لا يمكن اختزال التغيرات التي قلبت صورة الحياة رأسا على عقب وحولتها إلى صورة أخرى جديدة مغايرة لصورة الحياة القديمة.. لا يمكن اختزال ذلك في الجانب المادي فحسب، بل لا يمكن فك العلاقة بين الجانب المادي وبين الجانب المفاهيمي الذي أنتج تلك الصورة المادية الحديثة.
فعلى سبيل المثال لا يمكن تجاهل العلاقة بين مفهوم الحرية وبين مختلف التطورات والتغيرات المادية والاجتماعية الحديثة، حيث أن تلك التطورات والتغيرات ما كانت لتحدث و وتتطور لولا وجود أرضية مفاهيمية تهيئ لهذا التغير والتطور. فظهور وسائل الحياة الحديثة لم يكن نبتا غير معلوم الجذور. وجاءت الاكتشافات العظيمة لتبرهن على ثنائية الوسيلة والمفهوم والعلاقة الترابطية والتفاعلية بينهما.
فتطور علم الفلك وتغير النظرة الدينية إلى هذا العلم ما كان ليتحقق إلا بعد تحرير العقل البشري من أسر العقل الديني ولاهوته القديم. وقس على ذلك الكثير من الأمور والقضايا التي تطورت وتغيرت وحققت قفزات نوعية بفضل هذا التحرير الذي اعتمد أساسا على التغير المفاهيمي.
ومن جملة الأمور المتعلقة بصور الحياة الحديثة، موضوع الدين والتديّن بوصفهما أمرين يتعلقان بالحياة القديمة سواء بالفهم أو بممارسة الحالة الإيمانية والغوص في التديّن. فالفهم الديني وما يتعلق به من لاهوت وطقوس وممارسات لابد ان يتعلق بجوهر التغير الحاصل في الحياة، باعتبار أن الدين هو من موضوعات الحياة الاجتماعية للبشر لا الحياة المادية، كما ان فهمه سيتأثر بالمفاهيم البشرية الحديثة شأنه شأن جميع القضايا والموضوعات المادية والاجتماعية.
غير أن أنصار الإسلام التقليدي لا يزالون يربطون الماديات، وبعض غير الماديات، بالمفاهيم الحديثة. ويصرون على فك الكثير من المسائل، كمسألة التديّن، من تلك المفاهيم، بوصفها تتعلق بأصل الدين وتاريخه وكيفية نزوله وطريقة ممارسته، حيث لا يسعون فحسب بل يطلقون صيحتهم الرافضة بالمطلق لتطوير وسائل تفسير الدين وفهم التديّن وممارسته.
وفي حين أنهم لم يعترضوا على تحديث الماديات وبعض غير الماديات المرتبطة بالحياة الاجتماعية، كقناعة البعض منهم بضرورة الاستفادة من الديموقراطية في الحياة السياسية، واستغلال العلم الحديث لعلاج العديد من المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والأمراض النفسية والبيولوجية، إلا أن قضية التديّن لا تزال خارج إطار البحث الجديد بالرغم من التغيرات المفاهيمية العظيمة التي حدثت والتي تساهم في التأثير على الموضوع.
فالحرية والتعددية، بوصفهما مفهومين أساسيين ورئيسيين ومختلفين في الحياة الحديثة، من شأنهما أن يساهما في تغيير فهم الدين وفي ممارسة صور جديدة في التدين أيضا، وكذلك في تطور النظرة إلى الدين بشكل عام، مما يجعل النظرة التاريخية الرافضة للتعددية الدينية أقرب إلى القبول.
ومن أبرز من ساهم في إرساء نظرة جديدة إلى فهم الدين الإسلامي، فيما يخص علاقة الدين بالحياة الجديدة وبالحداثة وما يتعلق بذلك من ضرورة تغير وتطور شكل التديّن، المفكر الإيراني مصطفى ملكيان، الذي أعرض هنا جانب كبير من مقاله الثري في هذا المجال وهو بعنوان “الدين.. والحداثة”، وذلك للاستفادة من أفكارها:
نحن، شئنا أم أبينا، أناس معاصرون، وأهل حداثة، سواء قلنا أن الحداثة صفة لأفراد البشر، أم هي صفة المجتمعات الإنسانية، أم هي صفة للمراحل الزمنية والإعصار. نحن حداثيون من جهة، ومؤمنون من جهة أخرى، وحتى لو أخذنا الإيمان بمعني الالتزام بالأديان التاريخية القديمة، فإن عدد الناس غير المؤمنين في العالم سيكون ضئيلا جدا. أغلب الناس في هذا العصر مؤمنون. وللإيمان بالطبع درجات ومراتب أيضا.
ولنتساءل الآن: هل ثمة مفارقة وتناقض في الجمع بين الإيمان والحداثة في المجتمع الإنساني؟ وهل يكون سلوكنا غير متجانس حينما نكون مؤمنين وحداثيين في آن واحد؟ هذا أولا. وثانيا: هل لنا أن نلتزم بأي شكل من أشكال القراءات للدين في هذا العالم الحديث الذي يتجه بنا نحو ما هو أحدث؟ هل بمقدور الإنسان الحديث أن يتمسك بما يشاء من قراءة للدين؟ جوابي للإنسان المعاصر أن يتلقى الدين على غرار ما كان يتلقاه ويقرأه الإنسان القديم المحافظ. وفي ضوء ذلك، إذا لم يكن بوسع هكذا إنسان، القبول بالقراءة التقليدية للدين، فأمامه – إذا أراد أن يتصرف بصورة منطقية متوازنة – طريقان لا ثالث لهما:
الأول: أن يتخلى عن الدين نهائيا، وبالتالي يخسر المزايا والخصائص الإيجابية التي يتوفر عليها الدين على صعيد الفرد (إن لم نقل بوجود هذه المزايا على صعيد المجتمع أيضا). علما بأن تخلي الإنسان عن الدين يعقبه على الأقل شعور بالفراغ الروحي والقلق والاضطراب.
والثاني: أن يقبل الدين بهيئة جديدة وفهم جديد. ولك أن تسمي هذا الفهم الجديد للدين بـ(المعنوية)، كما أصنع أنا، وذلك أن لفظ الدين، في جميع اللغات، يتداعى منه إلى النفوس والأذهان، مدلولات ذات إيحاء عاطفي سلبي، عدا ما فيه من مدلول ايجابي. من هنا أفضل التعبير عن هذا الفهم الجديد للدين بـ(المعنوية). ولقائل أن يقول أن هذه المعنوية يفصلها عن الدين بمفهومه التقليدي بون شاسع، ولا أرى غضاضة في قبول ذلك، فأنا على أي حال، أؤمن بهذا الفهم الجديد للدين لا بالفهم والقراءة التي يقدمها لنا المحافظون.
هذا مع الإذعان بأن الفهم التقليدي السابق كانت له في حينه معطياته الإيجابية، ولكنه اليوم غير جدير بأن ننحاز إليه، لا باعتبار الواقع، ولا باعتبار المصلحة. لا إذا كان همك الوحيد الوصول إلى الحقيقة (الرؤية الواقعية)، ولا إذا كان همك النجاة (الرؤية النفعية). في كلتا الحالتين لا يمكن الدفاع عن الدين بالمفهوم القديم.
هذا هو الذي يدعوني إلى التأكيد بإصرار على حاجتنا اليوم إلى المعنوية (SPIRITUALITY) لا إلى الدين بمفهومه التقليدي، رغم إني لا أنكر المعطيات الإيجابية للدين على مر التاريخ، واعتقد بوجوب عدم التخلي عن الدين (لأن تخلي الإنسان عن الدين يخلق له متاعب كثيرة). ثم قد يقال- بعد بياننا لخصائص المعنوية – أنها هي الدين بلبه وجوهره، ولا مانع عندي من القبول بذلك أيضا.
ولكي نكوّن لأنفسنا تصورا صحيحا عن المعنوية، لابد لنا أن نفهم السبب في عدم قدرة الإنسان المعاصر على التعايش مع الفهم التقليدي التاريخي للدين، ولإدراك هذه المسألة يجب الرجوع إلى مفهوم الحداثة واستجلاء عناصرها وسماتها ومقوماتها.
ولا يدرك الإنسان ضرورة المعنوية إلا حين يستشعر أمرين: الحاجة إلى الدين، والإحساس بأن الدين بمفهومه التقليدي التاريخي الأصولي لا ينسجم مع عناصر الحداثة التي لا يمكن اجتنابها، أو عناصر الحداثة الممكن اجتنابها ولكنها حق. لو شعرنا بهذين الأمرين معا لن يكون بوسعنا الحديث عن الدين بمعناه المتعارف، في هذه الحالة إذا تعارض الدين مع عنصر غير قابل للاجتناب من عناصر الحداثة، فلن يكتب له النجاح، وكذلك لو تعارض الدين مع عنصر حق وحسن من عناصر الحداثة القابلة للاجتناب، حينها سنلجأ إلى القول بالحاجة إلى قراءة جديدة للدين لا تتعارض أو تتقاطع مع كلا النوعين من العناصر الآنفة الذكر. وهذا هو ما أعبر عنه بالمعنوية.
العقلانية هي أكبر وأبرز خصائص الحداثة غير القابلة للاجتناب. ومن هنا فإن أول خصائص المعنوية، قدرتها على التوافق مع العقلانية والانسجام معها. حينئذ يمكن تعريف المعنوية بنحو آخر، والقول بأنها الدين المعقلن. وحتى يتعقلن الدين لا بد من انجاز عدة مهام.
ولا أعني بالضرورة القيام بهذه المهام على صعيد المجتمع، وإنما بمقدور كل شخص أن يقوم بمفرده بها إذا كان يرغب بأن يكون من أهل المعنى. وليس من الضروري أن تبادر للقيام بهذه المهمة، مؤسسات أكاديمية ومراكز دراسات على صعيد اجتماعي واسع، وان كان هذا الأمر مطلوبا في حد ذاته. المشكلة أن الفرد لا يستطيع البقاء بالانتظار حتى يتم تشكيل تلك المراكز والمؤسسات، وبالتالي هو مضطر للمبادرة إلى هذا الأمر بمجهود فردي، لكي يصحح نظرته للدين ولنفسه. هذه هي الملاحظة الأولى.
الملاحظة الثانية: أن هذه الأعمال التي ينبغي لكل فرد القيام بها، ليست مجرد تأملات نظرية، بل لا بد أن تكن مقرونة بنوع من الفعاليات والرياضات الباطنية، كي يتاح لصاحبها التدين بالدين العقلاني، أو يكون معنويا.
كاتب كويتي
ssultann@hotmail.com
الدين.. والحداثة
شكرا على هذاالمقال الممتاذ.