهم عنه، وتشبيه يقتصر على نصبه مَكُوناً “عظيماً” في جملة المكونات. وترسو المنزلة هذه على مركّب وسيط يوجب انفصال الجوهرين، الإلهي والإنسي، وإقامتهما على فرقهما، من وجه أول، ويوجب اتصالهما أو اتحادهما في جوهر واحد، من وجه آخر. والحق ان هذه المسألة هي في قلب التاريخ الكنسي وخلافاته ومشاداته وانقساماته، منذ حبوّه خطواته الأولى الى اليوم، على نحو ما هي في صلب تماسكه وتغلبه على الانقسامات. فـ”مشادة الطبيعتين”، أو “سر الطبيعتين”، مدار عدد كبير من “البدع”. وإيجاب مجمع خلقدونية (451م) طبيعتين مختلفتين ومنفصلتين ومتحدتين معاً في يسوع بن مريم المسيح، لم يحسم توالد “البدع” وتناسل بعضها من بعض. ولكنه أخرج الكنيسة من الانحلال في فرق محلية متنازعة، وصانها من الميل مع أخلاط فكرية وأسطورية وشعائرية متنافرة.
فتضمين التجسد القوة على كناية الإنسية (والطبائع المخلوقة) عن الألوهة من طرق مرسومة، تتولى الكنيسة انتهاجها ورعايتها وتسند الوجهين الى مركَّب من الإلهام والرأي، مهد (التضمينُ) الطريقَ الى إثنينية العالم (الإنسي والطبيعي) والله، وإثنينية الطبيعيات والإلهيات. وهو أخرج الواحد (والواحدة) من الآخر (والأخرى)، وأسلم كلاً الى “منطق” استقل به. فلا يقضي منطق في آخر. وصدق هذا تدريجاً في “منطقيْ” السلطان الدنيوي والملكوت الأخروي. ولعل الإثنينية هذه في أصل “العالم الحديث”، أو “الانعطافة” الغربية التي نشأ عنها ابتداء الغرب الأوروبي والمسيحي الطريق التي أفضت الى عالمنا، ولا تنفك تفضي إليه. فالتزمين (أو حمل الحوادث وحصولها وتعليلها ومعالجتها، على الزمن، أو القرن أو العصر الزمني، على خلاف الآخرة والكهنوتي والكنسي) والعلمنة (أو استقلال السياسة المدنية والدولة بإدارة شؤون الاجتماع المشتركة من غير اعتبار مراتب ينمى ترتيبها الى “خارج” الاجتماع) هما وليدا الإثنينية و”انعطافتها”. ويعزو المحاضر الأسقف انتهاج الغرب الأوروبي نهجاً تاريخياً مبايناً، وافتراقه عن النهج الشرقي، “على رغم صدور المسيحية عن الشرق، وامتدادها في نواحيه وأرجائه” (على قوله)، الى اصطباغه بصبغة مسيحية بدئية نزعت منزعاً يونانياً عقلانياً، وأرست مبانيها الفكرية والاجتماعية، وهيئاتها، على ركن اثنيني جامع. وقد يُغفل الإلماح الموجز نحو نيف وألف عام من المنازعات والانقسامات والإحن. وفي الأثناء انقلبت الكنيسة من المبيت على انتظار الملكوت الوشيك الى “مجيئها” هي كنايةً عن ملكوت مبتدأُه في أوقات العالم كلها، ووجهه على الدوام الى سدرة المنتهى.
“لغة” الترجمة
والإغفال هذا ليس سهواً. وجمعُ التاريخ المسيحي، شرقاً وغرباً، في جملة متصلة ومستوية، وهو دغل ملتف الأغصان ولا تحصى شعابه، وجه من سياسة دائبة تتصدى الكنيسة الكاثوليكية إلى توليها اليوم، على نحو ما تولتها بالأمس (على عواهن ولايتها). فالكنيسة تقليد تاريخي متصل وجامع. ولعلها المبنى التاريخي، الجامع والمتصل الأول في التاريخ الأوروبي، والكناية الأقوى عن معنيي الجمع والاتصال التاريخيين. وهي تعزوهما الى اثنينيتها النواتية، وإلى طاقة الرسم الإثنيني، على خلاف رسم الواحد “الشرقي”، على تمثل المنازعة والفُرقة وإخراجهما مُخرج سيرورة متضافرة. فلا تذهب المنازعات والفِرق واختباراتها بدداً، ولا يؤدي تمثلها الى حرف الجسم الكنسي عن “طبيعته” المتغيرة فعلاً وحقيقة.
وقطبا التنزيه والتشبيه ـ وبينهما “جهاز” معقد ومتشابك ائتلف من الحدوس والقياسات والبراهين والتمثيلات والمجازات والحمل والعبارة والتأويل ـ هما “لغة”، أو بمنزلة لغة جامعة تتولى ترجمة حثيثة وعامة. فتترجم (عن) معاني التنزيه الى معاني التشبيه، وعن هذه الى تلك وتثبت “للترجمة” أقنوماً (“الروح القدس”) قائماً برأسه وداخلاً في الأقنومين الآخرين صليبة. واختبرت الكنيسة الجامعة والمسكونية في تاريخها الطويل مُسكة هذه “اللغة”، المسيحية والأوروبية السرح، وقوتها على الجمع، ومواردها. وهي، بلسان أسقفها وحبرها الأول، تزمع الوقوف حارساً على باب هيكل لم تبق سادنه المقدم والمتصدر.
فالتمدد الأوروبي سياسة واقتصاداً، يتفق، اليوم، وتظاهرات سياسية وثقافية وسكانية واقتصادية بالغة الأثر تحت جناح العولمة. وتضطلع المجتمعات المسلمة في التظاهرات هذه بأدوار راجحة لا تقتصر مفاعيلها على الحاضر، وتتطاول الى مصير المجتمعات الأوروبية. وتنتسب جماعات إسلامية فاعلة في مجتمعات المهاجرين المسلمين النازلين بدول أوروبا، الى توحيد “إرادوي” وذاتي. وقد يعصف هذا النحو من التوحيد بمجتمعات المهاجرين الى أوروبا، شأنه في المجتمعات المسلمة على الضفة الشرقية والضفة الجنوبية من حوض المتوسط. ودخول هذه المجتمعات أوروبا وتوسعها وتعاظم عددها من باب العولمة الغربية، يمتحن المُسكة الأوروبية الأميركية، وأركانها التاريخية والحضارية، محنة عسيرة، على نحو ما يمتحن العلاقات الدولية وموازينها. وإحصاء بينيديكتوس السادس عشر التوحيد المحمدي في باب الفرق والمقالات “المسيحية” المشكلة والمعضلة، هو من قبيل الدعوة الى التمسك بالتقليد (الإثني) الذي جرت عليه الكنيسة الجامعة والمسكونية في معالجة شجارات الفرق وخلافاتها. ويفصح المحاضر عن إدراج الإسلام المحمدي في هذا الباب من طريق رسم المطارحة، والكناية بهذا الرسم عن مقاصده، فوق إفصاحه عنه من طريق التقرير والحكم.
فهو يخلص من نعيه على بعض الفرق المسيحية “إرادويتها”، في
الفقرة الثالثة من المطارحة، إلى إثبات النواة الإثنينية في رسائل الرسل وأعمالهم (ويخص منهم بولس)، وفي النصوص الوسيطة، وأولها مجمع لاتران في أوائل القرن الثالث عشر (م)، في الفقرة الرابعة. والفقرتان بمنزلة توطئة تمهد للنصف الثاني من المطارحة، وهو جزؤها الأقرب الى المشاغل الفكرية والتاريخية العامة والمعاصرة. وفي النصف الثاني هذا، يبدو ان المحاضر “نسي” الإسلام، شأنه في الفقرتين الثالثة والرابعة. والحق انه لم “ينسه” ولم يغفل عنه إلا على صورة ظاهرة وحرفية. وهو لم يتناوله في نفسه، على ما مر القول، بل مثّل به على مذهب اعتقادي وفكري وتاريخي لم ينفك يراود المسيحية ـ اليونانية، أو المتهلينة، منذ بداياتها (وهذا ما لا يقر به حبر روما)، وفي عقود انفرادها بالهيمنة الفكرية والسياسية (على ما يقر)، وإلى يومنا.
فٍرَق الذاتية والنعمة
ويسوق اللاهوتي الألماني المسكوني تأريخه، وتأمله، سياقة متصلة. فيضع الفقرة الأولى من جزء مطارحته الثاني على فِرَق نقض الميل مع إثنينية التنزيه والتشبيه، المسيحية ـ اليونانية، والرجوع في الميل هذا وعنه. فبعد نسبته هذا الميل الى بعض الفرق اللاهوتية الوسيطة، ينسبه الى مذهب مسيحي عريض اضطلع بدور عظيم في تاريخ أوروبا والغرب عموماً، وفي تاريخ الكنيسة الكاثوليكية خصوصاً، هو البروتستانتية (أو حركة الإصلاح الديني في القرن السادس عشر). ويحمل المحاضر البروتستانتية على “الموجة الأولى” من موجات النقض على العقلانية المسيحية ـ اليونانية. ويعزوها ـ أي يسوغها بعض التسويغ ولا ينكر صدورها عن علل معقولة وجائزة ـ الى غلبة الميتافيزيقا الكلامية، والأرسطية الإكوينية، على الإيمان الكتابي والنبوي الخالص والصافي. فالقول بـ”الكتب وحدها” (وهي كتب “الكتاب المقدس” في “عهديه”) معيناً للاعتقاد والإيمان، وحمل الإيمان على تلبية دعوة علوية تتوجه على وجدان الواحد الفرد (والواحدة) وقلبه وضميره، يرسي الإيمان والاعتقاد على ركن وجداني لا شراكة للعقل فيه.
وإدخال اطراح العقل، على وجه الترجمة، والوصلة بين التنزيه والتشبيه، تحت باب النقض على الهلينة، أو إنكارها، وتخصيص “الكتب” بالدعوة والتلبية، إنما هو قرينة على ما تتوخاه الكنيسة المسكونية وتنشده من إرساء الإيمان المسيحي على الركنين، دعوة الكتب وتصديق العقل. فهي تنشد المسكونية، او الجامعة الكونية العامة، المتربعة فوق “الكليات” واختصاصاتها. وتخشى أشد الخشية انفراد الوجدان أو القلب، وخاصهما الحميم والمنقطع من الغير ولغته (“لوغوس”) وآصرته المشتركتين، بتلبية الدعوة (“السماع”) الى الإيمان والتصديق. فينجم عن انفراد الوجدان أو القلب بالإذعان جواز “الخلاص بالإيمان” وحده و”على حسب انتخاب النعمة”، على قول بولس في رسالته الى اهل رومية (الرومان). وقد تُبطل “النعمة”، وهي لا علة لها على وجه التعليل والفهم الإنسيين، “الأعمال” الظاهرة. فبولس نفسه، وهو حجة أهل الإصلاح الأولى، قال: “فإذا كان ذلك بالنعمة فليس من الأعمال وإلا فليست النعمةُ نعمةً بعدُ” (11/6 من الرسالة نفسها). وتعهدت الكنيسة “الكلمة” و”السماع” نظير القلب، وليس خلافه.
وتعهدت “الأعمالَ” من غير أن تنكر “انتخاب النعمة”. فسعت الى احتسابها في الترجمة القدسية.
المركَّب الوسيط والتفكر
فلا غرو إذا أوّلت الكنيسة الإصلاح “الإنجيلي”، وطلبَه الاقتصار على القلب والنعمة، خروجاً صريحاً على وساطة “الجسد” الكنسي الزمنية والتاريخية، وعلى لغة الوساطة المشتركة. فالمركّب الوسيط من التنزيه والتشبيه مقام، أو نصاب، غامض على الفكر والتدبر العقلي، ولكن صوره في مرآة الإنشاء “العملي” جلية وواضحة. ولعل أقوى تمثيل على الأمر هو الكنيسة الكاثوليكية نفسها. وما آذن به الإصلاح، وما آل إليه ولم يحتسبه (شأن الحوادث التاريخية الكبيرة)، هو إسناد البشر اجتماعهم وتاريخهم إلى مناط مختلف ومحدث، لا قيد عليه من (افتراض) تناظر المفارق المنزَّه والمحايث المتشابه. فأسلم المناط المحدثُ (والجديد تاريخاً) النظيرين المفترضين كلاً الى “منطقة”، وفك عالم التشبيه الأرضي والإنسي، وعلومه ومعارفه وغاياته، على الشبه والمثال السابق. واشترط على تناول المرسل لا إلى حد (غير المتناهي)، جوهراً فكرياً أو مادة متميزة، ان يكون مبناه على حدس إنساني أو فكرة إنسانية. فالحدس والفكرة الإنسانيان صارا بؤرة إثبات المرسل. وعلى هذا، احتج البرهان الوجودي للحقيقة الإلهية بفيض فكرتها عن أعيان المدركات الإنسانية، وبكمال هذه الفكرة قياساً على الأفكار الأخرى. وتقدُّمِ تفكرُ النفس نفسَها (الـ”كوجيتو”)، وإيجابُ هذا التفكر اليقين، إثباتَ الحقيقة الإلهية. واقتصر فعلُ الحقيقة الإلهية على تمكين الأعيانِ وحقيقةِ الجوهر المنبسط الذي يقوم منها مقام مادتها الأولى ونواتها المعقولة. والذريعة الى التمكين هي كمال الحقيقة الإلهية في النفس الإنسية، وفي فكرتها وتصوراتها.
فانتصبت “ذات” الإنسان ميزاناً ومعياراً ومبنى. وينسب الأسقف المحاضر الموجة الثانية من موجات النقض على العقلانية المسيحية ـ اليونانية (وربما ينبغي، في ضوء ما تقدم للتو، إضافة صفة الواقعية الى صفة العقلانية، نظير الذاتية القلبية “الإنجيلية” البروتستانتية ونظير الفكرانية الديكارتية)، الى كانط الألماني، في النصف الثاني من القرن الثامن عشر.
وتوجز المطارحة المقالة الكانطية في فك الإيمان من العقل، وإخراج سرحه من سرح المعرفة وطرائقها ومبانيها. فخوى وفاضُ الإيمان من المعرفة العقلية، ولم يبق له مرسى غير العقل العملي، أي أحكام عمل الإنسان وما تثبته إرادته خيراً، ويتيقنه “قلبه” على الصفة والحال هاتين. وتابع اللاهوت الليبرالي، على قول حبر اللاهوت الكاثوليكي المعاصر، البروتستانتية والديكارتية والكانطية على ذاتيتها. وفكِّ اللاهوتُ الإيمان من الاستدلال على المُفارِق المنزَّه من طرق المحايثة والأشباه، وقدَّم “القلب” على النظر. ونسبت الليبرالية، أي مذهبها الثقافي والفكري، المسيح الى يسوع. وحملت يسوع بن مريم على “حياة يسوع”، على قول إرنست رينان في 1861، وعلى حوادثها ومقالات أصحابها ومباني خطابتهم وطبقات عبارتهم (أو تأويلهم). فلم يبق، في ختام نحو ثمانية عقود (1864 ـ 1943)، من “بناء السماء بالأرض” ونشوة هذه، على قول أسكيلوس اليوناني في معرض آخر وقبل خمسة قرون على مولد يسوع، شيء يعتد به اللاهوت والكلام، وتعتد به الفلسفة. وأُسلم قض التاريخ وقضيضه الى إنسانية موكولة بنفسها، وقائمة بأودها. وحل الاحتفال بـ”الكائن الأسمى” (1793)، على زعم روبسبيير الثوري الفرنسي، محل التعبد بالعبادات. وحُل “جسد الملك”، وهو كان جسدين: واحداً فانياً إنسياً وآخر صوفياً نورانياً لا يفنى وينتقل في ذرية الملك “الممسوح” ولداً عن والد، حُلَّ هو والمراتب في جسد “الشعب” الواحد، وإرادات أفراده و”أصواتهم” وسلطات الدولة المستقلة والمتضافرة.
والموجة الثالثة، بعد “الإنجيلية” البروتستانتية والأنسنة الكانطية والبروتستانتية والتاريخية العامة، هي عود على الكانطية، وعلى عقلنتها ومزجها الديكارتية، وفكرانيتها الرياضية الجامعة، بالتجريبية. وولدت الموجة الثالثة، على حسب تلخيص الأسقف المحاضر وترتيبه، مثالاً علمياً قائمتاه التجريد الرياضي واختبار العلائق بين الوقائع الكمية والمركبة. وهذا المثال محايث كله، ويتناول مادته على وجوه لا يفترض وجه منها قصداً، أو مصدراً مفارقاً ومنفصلاً، ولا شبهاً بين العقل ومبانيه وبين الطبيعة، مستودعاً فيهما وديعة. والمباني التي تحمل عليها التظاهرات والأعيان والعلائق، وتقوم منها مقام العلل الموجبة، ويرجع إليها التعليل، هذه المباني هي ثمرة تجريد من الاختبار، وهي نحوٌ من أنحاء قراءة الاختبار جُملاً متصلة ومقارنة. فلا عجب إذا اطرح “المنهج” مسألة المصدر أو المعنى (الإلهيين). فهو “بروتوكولات” اختبار وتعليل موضعيين ومحليين، وكفَّ عن الدلالة والإرشاد العامين. والحق أن الأفكار هذه سائرة ومتواترة منذ عقود طويلة، وبعضها منذ فجر العصور الحديثة. ولعل حمل المحاضر الأفكار والملاحظات السريعة هذه على “نقد العقل الحديث من داخل” لا يخلو من المبالغة. فهو يمسك عن الدعوة الى العود على ابتداء فهم وعقل مناطهما على الأشباه والنظائر، وعلى “توقيع” باري الأشباه والنظائر هذه مخلوقاته التي خلقها على رسم ضمَّنه أثرَ فعل الخلق، وكَنَى به عن فعله. ولا يبيّن عن نحو العلم “الجديد” والمولود من النقد هذا، ما خلا إشارة الى الوديعة المشتركة بين مباني العقل ومباني الطبيعة.
“الكتب” والتاريخ
ويستوقف في ملاحظات أسقف الكنيسة المسكونية على المنازع التاريخية في تناول الكتب الدينية، وفي ملاحظاته على الفلسفة الكانطية، ما قد يرى إليه كاثوليكيون، كثر أو قلائل، عودةً عن بعض المقالات الكنسية الحاسمة، ونقضاً عليها. ففي 1943، ولم تكن الحرب الثانية وضعت أوزارها، نشر بيوس الحادي عشر رسالة بابوية، “ديفينو أفلانتي سبيريتو”، دعت أهل الكنيسة، كهنة ورعايا، الى قراءة الكتب على نحو جديد. ونبهت الرسالة الى إسهام الحفريات الأثرية، ودراسة تواريخ شعوب الشرق الأدنى (والأوسط) القديم وآدابها وثقافتها، في بلورة معرفة بالفنون والمذاهب والأنواع الأدبية مثل المزامير والحكم والأمثال والملاحم. وهي فنون ومذاهب وأنواع دونت الكتب، كتب التوراة وكتب الأناجيل، على مثالها، وجرى تدوينُها مجراها. فالكتب المقدسة بنْتُ أوقاتها وزمن كتابتها.
وألزم الفحصُ الأدبي الشراح والمفسرين التقيد بالمعنى الحرفي، وتقديمه على التأويل الروحي والمجازي (“اليوحناوي”). وقصرت الرسالة إمامة الكنيسة الكتبية والتأويلية على الإيمان والأوامر والنواهي الخلقية. وترتب على حمل لغة الأناجيل (والتوراة) على سنن الناس في مخاطباتهم وكتابتهم، وعلى أفهامهم، تمييز المقالات “بحسب الحقيقة” من المقالات “بحسب الظاهر” والمتعارَف في وقت من الأوقات. وصنفت المقالات “العلمية” و”التاريخية”، مثل تلك التي تتناول الخلق والسماء والأرض والأفلاك والأنساب، في باب الظاهر. وجوِّز إخراجها مُخرج التمثيل والكناية والتقريب. وأَذِنت الرسالة بقراءة الكتب في اللغات “العامية” (غير اللاتينية) على شرط إجازة الكنيسة، ودوائرها الأسقفية والرعوية، ترجمتها، وعلى شرط تقييد قراءة المتون بشروح الكنيسة وهوامشها. ولا يخفى النحو “البروتستانتي”، أو التاريخي الإناسي والذاتي، الذي تنحوه هذه الرسالة.
ولا يرجع بينيديكتوس السادس عشر في أركان رسالة سلفه في السدة. فهذا ليس من شيم الحبرية، ولا تطيقه مباني الكنيسة المسكونية ولا معايير عملها. ولكن منزع مطارحة ريغينسبورغ الى جمع المخالفين، وهم شتى، على مخالفتهم “عقيدة” كنسية، أو رأياً ومذهباً “كاثوليكيين” ثابتين، وتوحيدهم لفاً واحداً، يشبه النهج المحافظ الذي انتهجته الكنيسة نفسها بإزاء ما سمته “الحداثوية”. ففي 1907، أذاع البابا بيوس العاشر رسالة وسمها بـ”باسكيندي دومينيتشي غريغيس” ندد فيها بمنازع التجديد المسيحية، والخروج على التقليد. وأدخلت الرسالة تحت باب واحد الفيلسوف والمؤرخ والمصلح الديني والاجتماعي والتربوي والمفسر الشارح وداعية العلمانية. وردت “أخطاء” هؤلاء و “أغلاطهم” الى أصل فلسفي واحد، أو بدعة واحدة، يتستر أهلها ـ على كثرتهم وتفرق مسالكهم ومطالبهم وأهوائهم ـ على اجتماعهم ولحمتهم. وترد الرسالة المنازع المتفرقة الى منزع واحد هو “عقيدة” اللاأدرية (“أغنوستيسيسم” أو “…زم”). وتعرفها بالمقالة التالية: “ليس في وسع عقل الإنسان، وهو أسير دائرة الظاهرات المحكمة القفل، وسجين لائحة الأشياء، تعدي حدود دائرته هذه، وليس في مَلَكاته ملكة واحدة تخوله تعديها، وتجيز له الحق في التعدي. وعلى هذا، فالعقل قاصر عن التسامي إلى الله، بل هو قاصر عن إثباته، من طريق المخلوقات، موجوداً. ويخلص أهل هذه العقيدة من مقالتهم إلى أمرين: الأول أن الله ليس مطلبَ علم مباشراً، والآخر أن الله ليس شخصاً تاريخياً”.
ويسيرٌ على القارئ تعرف الكانطية، والتأريخ البروتستانتي والليبرالي، والنهج العلمي الرياضي التجريبي، في اللاأدرية على حدّها البابوي هذا. وهي عينها، غداة قرن على رسالة سلفه بيوس العاشر، مطاعن الحبر على مذاهب “العصر” ومقالاته. فلا يدري القارئ كيف يؤوِّل أو يستقبل إنكار الأسقف جواز فهم مقالته “اطراحاً لمعتقدات العصر الحديث ومسلماته”. فهو يطّرح، من غير لبس، أصول التنوير الأوروبي وأُمات مفهوماته مثل الرشد الفردي (على حد كانط التنوير في رسالته: “ما التنوير؟”)، والقيام بالنفس، وتقييد الأحكام بسرحها، وكثرة العلل، وصنع البشر تواريخهم ومجتمعاتهم، وغيرها. ويبعث، من غير لبس كذلك، تقليداً فكرياً سعى، طوال القرن الماضي، بعض أحبار الكنيسة المسكونية وأساقفتها ورهبانها، ومثقفيها “العلمانيين”، في فحصه فحصاً نقدياً، وعرضه على النظر والمسألة.
ولا تُسلم الملاحظة المزدوجة، ملاحظة الاطراح والبعث البابويين، الى مديح “العصور الحديثة”، ولا إلى ثلب “العصر الوسيط”.
فالمديح والثلب يصدران عن نصاب خارجي، على قول الحبر “الرومي” في الميتافيزيقا وحكمها في الإيمان. ويوهم افتراض النصاب هذا بأن الخُبُر (أو الاختبار) التاريخي ليس أصيلاً ولا أولاً ولا فاعلاً منتجاً، وأنه عرض ظاهر يتستر على معان باطنة. والمعاني الباطنة، على زعم النصاب الخارجي هذا، ليس في مستطاع البشر، ما خلا صفوة مصطفاة، سبرها وتأويلها، وربما صنعها وتسويتها على مثال سابق وخفي. ويفضي التصور الأسطوري هذا الى عرفان أو غنوص “قصصي”، بعضه “رجعي” وبعضه الآخر “تقدمي”، ويحيل تاريخ البشر الى تفاهة لا قرار لها، أو إلى مسرح أقنعة. ويقوض مذهب مثل هذا المذهب، جهره أصحابه أم أسرّوه، كل مناقشة، وكل مقالة.
المستقبل
مواضيع ذات صلة:
النص الحرفي لخطاب البابا بندكتوس السادس عشر
“إن الله لا يُسَرُّ بالدماء، وإن السلوك غير العقلاني يناقض طبيعة الله”
الإمبراطور كان مطّلعاً على السورة 2-256 التي جاء فيها: “لا إكراه في الدين”