1- الفقر الريفي : الأسباب والمؤشرات
2- التركيب الإجتماعي السياسي للريف في لبنان
3- حرب 1975-1990 وبعض نتائجها السياسية في الريف
4- الوضع الإقتصادي للأرياف بعد 1990
5- حضور القيادات السياسية ودورها في الأرياف الفقيرة
6- النتائج السياسية للفقر الريفي:
– استتباع
– اعتراض متوتر
الوقع السياسي للفقر الريفي في لبنان منذ 1990
من المفيد ان نبدأ بوضع كلمات وافكار حول الفقر الريفي في لبنان اسبابه وقائعه ومؤشراته.
-1- الفقر الريفي في لبنان
لا نريد العودة الى التاريخ كثيراً، فالفقر الريفي امر مزمن في لبنان كما في اكثرية دول العالم. لكنه يبرز بشكل اوضح في لبنان بسبب الطابع البراق لبعض انجازات الإقتصاد المديني اللبناني.
فالريف اللبناني كان من اهم ضحايا “الحروب من اجل الآخرين: 1975-1990” التي امعنت فيه تدميراً وتهجيراً فتراجعت المساحات المزروعة الى النصف (1)، ولذلك تراجعت نسبة العاملين في الزراعة من 17% الى 12% من القوى العاملة بين 1975 و 1990.
وبعد 1990 ضرب القطاع الزراعي لثلاثة اسباب:
السبب الأول سياسة الباب المفتوح القسرية والإرادية التي اعتمدتها الحكومات اللبنانية بعد 1990: ففتحت الحدود البرية امام المنتوجات السورية وغير السورية الرخيصة بسبب انخفاض الأجور وايجار الأرض والدعم الحكومي في بلدان مجاورة بالمقارنة مع لبنان. ثم ان الحكومة اللبنانية قد ازالت الحمايات الجمركية قبل ان تدخل في مفاوضات مع الإتحاد الأوروبي بخصوص اتفاقية الشراكة بدل رفعها للتفاوض على خفضها. كالمفاوض الذي يرمي بسلاحه ويحل جيشه قبل ولوج طاولة المفاوضات. كما ان الحكومات المتعاقبة لم تقم بأي خطوات جديدة لتحسين انتاجية ونوعية الإنتاج النباتي والحيواني منذ توقيع لبنان على اتفاقية التيسير العربية عام 1981 والتي دخلت حيز التنفيذ في مطلع عام 2005.
اما السبب الثاني: فهو السياسات المالية والنقدية التي اتبعتها الحكومات اللبنانية خاصة منذ 1992وحتى قبل هذه السنة احياناً. فسياسة دعم سعر صرف الليرة اللبنانية تجاه الدولار من خلال اصدارات سندات خزينة بفوائد عالية جداً (بلغت الى 35%الى 40%) ادت الى اقصاء نسبي لقطاع الخاص وخاصة الزراعي منه الى حد كبير من سوق التسليف. فالتسليف للدولة اسهل واقل خطورة (حتى الآن) واجدى من التسليف للقطاع الخاص وخاصة الزراعي منه. وقد ساهم ذلك ايضا في خنق القطاع الزراعي ورفع تكاليف الإنتاج. كما ان جوانب اخرى من سياسة الدولة ساهمت في: رفع سعر الكهرباء، وسعر ايجار الأرض (من خلال دعم الشمندر السكري وغيره)، الوقود (احتكار الإستيراد)، وكلفة الإتصالات، الخ…
السبب الثالث: هو اهمال الزراعة في خطط الإنماء والإعمار بعد 1990. فتأخرت مشاريع الري والتسليف واجهزة الإرشاد ومساعي التسويق، والإرشاد الزراعي، والبحث الزراعي التطبيقي…
كل ذلك ساهم في تراجع الزراعة وافقار الريف. وبقي في القرى اكثرية من المسنين والأولاد والنساء وغير المتعلمين و…. من موظفي الدولة…
-2- التركيب الإجتماعي السياسي للريف في لبنان
– الوضع الحالي ناتج عن نوعين من التطورات.
– تطور المجتمع من مجتمع اساسه العائلة الإمتدادية (Extended Family) اي “العشيرة”، والذي تقوده سياسياً نخب من الوجهاء المسماة زعامات تقليدية او أقطاع سياسي (آل الأسعد، آل حماده، آل ارسلان، آل جنبلاط، آل سكاف، آل فرنجية، آل المرعي، آل رعد،….)، الى مجتمع حيث تذوب تدريجياً التركيبات الإجتماعية العشائرية وتحل محلها تركيبة اجتماعية مبنية على الأسرة وتركيبة سياسية قائمة على الأحزاب والحركات والتيارات السياسية للطوائف.
واسباب هذا التطور التحديثي متعددة: الهجرة الى المدينة والخارج ارتفاع مستوى التعليم، تراجع نسبة العاملين ضمن مؤسسات اسرية صغيرة (غير الأجراء)، اي كافة اشكال التحديث الذي حصل في لبنان بشكل شبه متواصل منذ عقود طويلة. وبرزت هذه التطورات سياسياً اولاً في المدن وفي وسط لبنان، ثم توسعت تدريجياً نحو الأطراف. وكل مراقب للتاريخ السياسي اللبناني يلاحظ ان احزاب وحركات وتيارات الطوائف الحديثة بدأت من الوسط والمدن وضواحيها وتوسعت نحو الأطراف (الكتائب، وامل، والحركات الناصرية، وتيار المستقبل، وحزب الله، على سبيل المثال لا الحصر).
حدثت هذه التطورات مبكراً في الوسط المسيحي وفي الوسط السني ثم في الوسطين الشيعي والى حد ما الدرزي.
3- الحرب وبعض نتائجها السياسية في الريف
واتت الحرب فافرزت اكثرية هذه الأحزاب ميليشياتها. وبانتهاء الحروب في الداخل اللبناني عام 1990 بدخول الجيش السوري الى القصر الرئاسي ووزارة الدفاع، جرى تركيب حكومات مؤلفة بعدد كبير من وزرائها الأساسيين من قيادات وممولي الميليشيات كما هو معروف (بحصص متفاوتة بالسلطة).
وجرى تسليم مؤسسات اساسية في الدولة لقادة هذه الميليشيات ليستطيعوا توزيع “المغانم” لأتباعهم: من توظيف في اجهزة الدولة المدنية والعسكرية والأمنية والى استلام اهم احزاب بعض الطوائف لمؤسسات انمائية واعمارية يوزعون عبرها اموال يدفعها مكلفون لبنانيون على انصارهم: مجلس الجنوب، وزارة المهجرين، مجالس الإنماء والمشاريع، بعض الوزارات: الصحة، الموارد المائية والكهربائية، التربية، الزراعة، الشؤون الإجتماعية، الأشغال العامة، الداخلية، وزارة الإقتصاد والتجارة، المالية، الإعلام والوكالة الوطنية للإعلام، الصندوق الوطني للضمان الإجتماعي، الخ…
قسم كبير من هذه القيادات السياسية تنتمي الى المناطق الريفية كما هو معلوم: الجنوب، جنوبي جبل لبنان، البقاع، الشمال.وهم نواب عن دوائر هذه المناطق الريفية ويترددون عليها اسبوعيا او اكثر، حين يستقبلون الأنصار وطلباتهم، تعزيزاً لعلاقات الولاء والتبعية.
4- الوضع الاقتصادي في الأرياف بعد 1990
تتألف موارد قرى الأطراف الاقتصادية أساساً من:
أ- زراعة وتربية مواشي
ب- وظيفة عامة
ج- هجرة
هـ- تجارة، خدمات (في القرى الكبرى والبلدات)
وللتأكد من ذلك يكفي النظر الى مجموعة “لبنان في موسوعة” وهي موسوعة من 20 جزء تتناول وصف كل قرى وبلدات ومدن لبنان صدرت عام 2002 وقد أعدها الباحث كمال فغالي، وتتضمن بالنسبة لكل قرية:
1- وصف جغرافي
2- لمحة تاريخية
3- أثارها
4- السكان: اعداد المقيمين، المنتخبين
5- وصف اجتماعي: العائلات والطوائف والنخب
6- اقتصادي: موارد القرية الاقتصادية.
في الأرياف الفقيرة : (عكار، الضنية، المنية، زغرتا، بشري، البترون، جبيل،جزين، النبطية، مرجعيون، حاصبيا، راشيا، البقاع الغربي، بعلبك، الهرمل). هذه هي الموارد الأساسية للقرى.
5- حضور القيادات السياسية ودورها في الأرياف الفقيرة
– حضور الدولة قوي في هذه الأرياف الفقيرة التي بسبب فقرها تغذي الجيش وقوى الأمن بالرجال، كذلك موظفي التعليم الرسمي والإدارات المختلفة بالطاقات البشرية.
– هذه التغذية تجري عبر السياسيين الذين يدعمون طلبات توظيف الأشخاص الذين يدينون لهم بالولاء.
– من جهة أخرى فبعد امراء وممولي الحرب السابقين سيطرون على مؤسسات اساسية في الدولة (مجلس الجنوب، وزارة المهجرين، مجالس المشاريع والإعمار، وزارات) كما اسلفناه. يستطيعون عبر هذه المؤسسات اغداق المنافع المالية والخدمات على انصارهم كما هو معلوم. (تعويضات مالية لأضرار قسم منها وهي، الى خدمات فعليه في مجالات تلزيم الأشغال التي تنفذها الدولة، الى خدمات صحية: استشفاء وتعليم، وخدمات اجتماعية: مساعدات لمستوصفات ونوادي وجمعيات، الى غض النظر عن دفع رسوم خدمات عامة للدولة(الكهرباء، مثلاً) او الضرائب.
– كما ان هناك احزاب وحركات وتيارات وشخصيات سياسية، توزع اموال وخدمات، مصدرها بلدان النفط.
– وكما هناك قيادات سياسية تدفع رواتب شهرية لألآف الأسر في الريف مما يؤمن الولاء.
6- النتائج السياسية للفقر الريفي
– هذه التركيبة الإقتصادية الإجتماعية السياسية في الريف تؤدي الى نتيجتين اساسيتين:
النتيجة الأولى: تنتج الأرياف قيادات سياسية شديدة الإرتباط بالسلطة، وهي جزء اساسي منها في أكثرية الطوائف اللبنانية الريفية (شيعة، دروز، موارنة، روم كاثوليك، سنة، روم ارتوذكس). وهي مستمرة ومقوية لزعامتها، من خلال اغداق المال العام او/ والمال النفطي على انصارها (وظائف، رواتب، خدمات مختلفة، تنفيعات مالية…) لتوسع نفوذها.
وفي هذه الأرياف الفقيرة حيث تنهار الزراعة بسرعة منذ عام 1990 تحت وقع سياسات الباب المفتوح على المزاحمة والإنفراق الخارجي للإنتاج الزراعي والحيواني اللبناني، كذلك الإنتاج الحرفي في الريف، تشكل الأموال التي تنفقها الدولة على موظفيها الريفيين (الذين يشكلون اكثرية الموظفين) مورداً اساسياً لإقتصاد القرى والبلدات وكذلك الخدمات الصحية والتربوية والإجتماعية، والدفعات النقدية والتلزيمات. كما تشكل الأموال ذات المصادر النقدية التي تضخها قيادات وهيئات سياسية عبر مؤسساتها على المواطنين مصدراً مهماً للدخل الريفي. لذلك نرى القوى السياسية الموالية منذ عام 1990 هي غالباً قوى ريفية قائمة على الزبائنية السياسية ومتمركزة في افقر المناطق الريفية: الشمال من البترون الى عكار، البقاع باستثناء وسطه الى حد ما، الجنوب بمحافظتيه، وجنوبي جبل لبنان.
اما القوى المعارضة، فتتمركز غالباً في المدن وخاصة المناطق الريفية الأقل فقراً كوسوط جبل لبنان والبقاع والجنوب حيث يرتفع مستوى تعليم السكان.
النتيجة الثانية: بروز اشكال متوترة من الإعتراض على الوضع الإقتصادي والسياسي منذ 1990 في بعض الأرياف.
ان بؤرة الفقر الريفي قد انتقلت منذ مطلع ستينات القرن الماضي حتى الآن من جنوبي لبنان الى شماله. ومع انتقال هذه البؤرة تغيرت جغرافياً قوى الإعتراض ايضاً من الجنوب اليساري و”الأملي” الى الشمال القواتي وكما الأصولي السلفي والتكفيري عكار والضنية. كما ان ظاهرة “ثورة الجياع” التي اطلقها الشيخ صبحي الطفيلي في قضاء بعلبك لها علاقة في بعض جوانبها بهذه الظاهرة.
كما ان الفقر قد ساهم في تغذية قوى اعتراض اخرى مؤخراً في بعض المناطق الريفية: كالتيار الوطني الحر، وحزب الله الى حد ما وغيرها من القرى السياسية.
خلاصة:
هذه نتيجتان اساسيتان للفقر الريفي على الصعيد السياسي: تقوية الزبائنية السياسية وتقوية اشكال متوترة من الإعتراض على الواقع السياسي والإقتصادي القائم منذ 1990.
محاضرة القيت في الجامعة اللبنانية الأميركية – دائرة العلوم السياسية – بيروت – الأربعاء 6 حزيران 2007.
صدر في جريدة النهار البيروتية في 16/7/2007، ص 8.