في عام 1998، وكنت أجري تحقيقاً صحافياً في الضاحية الجنوبيّة، منطقة النفوذ الأمني والعسكري لتنظيم “حزب الله”، تمّ توقيفي على يد عناصر من التنظيم المذكور بتهمة “الاصطدام” بأحد ضلوع مربعهم الأمني. وقد قام عناصر التنظيم المذكور باقتيادنا، أنا وزميل مصوّر صحافي ومواطن عراقي لاجئ كان يشرح لنا ظروف حياة العراقيين في الضاحية، إلى مركز للتحقيق لم يتسنّ لنا معرفة عنوانه أو رؤية معالمه. فالسيارة التي اقتادنا بها عناصر حزب الله كانت مخصّصة لاقتياد الأشخاص عنوة إلى جهات مجهولة. سيارة سوداء بلا لوحات، داكنة الزجاج، ومجهّزة بستائر داخليّة تمنع الرؤية إلى الخارج. كما وكان توجيه الأسئلة أو أي نوع من الاستفهام والكلام إلى المسلحين الأمنيين، محظوراً بالكامل وبجلافة موصوفة لم تنفع معها أو تخففها بطاقاتنا الصحافيّة.
في مركز التوقيف عاملنا عناصر التنظيم المذكور كسجناء. اخذوا منّا ساعات المعصم وأحزمة الخصر والأحذية. كما أخذوا كاميرا الزميل المصوّر ودفتري ومحفظتي وكلّ ما في جيبي من أوراق. ووضعوا كلّ منّا في غرفة احتجاز صغيرة بمساحة (20 1م * 1.20م).
كان في الغرفة كرسيّ يواجه مرآة تتخللها على مستوى ارتفاع الخصر فتحة مربّعة صغيرة تسدّها قضبان حديديّة من جهتنا ومغلاق متحرّك من الجهة الأخرى، جهة المحقّق المفترض. الفتحة الصغيرة تلك كانت أشبه بثقب أسود، أو بفوهة تطلّ على ظلام دامس يقعد فيه المحقّق.
على مدى ست ساعات تمّ التحقيق معنا، من الثامنة مساء ولغاية الثانية فجراً. كان واحدنا خلال التحقيق، بين الحين والآخر، يسمع صوت زميله الموجود في غرفة احتجاز أخرى، وذلك بواسطة أجهزة صوت موجودة في كلّ غرفة احتجاز. الشاب العراقي كان مضطرباً للغاية وقد شعرت تجاهه بالذنب، إذ كنت السبب في توريطه معي، أنا الذي أقوم بعملي الصحافي. فقد كانوا يجرون معه، بحسب صوته المضطرب الذي كان يصلني، تحقيقاً “فقهيّاً” إن جاز القول. تحقيقاً حول المرجعيّة الدينيّة التي يقلّدها، ولماذا يقلّد هذه المرجعيّة لا تلك، وحول الأسباب والمواقف التي تمنعه من تقليد مرجعيّة معيّنة … وما إلى ذلك من أمور بدا لي التطرّق إليها في غرفة اعتقال وتحقيق كهذه، في غاية الغرابة.
بالنسبة لي كان التحقيق معي مركّزاً وشاملاً. بدأ المحقّق الخفي، القابع في عتمة الثقب الأسود، يطرح عليّ، بلهجة جنوبيّة، أسئلة تمهيديّة: اسمي كاملاً، ومهنتي ومكان عملي وسكني. ثم انتقل للتفصيل بأسئلة حول مدرستي الأولى والمراحل المدرسيّة الابتدائيّة والثانويّة ثم الجامعيّة، ثمّ أسئلة عن أصدقائي المقرّبين، أين نذهب وأين نسهر وماذا نتحدّث، وإن كان لدي صديقة مقرّبة ومنذ متى، وأين أخرج معها وماذا نفعل، وأسئلة حول أهلي وأخوتي وأقاربي فرداً فرداً، ماذا يفعل كلّ واحد منهم وأين يسكن. وقد مرّر لي المحقق الخفيّ عبر الطاقة المظلمة ورقة وقلم لأرسم له خارطة تبيّن كيفيّة الوصول إلى منزلي، ولأكتب له على تلك الورقة رقم هاتفي واسمي كاملاً. وانتقل لطرح الأسئلة حول الأوراق والبطاقات التي بحوزتي وحول الملاحظات التي دوّنتها على صفحات دفتري الصغير، وحول ما إذا كنت متديّناً أم لا، ولماذا. كافراً أم لا، ولماذا. ملحداً أم لا، ولماذا. أصلّي أم لا، ولماذا. وحول ما إذا كنت أشرب خمراً، ولماذا، وأسئلة حول السفر ووجهته … وهكذا على وتيرة واحدة طيلة ست ساعات متواصلة. وحين أخرجنا من غرف الاستجواب سلمنا هؤلاء أغراضنا من دون أفلام كاميرا الزميل. وأهدونا كراريس دعائيّة لقائد الثورة الإيرانيّة الخميني. ثمّ اقتادونا بالسيّارة الأمنيّة السوداء، التي يرافقها عناصر على دراجات ناريّة، إلى مكان قريب من الموضع الذي أوقفونا فيه، وأفرجوا عنّا مشترطين عدم محاولتنا من جديد التصرّف هكذا، من دون إذنهم، هناك على تخوم دويلتهم الأمنيّة. إذ كانت تتراءى لنا آنذاك، في أواخر التسعينات، هنيهات من الوهم والحلم بانتهاء الدويلات الأمنيّة المغلقة.
والحقيقة فإن ذكرى حرب تمّوز 2006، الحرب المحبطة والمغلقة الأفق، أعادت تلك الواقعة إلى ذاكرتي بقوّة. فهي الحرب التي علمنا وذقنا منها، بشكل مؤلم وكابوسي، مدى حقيقة الدويلات الأمنيّة المغلقة في حياتنا، ومدى قدرتها على التوريط وعلى التهرّب من المحاسبة وعلى عدم التضرّر جرّاء الدمار والموت والبؤس والتشرّد والبطالة والسّأم الذي قد يصيب من هم ليسوا في دوائرها. إنّها الدويلة الأمنيّة المغلقة التي تحيا بيننا وتقتادنا وتحقّق معنا وهي محجوبة عنّا، وهي التي كنّا في أواخر التسعينات، نصطدم بأضلاع مربّعاتها الأمنيّة عنوة، أو نقع أحياناً في قلب بؤرها كمن يقع في الفخّ، ونعود من هناك صامتين، ظانين أن مجرّد تناسيها ومحاولة تجنّبها في المرّات اللاحقة كفيلان بإبعاد أشباحها عنّا.
في الواقع إنّها تتمدّد وتحاول قضم مساحات أكبر من حياتنا، مساحات بات من الصعب تجنّبها. وما أعاد لي واقعة الاحتجاز والتحقيق لتكون أكثر إلحاحاً في ذاكرتي، ليست فقط ذكرى حرب تمّوز.
شيئان، إلى ذكرى الحرب، جعلاني أشعر برغبة ملحّة للتأمّل في ما يعنيه العيش إلى جانب دويلة أمنيّة مغلقة، لها سلطة الاحتجاز والمساءلة والتحقيق وبناء الملفّات الأمنيّة التفصيليّة للأشخاص هكذا، عنوة واغتصاباً.
الشيئان المذكوران هما واقعتان أيضاً، فيهما، بالنسبة لي، اليسير من المشاعر الشخصيّة ومن نزوات الانتماء إلى المدينة والدولة وإلى نظمهما المكشوفة في العلاقات مع الآخر ومع الأنظمة، وذلك ليتسنّى للشخصي أن يكون أكثر شخصيّة وحرّية ما دامت العلاقة مع الآخر والعام مضبوطة بالقوانين والأنظمة والمعايير المكشوفة، الشفّافة والصريحة.
الواقعة الأولى جرت منذ أكثر من أسبوع. كنت قد توجّهت إلى وسط البلد في بيروت للقاء أصدقاء في صحيفة الحياة ولقضاء بعض الوقت معاً في مقهى هناك. عند الطرف الشمالي لجسر فؤاد شهاب (الرينغ) حيث وضعت أسلاك شائكة حول اعتصام (؟) المعارضة الذي تقوم عناصر أمنيّة من “حزب الله” بحراسته، حاول واحد من هؤلاء الأخيرين توقيفي. كان يحمل جهاز لاسلكي، ويشبه بثيابه الداكنة وملامحه الفظّة الصامتة تلك العناصر التي أوقفتنا في الضاحية ليلاً في عام 1998.
“هاي”، “هاي”، “أنت”، راح ينادي إذ عبرت ولم ألتفت. “سسسووو” (صوت صفرة)، “سسسوووو”. لم أمتثل ولم أقف ولم ألتفت. “هاي”، “وينك، هاي”، “هاي”، “سسسسوووو”! كنت أتقدّم بسرعة وإصرار في الشارع الذي ينزل من طرف الرينغ الشمالي إلى شارع المعرض بمحاذاة التياترو الكبير وبنايتي المركزيّة واللعازاريّة. وكنت أقول في نفسي “فليفعل ما يشاء، فليطلق النار، فأنا لن أقف ولن أخضع لتفتيشه ولنظراته الفظّة البائسة”. “إن تبعني، هو ومن معه”، رحت أقول في نفسي أيضاً وأنا أسير، “فسوف أرفض الخضوع لتفتيشهم ولن أفتح لهم حقيبتي، وسوف أقول لهم: إسمعوا، أنا مدني وأنتم مدنيّون مثلي أيضاً، فلا يحقّ لكم تفتيشي. لا سلطة لكم عليّ، لستم رجال شرطة لدولة أو لنظام أحبّ أن أمتثل له، وإن كنتم مصرّين على رؤيتي أخضع للتفتيش فسوف يكون عليكم الطلب من جندي في الجيش اللبناني، أو عسكري في الدرك، للمجيء فيفتّش حقيبتي هو”. وصلت إلى شارع المعرض ولم يتبعني المنادي وما تبعني أحد ممن معه. “كم تقدّمت الدويلة الأمنيّة المغلقة”، رحت أقول، “فمن مربّع الضاحية الجنوبيّة الأمني المقفل، إلى وسط البلد، ومن التوقيف الليلي الشبحي، إلى توقيف سافر في عزّ النهار!”. هل هي حرب تمّوز؟
الواقعة الثانية حدثت قبل أيام، وكانت واقعة تأمّلات، تأتت بالدرجة الأولى من الواقعتين الآنفتي الذكر، القديمة والحديثة العهد، وأيضاً مما تبعهما من رهاب إثر حرب تمّوز .
ففي ذكرى الحرب قررت الذهاب إلى الجنوب للقيام بجولة صحافيّة. والحال فإن الفكرة تلك، في المكان الذي ما زال يشهد شكلاً من أشكال السلطة والسيطرة للحزب اللهيين عينهم، جعلني أشعر بالقلق وأتوجّس وأنا أستعيد جلافة الموقّفين ونزقهم الخارج على كلّ إطار من أطر الدولة والقانون الرسمي.
لم أحمل كاميرا. ولا حقيبة. حملت دفتر ملاحظات صغيراً، وحرصت وأنا أضع بعض الأفكار أن أضعها بخط طلسمي وبأسماء مستعارة لن يفهمها سوى شخص واحد، هو أنا. “هكذا أكثر خفّة”، قلت، “فمن يدري، ومن يضمن؟”.
في البولمان المريح المبرّد بين بيروت وصيدا لم أشعر بشيء. نمت. السرفيس من صيدا إلى دير الزهراني كان قصّتي. وكان رحلتي.
كنت الراكب الأمامي. وكان الراكبان في المقعد الخلفي يرويان للسائق تفاصيل مؤامرة إعلان “إمارة طرابلس وباقي الشمال” بإمامة فؤاد السنيورة. وكان السائق يعلن الردّ على ذلك بدوّاسة البنزين وبإفشاء معلوماته عن خطّة لحود للرد الصاعق بتسليم العماد عون، الذي سيأتيه العون بلا ريب بـ”رعد، ووعد، وزلزال، وخيبر، والقاسم”…، وانهالت الصواريخ راجمات إثر راجمات، بسيّارة تنهش الطريق المتآكل وتنفث دخاناً يصفع في نوافذها فيختلط بعرق تمّوز
وبسيناريوات المؤامرات التي لا تنتهي وبسباب الأحاديث الكابوسيّة وشتائمها.
بلغنا بيتنا في أول دير الزهراني على الطريق العام، وكان المشهد تراجيديّاً على خلفيّة الحديث الصاروخي المتطاير داخل السيّارة. فهناك، في الجهة المقابلة للبيت، الجهة الواقعة في المقلب الآخر من الطريق، في خراج “كفروة”، البلدة المسيحيّة الصغيرة، تمّ أخيراً جرف ربوة كاملة من أشجار الزيتون كان البيت يطلّ عليها. المشهد بدا تراجيديّاً وغباريّاً. فقد جرفت الأشجار وأزيلت وسوّيت الربوة في الأرض تماماً، والغاية، بحسب سائق السرفيس الصاروخي، هي إقامة معمل للحديد، أو الألمنيوم، أو لأشياء تصنع من تلك المعادن. لم أنزل إلى البيت. لم أشأ رؤية ذلك المشهد من الشرفة. قلت أكمل في السرفيس فأنزل على الطريق العام وسط البلدة. كان الحديث مستمرّاً بين السائق وراكبي المقعد الخلفي على الإيقاع ذاته. مسجد البلدة الجديد، القريب من الطريق، أخذ يتراءى من بعيد ونحن نقترب. رحت أتذكّر واقعة لي فيه حدثت قبل العام 1998. كنت وصديقي قررنا القيام بنزهة أنتروبولوجيّة في مراتع الأهل وملاعب طفولتهم. فقصدنا القرية. وهناك أصرّ الصديق المسيحي (أنتروبولوجيّاً طبعاً) الدخول إلى مسجد القرية الجديد لاستكشافه والتعرّف عليه من الداخل. فما كان من أحد الأشخاص، وهو من عائلتي ويعرفني تمام المعرفة، إلاّ أن انضمّ إلينا بدبقيّة مخيفة ومقزّزة مرفقة بشبق أمنيّ لا يوصف. فراح يرمقنا ويتفرّس فينا بعينيه وأنفه ويديه وأظافره. كان آية في الصلف. كان سورة كاملة في الصلف. ولم استفق من تلك الذكرى التي اضطرتنا لقطع رحلتنا الأنتروبولوجيّة والانطلاق فوراً من مسجد القرية الجديد لنعود إلى بيروت في الحال، سوى بصلف راهن أعنف خوّل سائق السرفيس أن يمدّ يده إلى شعري من دون أن أدري أو أنتبه، ويقطع منه شعرة طويلة، قال إنّها شعرة بيضاء ينبغي أن تزال.
هكذا رحت أشعر بأن الفضاء يضيق ويضيق. وبأنّه بات أكثر ضيقاً من فضاء سيّارة سرفيس منهكة تضمّ ركاباً يتخيّلون سيناريوات تنسج ضدّهم ويتبرّمون ويشتمون طيلة الطريق في فضاء سرفيسهم الخانق.
هكذا امتدّت الدويلة الأمنيّة المغلقة، لتخنق نزهة من الأحلام.
(المستقبل)
واقعات شخصية سبقت حرب تموز وتلتها Eh alla yesterna wayn rayhin bi hayda lbalad abel ma yiji Michel Aoun bil 1988 kinna 3aychin bi manate2na ka masihiyyi bala souriyyin kinna mirtehin minnoun lamma charraf Aoun w baddou yharrir libnen harrarou bas min libneniyyi w khasatan min masihiyi keno souriyin mich edrin yfoutou 3ala char2iyi sallamoun yeha 3ala taba2 dahab Halla2 Genaral 3indou mouhimmi teni ken wa3adna bil 1989 enno baddou ywahid baroudi ma bado milichyet fa mitl ma harrar libnen bi doukhoul souriyi 3ala lmanati2 lhorra halla2 baddou yha2i2 teni wa3ed w ma yetrok baroudi kherij itar char3iyi bas hasab… قراءة المزيد ..