كانت الذاكرة الشفوية للشعوب العامل الأهم لفهم حركة التاريخ، وباندثار تلك الذاكرة الجمعية تم تغييب الكثير من الحقائق، والاهتمام بالتوثيق هو جزء من حركة فهم الواقع. فالتاريخ المدون تبع دوماً حركة المنتصرين وغاياتهم، ودخل في باب التزوير، وقلب الحقائق لصالح الأقوياء في مواجهة ضعفاء العالم.
من هنا تبدو أهمية الاهتمام بهكذا ذاكرة، لأنها لا تجلي الحقائق فحسب، بل تطوعها لخدمة مفاهيم إنسانية تعنى بجمال وعدالة العالم. ولعل خير مثال قد ندرجه للحديث عن تغييب ذاكرة الشعوب الشفوية هو ما حدث في أمريكا “العالم الجديد” عندما قضى اليانكي على ثقافة قبائل الهنود الحمر وأباد شعوبها، وأحل ثقافة مختلفة ومغايرة، سرقت ثقافة الشعب الأًصلي، وليس غريباً أن يقف أحد نشطاء هنود شعب سو سنة 1996 ويقول:
” إن ما يفعله المنتصر هو محو تاريخ المهزومين. ويالله ما أغزر دموعهم فوق دماء ضحاياهم، وما أسهل أن يسرقوا وجودهم من ضمير الأرض! هذه واحدة من الابادات الكثيرة التي واجهناها وسيواجهها الفلسطينيون”1
هذا التشابه الذي أورده الزعيم الهندي بين قضية شعبه وقضية الشعب الفلسطيني ليس بحاجة إلى تأكيد، لكن المطلوب هو الاستفادة من محنة الإبادة الثقافية التي تعرض لها الهنود الحمر، بتوثيق الذاكرة الفلسطينية، والبحث الدائم عما أهمله التاريخ.
وضمن المحاولات المخلصة لتوثيق وإعادة كتابه التاريخ الفلسطيني، يأتي كتاب “أدوار المرأة الفلسطينية في الثلاثينات والأربعينات” للباحثة الفلسطينية الدكتورة فيحاء عبد الهادي، والصادر عن مركز المرأة الفلسطينية للأبحاث والتوثيق.
ينقسم الكتاب إلى مجلدين يقارب الواحد منهما الخمسمئة صفحة، خصص كل منهما لعقد من الزمان، يرصد الأول المساهمة السياسية للمرأة الفلسطينية في الثلاثينيات، ويغطي الثاني عقد الأربعينيات. وينقسم كل مجلد إلى بابين يضم الأول القسم النظري، بينما يحمل الثاني شهادات وروايات الرواة التي يعتمد عليها الجزء النظري ويخضعها لمنطق التحليل.
في الجزء الذي يحمل عنوان “أدوار المرأة الفلسطينية في الثلاثينات” يرصد المساهمة السياسية للمرأة الفلسطينية تلك الفترة ويتوزع على بابين، الباب الأول يضم القسم النظري، والباب الثاني يضم شهادة الراويات والرواة، والقسم النظري يستفيد ضمناً من شهادة الراويات، ويخضعها لمنطق تحليلي واستنتاج ومقارنة من خلال بحث قامت بها عدة باحثات منهن” سمية الصفدي، لمياء شلالده، منى محاجنة، إيمان رضوان” فلسطين “سناء محرم، رقية العلمي” الأردن “بثينة عودة الكردي، مها التميمي” سوريا “خديجة عبد العال” لبنان “هالة منصور، صباح الخفش” مصر
وقد ذكرت الباحثة فيحاء عبد الهادي أن هدف البحث الواسع الذي قام الكتاب على أساسه، هو الوصول إلى نتائج تاريخية مختلفة، وذلك لسد الفراغ والهوة التي تميز الأبحاث والدراسات عن تلك الفترة المبكرة من الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، إضافةً إلى تغيير الصورة النمطية والتقليدية المرسومة للمرأة الفلسطينية وخاصة الريفية، حيث تتسم أغلب المساهمات السياسية لنساء القرى الفلسطينية بالغياب التام عن التاريخ المدون، بعكس نمط الصورة المعروفة للمرأة المدينية، والتي أعطاها التاريخ المدون حقاً ومساحة أهم وأكثر بعداً، رغم أن الواقع يمكن أن يكون مختلفاً عن ذلك، وهو ما لاحظه المؤرخ سويدنبرغ في دراسته عن ثورة 1936 يقول:
“إن حقيقة قيام الثورة في محيط الرجل، يعني أن نشاطات النساء اللواتي شاركن في المجالات الخاصة، لم تسجل في الذاكرة الشعبية على الأغلب، أو حتى القصص التي تدور حول المرأة في إخفاء المقاتلين أو الأسلحة عن الإنجليز، والعبء المزدوج الذي وقع على كاهل الزوجة أو الأخت أو الأمم، فكان من الصعب تجمعيها”2
وهنا يبدو البحث الذي استمر لسنوات طويلة، نوعاً من تحدي تلك المقولات التي درج العديد من المؤرخين الحديث عنها، فما قالته الذاكرة الشفوية كان مختلفاً عن الذاكرة المدونة، وإن بدا منوطاً بمنظومة قيود وعادات اجتماعية حكمت المجتمعات العربية، وزادت من الوضع السيئ للمرأة سوءاً في ظل الاحتلال الإسرائيلي، ما قبله بسنوات، والسنوات التي تلته أيضاً.
والمنظور المعتمد في هذا البحث هو من وجهة المنظور النسوي للتاريخ المتجه للمرأة أولاً، والمستمع إليها والسامع لها، فهو منهج بحثي بامتياز كما تؤكد الدكتورة عبد الهادي:
“إنه المنهج البحثي الذي يتيح حرية ومرونة للباحثات والراويات معا، حيث المعرفة الأعمق بنفسية النساء، وحيث تفكيك القيم السائدة التي لا تعتبر تجارب النساء مكونا أساسا في صناعة التاريخ” 3
وقد اعتمدت الباحثات في عملهن الصعب والمجهد على قراءة الصوت الخفي الذي نبشنه من ذاكرة النساء الفلسطينيات. ليس صوتها الذي تدربت عليه فقط، ولكنه الصوت الذي لا تجرؤ على التفكير به، حتى مع نفسها، واعتمدن ووصفن ودققن وسجلن ملاحظات مسهبة وعميقة، واعتمدن على قراءة لغة الجسد والانفعالات وتدوينها، تقول خزنة حسن الخطيب عن حملها السلاح إلى جانب عز الدين القسام:
“_الشيخ عز الدين علمني وعلم أولادي، مغطية وفردي، ضليت أحارب لطلعنا، بالمسدس معاي يا بنتي
_وين خبيتيه؟
عزيين(لهجة استنكار)! ها تعالي(…) ها (….) مخبيته؟ فيه يا بنتي قشاط اله”4
وانتبهن إلى روح النساء في أحاديثهن الخاصة وعلاقتهن بأنفسهم من خلال الحديث عن علاقة كل واحدة منهم بعالم السياسة ذاك، فهل نستطيع الإنكار أن كل فلسطيني بالضرورة هو إنسان مُسيس بحكم طبيعة القضية الفلسطينية؟ فلماذا لم تكن النساء أيضاً مُسّيسات؟ سؤال تجيب عليه الكثيرات بأجوبة تقود من سؤال إلى سؤال. هذه الأسئلة تواجه أجوبة مهمة، لا تتعرض فقط لتأريخ وتوثيق دور المرأة الفلسطينية في الثلاثينات فقط، ولكنها توثق لتاريخ شعب بأكمله ولمرحلة مهمة لابد من الوقوف عندها طويلاً قبل الحديث عن الحاضر.
قبل العام 1936 كانت مشاركة المرأة الفلسطينية في العمل السياسي تقتصر على عدة أدوار لم تختلف كثيراً عن الأداور السائدة والنمطية للمرأة العربية، فيما يتردد من حكايات عن إسعاف جرحى الحرب، وتأمين القوت اليومي، ومد الرجال بالحماس، وما إلى ذلك. هذا من جهة ومن جهة أخرى بدت نتائج البحث الذي قات به الباحثات متضاربة قليلاً مع معلومات بعض الراويات والرواة، فلم يكن هناك إجماع دائم على صحة المعلومات، حيث تؤكد بعض المصادر التي أرخت لتشكيل رابطة النساء الفلسطينيات في عام 1929، عن جهود كبيرة للنساء تفوق ما ذكره التاريخ وبعض الرواة، ومصادر أخرى تذكر أن المرأة شاركت في الانتفاضة الفلسطينية سنة 1933 وهذه مشاركة مؤرخة بعكس مشاركة المرأة الريفية، ولكن هناك راويات ورواة أكدوا أن هناك مجموعة كانت تسمى “رفيقات القسام” وهن مجموعة من النساء شاركن عز الدين القسام ورفاقه في ثورة 1936 ولكن حتى هذه المجموعة تبدو الروايات حولها متضاربة، وإن كان هناك إجماع عليها شفويا، والتاريخ المكتوب أيضا لا يعلق أي أهمية على مشاركة المرأة السياسية في ثورة 1936 لكن التاريخ الشفوي الذي تؤكد عليه معظم الروايات، لا يقلل من أهمية مشاركة المرأة حينها، سواء ما يندرج منها تحت دور سياسي اجتماعي، مثل التموين والتحريض ونقل الأخبار والرسائل، وإخفاء الثوار والتمريض وتأسيس الاتحادات والجمعيات ومراقبة الطريق، وتخليص الرجال من الإنكليز، وتمثلت المشاركة السياسية المباشرة من مشاركة المرأة في المؤتمرات السياسية العربية التي عقدت في الثلاثينات لنصرة القضية الفلسطينية.
تقول عصام الحسيني عن مظاهرة قادتها فتاة من غزة اسمها رباب الحسيني:
” دايما مظاهرات وثورات حتى أختي رباب اشتركت في المظاهرة، ووالدتي خيطت لها العلم العربي حتى تحمله، وألقت خطاب في الجامع الكبير في غزة، وألقت كلمة حماسية وحمست الناس للقتال”5
والحقيقة أن الباحثات وجدن صعوبة في حث ذاكرة الراويات
والرواة على استحضار وقائع المؤتمرات، عدا مؤتمر النساء الشرقيات الذي عقد في القاهرة سنة 1938 لنصرة قضية فلسطين، والصعوبة التي نجمت عن النظرة إلى المرأة العاملة في الحقل السياسي نظرة غير جيدة، لأنها دخلت إلى عالم الرجال، وهذا ما كان يسئ إلى سمعتها، رغم أن أغلب النساء كن من الطبقات الميسورة، لكن ذلك لم يجعلهن بمنأى من الرقابة الاجتماعية المتشددة للمجتمع المحافظ، مع ذلك تجاوزت النساء تلك العثرات وناضلن على مستويين؛ مستوى مناهضة الاحتلال الإسرائيلي، ومستوى المناداة بحرية المرأة ومساواتها بالرجل في مجتمع خاضع للتشدد الديني والاجتماعي، ولكن بكافة الأحوال حتى في تلك الأوقات، لم يكن المجتمع العربي خاضعا للمعادلة الدينية التي يخضع لها حاليا:
“رغم فرض الحجاب في تلك الفترة التاريخية وتهديد المخالفات بمعاقبتهن بتشويه وجوههن، إلا أن هذا لم يثن المرأة عن الخروج في مظاهرات نسائية، تنادي بحقوق المرأة، وتطالب بنزع الحجاب6
في الجزء الثاني من الكتاب الذي توزع بطريقة مماثلة للكتاب الأول، ولكنه يتحدث عن فترة الأربعينات والنكبة 1948 وأثرها على المرأة، يتطرق البحث إلى الحديث عن انحسار دور المرأة الريفية في العملية السياسية مع انحسار الثورة الفلسطينية المسلحة، وارتكز عمل المرأة السياسي على العمل الاجتماعي والثقافي المرتبط بالعمل السياسي، فاتجهت المرأة للعمل التربوي والتحريضي الثقافي من مسرح وغناء، ومقاطعة البضائع الإسرائيلية والمشاركة في المظاهرات التي تعاظمت بعد 1947تقول الراوية حلوة الجقمان التي أصيبت برصاصة أثناء الاصطدامات:
“هذي كنا نشارك مرات فيه، كنا نمسك الحجارة ونرجم على الهذا، وبالمظاهرات نوقف وهذا، ويصير اصطدامات بيننا وبينهم”7
وكانت النساء تشارك في الصدامات بين اليهود والعرب، وتتعرض لما تعرض له الرجل من تنكيل وملاحقة وضرب، وكانت النساء تشتبك مع الجنود الإنكليز، ويقمن بتهديد من يبيع أرضه لليهود، وينقلن أخباره للجميع قبل 1947 ويذكر رواة كثر أن الحديث عن دور هامشي للمرأة الريفية غير صحيحة، ولكن هذه روايات متناقضة، يقول الراوي أحمد العيساوي
” في هذه الفترة الحساسة جدا، كان للمرأة دور فعال وصعب جدا، لأن الجيوش كترت والمسألة صارت خطر، فكانوا يعتمدون على المواصلات وشغلات زي هدول على الحريم”8
أما في العمل السياسي المنظم فقد تركز نشاط المرأة في تكوين جمعيات واتحادات نسائية، والغريب أنه في تلك الفترة أغفل المؤرخون أسماء النساء المؤسسات للاتحاد النسائي الفلسطيني وأحالوا مرجعيتها لأزواجهن، وهذا جزء من تزييف الحقيقة – أسست الاتحاد النسائي الفلسطيني السيدة زليخة الشهابي- ومن الجمعيات التي تأسست “جمعية التضامن النسائي، جمعية التقدم النسائي” وشاركت النساء أيضا في عصبة التحرر الوطني، وكان لها جمعيات تعنى بالعمل السياسي العسكري، مثل جمعية “زهرة الأقحوان” التي أسستها مهيبة خورشيد ولعبت هذه الجمعية دورا عسكرياً سياسياً قامت به عضواتها، وزاوجن بين العمل العسكري والعمل السياسي، ووقف البحث عند أثار قرار التقسيم الذي ساهم في وعي المرأة الفلسطينية لقضيتها، فتأسست جمعيات جديدة، رغم أن عام الهجرة أظهر من خلال الراويات أن المرأة كان لها الدور المميز والكبير في صمود الأسرة الفلسطينية. تدل التغييرات الاجتماعية أن حضور المرأة صار أكثر بروزاً رغم حالة التزمت الاجتماعي، خاصة في الفترة التي انتشر التعليم فيها، ودخلت المرأة الأعمال التي كانت حكراً على الرجل، مثل الكتابة في الصحف وإعداد البرامج الإذاعية، وإلقاء المحاضرات العامة والخطب السياسية.
من خلال رواية النساء والرجال، ظهرت مسألة مهمة، وهي أن التاريخ الشفوي أضاف الكثير من أسماء النساء المناضلات إلى أسماء النساء القليلة، قياسا لنتائج البحث، وقياسا لما كتبه التاريخ المدون، والذي حوّل النساء المعترف بهن في التاريخ المقروء إلى رموز في ذاكرة الشعب الفلسطيني.
في القسمين الخاصين بحديث الراويات النساء، والذي تتجاوز مساحته ثلثي حجم البحث، تبرز أسماء راويات مهمات ” سميرة خوري، مهيبة خورشيد، عصام عبد الهادي، عصام الحسيني، ميمنة عز الدين القسام، وديعة قدور خرطبيل”
تتضح مسألة لا تقل أهمية عن البحث النظري، فما قدمته النساء من شهادات، لا يعد وثيقة تاريخية فقط، لتدوين ذاكرة المرأة الفلسطينية، بل هو بمثابة توثيق جديد وكتابة مختلفة لتاريخ فلسطين في الثلاثينات والأربعينات من القرن العشرين، فهو يجلو وبكثير من الدقة عن جوانب مختلفة لم يتم التطرق إليها مسبقاً في أدبيات الذاكرة الفلسطينية، وباعتقادي أن أهمية هذا البحث لا تنبع فقط من إعادته لاكتشاف الحقائق وتثبيتها، وإلقاء الضوء على الدور الفاعل والثنائي الفاعلية للمرأة، بل كونه سيكون مرجعاً لمختلف أنواع الإبداع من مسرح وسينما ورواية ونقد أدبي، لأنه يشكل مادة حياتية وتفصيلية لخارطة لم تكتمل يوماً عن مأساة الشعب الفلسطيني، وتفاصيل غيبها التاريخ الرسمي وتجاهلها، وليس كما تقول كتب التاريخ الرسمي عن هجرة الفلسطينيين، وترحيلهم بتلك الطريقة الموشومة بالخوف والذعر، إنه التاريخ الشفوي غير المنحاز إلا لأرض الحقيقة، حيث خضع الشعب الفلسطيني لعملية إبادة منظمة ومدروسة، لم يقف على الحياد منها النساء والرجال معاً، لكن ذلك لم يمنع أن يحتاج التاريخ المدون إلى ذاكرة النساء الشفوية والمقاومة، لإعادة الاعتبار إليهن ولهم، على حد سواء مرة أخرى.
انتهى
1- أميركا والابادات الجماعية.منير العكش.رياض الريس للنشر والكتب 2002 ص 7
2-swedenberg. Ted. “problems of oral history: the 1936 revolt in Palestine” birzeit review. N.2 winter 1985/6
3- أدوار المرأة الفلسطينية في الثلاثينات: المساهمة السياسية للمرأة الفلسطينية. مركز المرأة الفلسطينية للأبحاث والتوثيق.ص 13
4- المصدر السابق ص 49
5- المصدر السابق ص41
6- هدى الصدة ” كيفية الاستفادة من الأدبيات النسوية في كتابة التاريخ” إعداد وتحرير فيحاء عبد الهادي، رام الله. وزارة التخطيط والتعاون الدولي، 1999 ص 168
7-أدوار المرأة الفلسطينية الجزء الثاني. الأربعينات. ص 25
8- المصدر السابق.