قراءة في ملف الأمور المسكوت عنها-(166)
يبدو أن التطاول على الأديان والتعريض بالعقائد أصبح حرفة لها سوق رائجة ولها مريدون يتلهفون على ما تنتجه من أفكار مغلوطة وتنشره مقروءا أو مسموعا أو مرئيا…وللأسف فإن تلك الحرفة التي تدغدغ مشاعر البسطاء وتضلل الكثيرين يمتهنها الكافة الموزعون على كل الأديان والعقائد, منهم من يفتخر بالمبادرة ومنهم من يعتذر بأن عليه مسئولية الرد…ويظل التراشق البغيض مستعرا بين هذا وذاك بينما الخسارة الحقيقية تكمن في غياب المعني السامي للأديان والمقصد الأصلي لها في صلاح الإنسان وسعادته, فيتحول إلى مخلوق كريه منفر أبعد ما يكون عن إرضاء خالقه.
لا يكاد يمر أسبوع حتي يأتيني من يحمل مقالا أو كتابا أو شريط كاسيت يتضمن مادة هجوم على العقيدة المسيحية أو على الكتاب المقدس, طالبا نشر ما سطره قلمه ردا على ذلك الهجوم, أو مطالبا بأن تتصدى جريدة وطني للرد…وفي جميع هذه الحالات إذ أتبين أن مصدر المادة أو ناشرها جهة تنتمي إلى القطاع الخاص أنأي بنفسي عن أن أستدرج في مهاترات أو حروب كلامية لا قبل لي بها, لأني أعرف تماما أن العقيدة المسيحية راسخة والإيمان المسيحي ثابت وبعيد عن الفحص والاستقصاء, ولو كان هدف من يتعرضون له بالتجريح والتكفير هو الاستعلام أو الاستسفار لذهبوا يبحثون عن ضالتهم في معاقل هذا الإيمان وبين جنبات الكتب ومصادر الفكر والتحليل, لكن للأسف ليس الأمر كذلك ولا ينتظر أحد هؤلاء ردودا لأنه لا يحمل شغفا صادقا على المعرفة, و إلا كان الكثيرون يسارعون بمجاوبته عن حقيقة الإيمان الذي بداخلهم, بل المسألة مجرد تنفيس هستيري عن مخزون بغيض للكراهية والتعصب وهوس مستفحل للفرز بين الناس وتوزيع مراتب الجنة والجحيم عليهم!!
شاهدنا ذلك مرارا وتكرارا على الأرصفة ولدى باعة الصحف الذين يفترشون
الطرقات بالكتب والأشرطة الضحلة, ووجدت تلك البضاعة طريقها إلى أرفف بعض المكتبات, وكان مسك الختام ما انتشر في السنوات الأخيرة داخل أروقة معرض القاهرة الدولي للكتاب على أيدي دور النشر التي تطلق على نفسها دور النشر الإسلامية والتي برعت في عرض إنتاجها من كتب وأشرطة الهجوم على المسيحية وتحقيرها بشتى الطرق والوسائل, حتى أن اللافتات الدعائية الكبيرة التي تحمل ذلك المضمون والتي تماثل الدعايات الانتخابية كانت تعلق فوق مقار تلك الدور في المعرض متحدية مشاعر المترددين والمتجولين من المسيحيين دون أن تجد من يتدخل لإيقاف ذلك العبث من القائمين على إدارة المعرض, وتاركة البعض يتساءلون: صحيح أن الفكر لا يقاوم بالمصادرة إنما بالفكر وصحيح أن مصادر ذلك الفكر المغلوط تنتمي إلى القطاع الخاص, لكن تركه يعلن عن نفسه بتلك الطريقة الفجة في معرض تنظمه الدولة بواسطة هيئة معارضها يعد تجاوزا خطيرا يرسل إشارة خاطئة للمواطنين البسطاء مؤداها أن الدولة توافق-بل تبارك-ذلك العبث الذي لا يقل أبدا عن استخدام الشعارات الدينية في الانتخابات, بل هو أسوأ وأخطر منه في أثره.
ولعل من مظاهر اللامبالاة والتقاعس عن إيقاف ذلك العبث أن مؤسسات الدولة المعنية بالفكر والنشر أصبحت سهلة الاختراق بواسطة أصحاب الفكر الأصولي وأباطرة التطرف الديني حتى أنها تنزلق بين الحين والآخر في استضافة ونشر نتاج هذا الفكر!!. ويقف المرء حائرا أمام هذا الانزلاق غير المسئول لأننا في هذه الحالة لا نتصدى لدور نشر تابعة للقطاع الخاص لا سلطة لنا على نشاطها, إنما نحن أمام مؤسسات رسمية تابعة للدولة وممولة من أموال دافعي الضرائب من المصريين ويجب عليها أن تتوخى الحكمة والحذر والحياد قبل أن تستخدم كأدوات لترويج الفكر الأصولي الهدام لطرف من دافعي الضرائب على حساب طرف آخر منهم…وقد سبق أن أثارت وطني منذ بضعة أشهر قضية كتاب :”فتنة التكفير بين الشيعة والوهابية والصوفية” للدكتور محمد عمارة الذي أصدره المجلس الأعلي للشئون الإسلامية التابع لوزارة الأوقاف والذي حوى مقاطع تتولى تكفير المسيحيين وتدعو لاستحلال دمائهم, وقد سارعت الوزارة في حينه بالاعتذار عن هذا التجاوز والتزمت بسحب نسخ الكتاب من السوق وإصدار طبعة ثانية منه بعد تخليصه من الأجزاء التي تضمنت الإساءة إلى المسيحية والمسيحيين.
اليوم تعرض وطني لحالة ثانية تنتمي إلى نفس السلوكيات غير المسئولة لمؤسسة تابعة للدولة هي الهئية المصرية العامة للكتاب, والتي أصدرت مؤخرا كتابا يحمل عنوان “من دلائل عظمة الرسالة المحمدية والبشارات بها في كتب أهل الكتاب” لمؤلف يدعي محمد السادات, والكتاب يحتوي في أجزاء متفرقة منه هجوما بشعا على المسيحية والإنجيل وادعاءات غريبة غير موثقة من نتاج خيال المؤلف!!…أما أعجب الأعاجيب التي تثير الضحك فهي أن المؤلف بعدما فرغ من الهجوم على اليهودية والمسيحية والكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد, وبعدما اجتهد في اتهام الكتاب المقدس بالشطط والتحريف, شرع في رصد ما جاء فيه من إشارات ونبؤات عن النبي محمد رسول الإسلام وعن دلائل الاحتفاء به وإعلاء شأنه كأصدق الرسل وخاتم الأنبياء والمرسلين…فكيف يستقيم الأمران معا؟ سحب المصداقية من الكتاب المقدس والاعتداد بمرجعيته في آن واحد؟…لكن ليست هذه هي المشكلة, فالكتاب المقدس ليس معلقا أسير الحصول على شهادات اعتراف من أحد, والمسيحيون لن يكونوا رهينة موقوفة على الحصول علي الأيزو من أحد في إيمانهم وعقيدتهم…إنما المشكلة في انزلاق واحدة من دور النشر التابعة للدولة والممولة من دافعي الضرائب في إصدار كتاب يهدد الوحدة الوطنية ويطعن معايير المواطنة في الصميم.
*جريدة وطني