في الرابعة والتسعين من عمرها.
ترقد في سريرها في غرفة الإنعاش، في مستشفى في الولايات المتحدة.
“أمريكية؟”
يلوح السؤال وتنطقُ به.
ستنظر إليك عاتبة، وتقول “بل مصرية”.
“مصرية؟”
ستحدق في وجهها، ستتأملها، وتستشعر طعم “مصرية” في فمك، ثم ستكنه قصتها، وسَتخجل!
ستقرأ في عينيها الحكاية.
وستشيح بوجهك.
لكن سنواتها الأربع والتسعين ستعيدك شئت أم أبيت معها إلى الماضي.
ستعيدك إلى أعوام مضت، تجري أمام عينيك لتستقر على 1948.
نكبة.
نكبة الفلسطينيين، وتأسيس إسرائيل.
وستدرك وأنت تحدق في ملامحها أن نكبة أخرى حلت بها بسبب ما حدث في ذلك العام.
نكبة؟
ستتأملها من جديد، وتصر على السؤال:”عربية؟”
وهي تهز رأسها مترددة.
سُتصر مجددا:”عربية؟”
وهي تنظر إليك، تتفحص وجهك، ثم تجيب مستسلمة:”يهودية مصرية.”
هل شعرت بأنفاسك تتراجع نافرة؟
“يهودية مصرية!”
وستشيح، ثم تدير ظهرك، لكنك لن تستطيع.
ستعود إليها.
وتقول لها “غادرت مصر باختيارك”.
تقولها مقرراً، تريد أن تريح نفسك.
وهي تنظر إليك بعينيها الممسوحتين، وشبح ابتسامة يلوح على شفتيها، تكاد تبتسم مما تقول.
تكاد.
وستحكي لكَ الحكاية، وأنت غير مصغٍ. ستجري بين أرجاء نفسك، لا تريد أن تسمع، وستصرخ في ذاتك، “أصمتي.”
“نكبتنا”، ستقول لك.
وستجري الكلمات فارة، وتراها غصباً عنك صوراً مجسدة.
عام العدوان الثلاثي على مصر 1956. هي في بيتها مستقرة، في الثالثة والخمسين، وزوجها المراقب العام لبنك مصر، في الثامنة والستين من عمره، يعمل من أجل بلده مصر إلى الثامنة والستين من عمره.
ثم جاءوا إليه.
طلبوا منه أن يستقيل.
قالوا له “نحبك، ونقدر كل ما فعلته، لكننا نخاف عليك. كي نحميك عليك أن تستقيل”.
والرجل مذهول، لا يفهم.
كأنه لم يكفِ أنهم حملوه وأسرته بطاقات تشير إلى هويتهم بالقول “إسرائيلي”.
وهو المصري.
كأنه لم يكفِ أنه يستشعر الخوف في كل لحظة، بعد أن كانت مصر الآمان لمن يحبها.
الخوف في الوطن.
ثم خيروه!
فاستقال.
ثم عادوا من جديد فخيروه!
“لا تبقى. ”
“الأفضل أن ترحل.”
“وعندما ترحل لا تعود.”
“عندما ترحل تتخلى عن جنسيتك المصرية. ”
“سنخلعها عنك. كأنك تخلع رداءك. ثم تضع جنسيتك وراءك، وترحل.”
نزعوا عنه الوطن.
والوطن فيه.
يا ضيعة الوطن.
عاد إلى بيته، نظر إليها وإلى ابنه ذي التاسعة عشره من عمره، وهما فَهِما دون أن ينطق.
حفنة من الدولارات هي كل ما حمله معه في محفظته.
عشرون دولاراً لا غير.
ترك بيته، ترك أرضه، وترك ثروته.
لم يخيروه في هذا.
كان عليه أن يترك كل ذلك غير مختار.
ثم رحل.
مجبراً.
وهي معه، تحمل تاريخها على ظهرها، وتمشي وابنها معه.
تركوا وطنهم ورحلوا إلى الولايات المتحدة.
وبدءوا من الصفر.
في الثالثة والخمسين من عمرها، وفي الثامنة والستين من عمره.
زوجها لم يتمكن من العمل.
ولذا اضطرت هي للخروج للعمل.
لأول مرة في حياتها.
وأبنهما لم يتمكن من استكمال دراسته.
خرج هو أيضاً كي يعمل.
الحياة تمضي، والإنسان يحيا.
رغم المصاب.
وهي عاشت.
رغم النكبة.
شاهدت ابنها وهو يكون شركته، ثم أسرته، وشاهدت أحفادها من حولها بعد موت زوجها.
عاشت.
ولم تنس.
لم تنس أنها يوماً كانت مصرية.
وأنتَ؟
أنتَ ستنظر إليها وتقول “يهودية”.
كأنك بقولك ذلك تبرر ما حدث.
وهي سترد “ومصرية”.
ولعلك لذلك ستخجل.