تشخيص جيد، وتحليل صحيح على العموم: ما هو المخرج من الأزمة الحادة؟!
ضمن الوثائق التي صدرت عن أوساط فلسطينية، صدرت في 15 أيار – 2007 “وثيقة حيفا”.
وللمعرفة فقط، كانت قد صدرت عن “مركز مساواة “- لحقوق المواطنين العرب في اسرائيل وثيقة عن الدستور والحقوق الجماعية للمواطنين العرب في اسرائيل، وصدرت عن “عدالة ” – المركز القانوني لحقوق الأقلية العربية في اسرائيل ” وثيقة” حملت أسم “الدستور الدمقراطي”، وأشهر هذه الوثائق، وثيقة ” التصور المستقبلي ” التي صدرت في أوائل 2007 عن لجنة المتابعة العربية العليا للعرب في اسرائيل، والتي تضم رؤساء السلطات المحلية وشخصيات تمثيلية عربية مختلفة مثل قادة الأحزاب والمنظمات والجمعيات، وبالطبع النواب العرب في الكنيست الاسرائيلية. وأثارت وقت صدورها موجة انتقادات حادة في الصحافة العبرية والعربية في اسرائيل بالأساس، ونشر كاتب هذا المقال (نبيل عودة) سلسلة مقالات في الصحافة والانترنت عن تلك الوثيقة، والتي يبدو أن لجنة المتابعة نفسها لم تتفق عليها بعد.. ولا يبدو الاتفاق واردا.
المميز الأساسي لكل الوثائق، هي مشاركة اسماء معينة في المجموعات التي أعدت مجمل الوثائق. مثلا و ضمن معدي وثيقة “التصور المستقبلي” ومعدي “وثيقة حيفا” نجد ثمانية اسماء شاركت في اعداد الوثيقتين.
السؤال التلقائي، لماذا هذا التكرار والتشابه في المواقف والنصوص أيضا، خاصة بين وثيقة حيفا ووثيقة التصور المستقبلي؟!
الملاحظة الأولى والسريعة هو أن الوثيقتين المذكورتين، لم تقدما أي شيء جديد في الطرح الفكري والسياسي والاجتماعي وسائر القضايا الملحة للعرب في اسرائيل، وعلى رأسها قضية المساواة وحقوق المرأة ومساواتها، والخطاب المطلوب مع الشارع اليهودي في اسرائيل وغيرها.. ونجد في وثيقة التصور المستقبلي، مواقف تضر بنضال العرب في اسرائيل وتخدم اليمين اليهودي الفاشي والترانسفيري، بطرح مواقف بعيدة عن الواقع السياسي وعن العقلانية الفكرية.
اعترف ان وثيقة حيفا تميزت بعقلانية وواقعية سياسية تجعلها أفضل من التصور المستقبلي، ومع ذلك لي ملاحظات نقدية وفكرية تجعلني أرى عبثية الهرولة لاصدار وثائق تدعي شمولية المواضيع المطروحة، وصحة ما تطرحه!!
خطأ اساسي في وثيقة التصور المستقبلي وكرر في وثيقة حيفا، هو التعامل مع الواقع الأسرائيلي من منطلق أقلية عربية في مواجهة سلطة عنصرية، بحد ذاته صحيح، ولكنه موقف سطحي لا يليق بمن يدعي انه يطرح رؤية شاملة، فكرية وتاريخية وسياسية وثقافية وحقوقية. كان يجب التعامل مع الجانب اليهودي، ليس بصفته سلطة أضطهادية فقط، انما أيضا كمجتمع بشري متنوع في تفكيره ورؤيته،وان نطور الخطاب الملائم في تعاملنا مع المجتمع اليهودي، وأن لا ننسى انه لايمكننا تحقيق أي انجاز حقوقي أو مطلبي بدون دعم يهودي، وتجربتنا واضحة في معركة الغاء الحكم العسكري مثلا، التي انجزت بتأييد يهودي، حتى من حزب حيروت ( مناحم بيغن ) في الوقت الذي صوت نواب الكنيست العرب من زلم حزب مباي ( بن غوريون ) الى جانب ابقاء الحكم العسكري على الجماهير العربية. نفس الشيء مع الغاء التمييز العنصري في مخصصات الأطفال العرب، الذي الغي بدعم الأكثرية اليهودية. ومثلا الكاتب التقدمي والانساني دافيد غروسمان من الخطا أن أتوجه اليه وأتعامل معه بنفس اسلوب مواجهتنا وتعاملنا مع الفاشي أفيغدور ليبرمان ( الوزير في حكومة “كديما – العمل ” )، أو التعامل مع المؤرخ اليهودي المعادي للصهيونية، ايلان بابه.. والذي خدم بابحاثة القضية الفلسطينية، وكشف جرائم المؤسسة الصهيونية بجرأة وعمق وتوثيق لا نجده في الأبحاث العربية المشابهة… لا يمكن التعامل معه كما نتعامل مع شخصيات اليمين العنصري وسوائب المستوطنين…ونجد أوساطا صهيونية عقلانية في رؤيتها للمطالب العربية والحلول المطروحة.. هل من المنطق السياسي دفعها لعداءنا ؟!
وثيقة حيفا أعدت لحساب جمعية ” مدى الكرمل “- المركز العربي للدراسات الاجتماعية والتطبيقية في مدينة حيفا. ومواقفها متماثلة مع حزب التجمع الوطني الدمقراطي ( حزب عزمي بشارة ) والبعض يعدها ضمن جمعياته، ولكن يبدو لي أن مشاركة أسماء أكاديمية معرفة ومركزية من الوسط العربي، والتي لا تتماثل مع طروحات عزمي بشارة الفكرية والسياسية، ونتيجة لوزن هذه الأسماء وقدرتها وأهميتها ( ولا أعني بالتحديد مديرعام جمعية مدى البروفسور نديم روحانا ) جاءت وثيقة حيفا متوازنة ورصينة سياسيا.
بالطبع لي ملاحظات أخرى…
ان اعتماد النخب، أكاديمية بالأساس.. في التداول وصياغة مثل هذه الوثائق، يجعلها أقرب الى أطروحات جامعية.. لا شك ستحصل على علامة جيدة، ولكني ارى بعدها وانعزالها عن الجمهور الذي كتبت، حسب ظنهم، من أجله.
لا شك ان المواضيع التي تطرحها الوثائق، بالغة الأهمية. اذ تبحث في مصير ومستقبل الأقلية العربية الفلسطينية في دولة اسرائيل، وفي الوقت نفسه الموضوع يتعلق بهوية وتطور ومستقبل الشعب اليهودي الاسرائيلي، وهذا تجاهلته الوثيقتان. ومع ذلك.. هذه المواضيع لم تكن خلال ال 60 سنة الماضية، مغلقة وغير مطروقة، بل أشغلت العرب واليهود في الحياة اليومية والسياسية والفكرية. الوثيقتان، حيفا والتصور المستقبلي،لم تقدما أي جديد. والنواقص حادة أكثر، رغم قبولي لمعظم النص في وثيقة حيفا.
مثلا هناك مشكلة للمجتمع اليهودي بالأساس الذي يمارس القمع الفعلي والدمقراطية الشكلية. وهناك موضوع مشاركة العرب في الدولة، حيث ما تزال هامشية جدا، وما زال العرب محكومون وليس مشاركون. وهناك تراجع مقلق متواصل منذ عشرين سنة في النضال الفعلي الجماهيري، هذا في الوقت الذي تصاعدت فيه الشعارات القومجية والأصولية الدينية ( بنفس الوقت تراجع الشعار الشيوعي الذي طرح الوطنية الانسانية – الأممية بتفسير آخر ).ويمكن أن نسجل ذلك بصورة أخرى : الضجيج الشعاراتي ازداد، والنضال الجماهيري المنهجي المنطلق من رؤية متكاملة تراجع تراجعا حادا، وهذه الظاهرة اشتدت مع تعدد الأحزاب السياسية وغياب دور قيادي بارز لحزب من الأحزاب… والبارز هنا فقدان الحزب الشيوعي لمكانته الجماهيرية، وانتقال الدور المركزي في الساحة السياسية، للأصولية الدينية…
غير مقبول علي تجاهل التفسخ الطائفي والعائلي،وتراجع مكانة المرأة في مجتمعنا، والاكتفاء بصياغة اخبارية عن الموضوع.
حول قضية المواطنة، كان من الضرورة التأكيد ان المواطنة ليست صيغة قانونية فقط، بل حصيلة انجازات على أرض الواقع، ربما حقيقة ان الذي قاد هذا النضال في وقته هو الحزب الشيوعي في وحدة يهودية عربية، لم تكن عالة على النضال، انما مصدر قوة للنضال، ولم يقد الى الطعن في الانتماء القومي للشركاء العرب، انما الى اغناء هذا الانتماء القومي بالنضال المشترك… ان وثيقة تدعي الشمولية والمصداقية التاريخية والسياسية، كان عليها ان تسجل الحقائق.
أيضا في الجانب الثقافي تعتز الوثيقة “بما أبدعه ابناؤه وبناته من فكر وثقافة أسهما في صيانة هويتنا واثرائها..”. هذا الانجاز أعزائي كان حربا ضد سياسة كاملة مبنية على التجهيل وفصل المعلمين الدمقراطيين والشرفاء ومن يتجرأون على تنوير طلابهم بأبسط المعلومات.. وممارسة الارهاب البوليسي وتجنيد العملاء وشراء الذمم.. اقرأوا الوثيقة المرعبة – كتاب عرب صالحون – للدكتور هيلل كوهن، حيث يتبين بشكل واضح الدور البطولي لجيل الشيوعيين الطلائعيين نضالا وفكرا وتنويرا وتنظيما.. في التصدي لسياسة التجهيل والارهاب، ونشر الثقافة والتنوير والوعي الشامل، الذي بسببه صنا هويتنا وأثريناها.
الوثائق كلها اكتفت بالضريبة الكلامية.. ضريبة تجدها وتجد أفضل منها في التعبير الشخصي عن المواضيع المطروحة. افتقدت الوثائق لأي طرح يشير الى مخرج للجماهير العربية من مأزقها الحاد، لم تطرح مشروعا للتقدم الاجتماعي والثقافي، مشروعا لرفع مكانة المرأة ولمحاربة التفسخ والتصدع الطائفي والعائلي.، لم تتعامل مع فكر الانعزالية القومية العربية، التي تضر ولا تفيدنا بالتقدم الى الأمام نحو انجاز مطالبنا المشروعة بالمساواة وتعميق المشاركة والسلام. ان العرب في اسرائيل يحققون المكاسب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية بقدر ما يناضلون ويبنون تحالفا مع القوى الدمقراطية للأكثرية. ان نجاح المعركة، مثلا… لدفن مشاريع الترانسفير هو مكسب تاريخي عربي ويهودي. وتعميق المشاركة في حياة المجتمع، مشاركة سياسية واجتماعية واقتصادية،هو مكسب هام فعلا، لا تصريحا فقط.
حقا الوثيقة متوازنة أكثر من وثيقة التصور المستقلي، وتتقاطع معها في الكثير من النقاط، ولكن ما نحتاجة يتجاوز ظاهرة التسجيل التي ميزت وثيقة حيفا وقبلها وثيقة التصور المستقبلي.
شبعنا وثائق… ما هو المخرج ؟!
nabiloudeh@gmail.com
*كاتب، ناقد واعلامي فلسطيني – الناصرة