كيف يجب التعامل مع المشروع الإصلاحي الأمريكي؟ وما هي الفوائد التي سنجنيها من وراء هذا التعاطي الإيجابي مع مضامينه؟ ولماذا تسعى إدارة “البيت الأبيض” إلى توطيد علاقاتها مع الجماعات الإسلامية على وجه الخصوص؟ وما هي الآليات التي تعتمدها لتنفيذ سياستها الخارجية على اعتبار أنها مرتبطة بالسياسة الداخلية؟ هذه الأسئلة وغيرها سنحاول الإجابة عنها في الورقة التالية.
تتباين الآراء حول كيفية التعامل مع المشروع الإصلاحي الأمريكي الموجه على وجه التحديد إلى دول شمال إفريقيا وبلدان الشرق الأوسط ، حيث يوجد من يعتبر الانخراط في هذا المشروع ضرورة لاعتبارات مرتبطة بطبيعة الأنظمة الحاكمة بالمنطقة المشار إليها، ومن يتعامل بنوع من الحذر لكون أهداف هذا المشروع تندرج ضمن استراتيجية تتوخى أولا وأخيرا خدمة المصالح الجوهرية والدائمة للولايات المتحدة الأمريكية.
* الاختلاف:
هناك فريق لا يرى مانعا من التعامل الإيجابي مع مضمون المشروع الإصلاحي الأمريكي لأنه يتضمن مجموعة من المطالب التي يتقاسم فيها مع مطالب المجتمع المدني وبعض القوى السياسية الحداثية كقضية النهوض بأوضاع المرأة، توسيع دائرة الحريات العامة والفردية، إقرار الحقوق الثقافية واللغوية واحترام الأقليات، إحترام حرية التدين، الحرص على استقلال ونزاهة القضاء، إقامة مؤسسات ديمقراطية وغير ذلك من المطالب المشروعة.
ويرى هذا الفريق أن التعامل مع القوى الغربية يجب أن يتحول إلى مبادرات عملية لملموسة، تقوم بتدعيم استراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية وكل القوى التي تدور في فلكها خاصة في ظل تردد بعض الأنظمة في إدخال إصلاحات ديمقراطية في ممارسة الشأن العام ببلدانها ورفض البعض الآخر تحت مبررات واهية.. أما الفريق الثاني، فينطلق من رفضه المبدئي التعامل مع الولايات المتحدة الأمريكية وحتى إن تعامل معها فنجده يسلك أسلوب الحذر لانعدام الثقة في الأهداف الظاهرة التي تسعى الإدارة الأمريكية الحصول عليها من وراء مشروعها الإصلاحي المذكور.
فالفريق الثاني المشكل في غالبيته من الفئات التي تنشط داخل الفضاء الحقوقي واليساري الراديكالي نجدها تنعت الولايات المتحدة الأمريكية بـ “الإمبريالية” وتصفو حكامها بـ”مجرمي الحرب” الذين يستحقون المتابعة القضائية بتهم ارتكابهم لجرائم ضد الإنسانية، كما تعتبر مخططاتها تهدف إلى التحكم في الشعوب المستضعفة من أجل السيطرة على ثرواتها وخيراتها الطبيعية..
* التـــاكتيك:
من المؤكد أن المشروع الإصلاحي الأمريكي يهدف إلى تنميط الديمقراطية على الطريقة الغربية داخل منطقة “الشرق الأوسط الكبير”، بمعنى خلق نوع من شروط الاستقرار السياسي القادر على تأمين تطور المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة الأمريكية في هذه الدول. وهذا الأمر يجعل التعاطي الكلي مع مشروع البيت الأبيض نوعا من المغامرة السياسية غير محسوبة العواقب.
فالفلسفة الأمريكية ترى ضرورة دعم عملية التحول الديمقراطي في المنطقة المذكورة على اعتبار أن هذا الأمر مرتبط أشد الارتباط بالمصالح الاستراتيجية لإدارة “البيت الأبيض” بعدما اتضح لها أن غياب الديمقراطية واستمرار الدعم الأمريكي للطبقة الحاكة التي لم ينتخبها أحد و التي لا تمتلك شرعية ديمقراطية.. يساهم بشكل أو بآخر في توسيع دائر العداء وتجنيد الإرهابيين ضد الولايات المتحدة ومصالحها الحيوية في المنطقة.
لقد دعمت الإدارة الأمريكية، بالأمس القريب، مجموعة من الأنظمة العسكرية الديكتاتورية سواء في أمريكا اللاتينية أو غيرها من أجل محاصرة المد التقدمي المتنامي في ظل الحرب الباردة، والأمثلة في هذا الباب عديدة.
وفي محطة ثانية وخاصة بعد انهيار الاتحاد السـوفياتي وسقوط جدار برلين وتوحيد الألمانيتين وبروز القطبية الأحادية، عملت إدارة “البيت الأبيض” على دعم مسلسل الدمـقرطة، حيث عمت رياح الانفتاح السياسي في أرجاء العديد من المواقع الجغرافية. أما اليوم وخاصة بعد أحداث الحادي عشر من شتنبر 2001 ، تاريخ الهجوم على برجي نيونيورك، كثفت الإدارة الأمريكية في عهد الرئيس الحالي جورج بوش من توطيد علاقاتها مع الجماعات الإسلامية لأسباب متعددة:
أولها، أن الولايات المتحدة الأمريكية تسعى إلى دفع التيارات الإسلامية المتشددة إلى مراجعة منظومتها الفكرية والإيديولوجية والتحول إلى هيئات سياسية تقبل الانخراط في “اللعبة الديمقراطية”.
ثانيها، تقوية علاقاتها مع التنظيمات الإسلامية التي ترى ـ استنادا إلى دراساتها السرية وتقاريرها الاستخباراتية ـ أنها مؤهلة إلى الصعود إلى دوائر صنع القرار السياسي في بلدانها.
ثالثها، توظيف علاقتها مع الجماعات الإسلامية التي لها قاعدة اجتماعية واسعة من أجل محاصرة الجماعات الإسلامية الجهادية أو البلادينية( نسبة إلى أسامة بن لادن زعيم تنظيم القاعدة) وتغيير صورتها داخل ما يسمى بدول العالم العربي والإسلامي.
* الآليـــات:
لم تعد الإدارة الأمريكية تعتمد على العقوبات الاقتصادية في تنفيذ السياسة الخارجية الأمريكية، بل أصبح التدخل العسكري أحد الآليات المتتبعة من طرفها ضد الأنظمة المستعصية على عدم الانخراط في المشروع الإصلاحي الأمريكي.
فقد سمحت الأحادية القطبية للإدارة الأمريكية بالقفز على منظمة الأمم المتحدة وبالتالي تجاهلها أو تعطيل مفعولها في أحسن الأحوال بناء على سلـوك فردي مدعم من طرف تحالفاتها القائمة كحلف شمال الأطلسي وغيره من أجل توجيه السياسة الدولية ومعاقبة بعض الأنظمة التي تخرج عن شروط إدارة العلاقات الدولية على طريقة واشنطن، ولعل ما عاشه العراق وأفغانستان خير مثال على النهج العسكري لإدارة “البيت الأبيض”.
فالولايات المتحدة الأمريكية تسعى جاهدة في ظل النظام الدولي الجديد إلى خلق مجموعة من الأقطاب الموالية لها لربطها بحلقة القرار الأمريكي كجزء من آلية عمل القطبية الأحادية، حيث تقوم بوضع وتدعيم الموالين لها كما هو الحال بالنسبة إلى الجنرال برويز مشرف بالباكستان و الشيعي إبراهيم الجعفري بالعراق..إلـخ.
ويستعمل البيت الأبيض عدة آليات لتنفيذ مشروعه، بدءا من دعم المبادرات المدنية إلى التدخل العسكري، حيث يتم تخصيص ميزانية ضخمة سنويا من أجل تمويل كل المشاريع الرامية إلى خدمة استراتيجيته.
فالإدارة الأمريكية نجدها تدعم منظمات المجتمع المدني بمختلف اهتماماتها سواء الحقوقية أو العلمية أو الثقافية..، كما نجدها تستقطب النخب الفاعلة لضمها إلى شبكة علاقاتها الأخطبوطية، وتخصص أيضا لبعض الوجوه منحا للسفر إلى الولايات المتحدة الأمريكية في زيارات ثقافية وعلمية..، وتتدخل كذلك بشكل أو بآخر لدعم بعض المشاريع والضغط على الأنظمة لتغيير سياساتها ومواقفها بخصوص متابعة بعض النشطـاء المدنيين أو السياسيين كما حدث مع نادية ياسين( نجـلة الزعيم الروحي لجماعة العدل والإحسان) عندنا بالمغرب أو سعد الدين إبراهيم بالجمهورية المصرية.
وتقوم المصالح التابعة لسفارات الولايات المتحدة الأمريكية في مختلف عواصم العالم بدور حيوي في توفير الشروط الملائمة لتنفيذ مضامين الاستراتيجية الأمريكية، فضلا عن المراكز الثقافية ومعاهد الديمقراطية وحقوق الإنسان…
* المكتسبات:
صحيح، لقد عرفت المنطقة الممتدة من المحيط إلى الخليج عدة تغييرات جوهرية، إذ تحققت مكاسب هامة بالنسبة لشعوب المنطقة.
وهكذا شهدنا تحولات مست أنظمة الخليج العربي، حيث تم إسقاط نظام الحزب الوحيد وإقرار التعددية، كما تم السماح للمرأة بولوج الانتخابات، وتم أيضا فرض انتخابات نزيهة من خلال الاحتكام إلى صناديق الاقتراع واحترام المواطن في التعبير عن إرادته لاختار حكامه، فضلا عن “تحرير” لبنان من قبضة الحكم السوري زمن الرئيس الحالي بشار الأسد وما شابه ذلك من المكاسب النوعية.
أما في منطقة شمال إفريقيا فقد عرفت وتيرة الانفتاح هناك سرعة متقدمة نظرا لعوامل متعددة. فليبيا، بعد رفع الحصار المضروب عليها، اعترفت بالمكون الثقافي الأمـازيغي ودعت معارضيها إلى العودة إلى الوطن الأم وتعهد القـدافي بإدخال إصلاحات جوهرية على نظام الجماهيرية..، والجزائر أبعدت، نسبيا، الجيش عن إدارة الحكم ونهجت خيار المصالحة..، نفس الأمر بالنسبة للمملكة المغربية الذي شهدت إصلاحات جوهرية متقدمة في ظل الملك محمد السادس مست مختلف المجالات العامة، ولم تخرج تونس عن هذا المسار مع التذكير أن حرية التعبير عموما ما تزال نقطة سوداء في السجل الحقوقي لنظام زين العابدين، أيضا الجمهورية الموريتانية شهدت بدورها تحولا بعد الإطاحة بنظام معاوية ولد الطـايع يؤشر على وجود نوع من الإرادة لتـسريع وتيرة الانفتاح في الجارة الجنوبية.
لقد تحققت عدة مكاسب بفعل دعم القوى الغربية، هذا دون أن ننسى نضالات وتضحيات القوى الديمقراطية المحلية، لكن السؤال المطروح ما هي الحدود التي يجب رسمها للتعامل مع المشروع الأمريكي بالشكل الذي يجعلنا نستفيد من المكاسب الديمقراطية دون أن نفقد استقلاليتنا ونتحول بذلك إلى ملحقة تابعة لـ “الإمبراطية الجديدة”!؟
musantra@yahoo.fr