وثيقة سياسية نادرة في تاريخ سوريا الحديث، ووثيقة أساسية للديمقراطيين العرب
أدين عودة الطائفية إلى لبنان وكنت آمل أن تكون نخبه السياسية تعلمت دروس قرن كامل من الأزمات والحروب الأهلية
إلى مقام محكمة الجنايات الثانية بدمشق
استدعاني في يوم 14/4/2006 العميد تركي علم الدين من فرع الأمن الداخلي إلى مقر عمله، لأن اللواء فؤاد ناصيف رئيس الفرع يريد أن يشرب فنجان قهوة معي، كما أبلغني عبر الهاتف، قرابة الساعة الحادية عشرة من صباح ذلك اليوم. عندما دخلت مكتبه، أبلغني بالحرف الواحد: ((إن المؤسسة الأمنية قررت توقيفك))، عندئذ دخل أحدهم فأمره العميد بإنزالي إلى السجن، حيث أمضيت ليلتي، واقتدت صبيحة اليوم الثاني إلى مقر أمن الدولة، حيث تم حشري لبعض الوقت في زنزانة السجن قبل أن أستدعى لمقابلة ضابطين/محققين وجها إليّ بعض الأسئلة حول إعلان بيروت/ دمشق تركزت جميعها حول نقطة واحدة هي التأكيد على أنه موجه ضد سورية، ويتبنى مقولات واتهامات ما أسمياه ((جماعة 14 شباط)) في بيروت، التي كتبته، بينما اقتصر دوري ومن وقعه من مثقفي سورية على إقرار ما جاء فيه. ومع أنني أوردت وقائع كثيرة تفيد العكس، منها أن مثقفين سوريين طالبوا مرات متكررة بتصحيح العلاقات اللبنانية ـ السورية. وذلك بدءاً من عام 1991، ثم في الفترة السابقة لانسحاب الجيش السوري من لبنان. والتالية لعام 2000 سنة استلام الدكتور بشار الأسد مهام الرئاسة في سورية، واستشهدت على ما أقول بملفات ثلاثة عن علاقات البلدين نشرتها بين عامي 1998 و 2005 مجلة ((الآداب)) و جريدتا ((السفير)) و ((النهار))، فإن الضابطين رفضا الأخذ بحججي ومضمونه أن ما جاء في الإعلام سابق بعقد ونصف لظهور جماعة 14 شباط، وأن أحداً من هذه الجماعة لم يسهم فيه، وقررا إحالتي إلى سجن عدرا، حيث أمضيت ليلة 15 ونهار 16/ 4/ ثم نقلت يوم 17/4 إلى قاضي تحقيق في قصر العدل، كرر لدهشتي وأسفي الشديد أسئلة الضابطين بحرفيتها، حيث قرأها من ملف كان أمامه، دون أن يحذف منها أو يضيف إليها أي سؤال أو ملاحظة الأمر الذي دفعني إلى هذه الواقعة الخطيرة في نظري من خلال سؤال ساخر هو: هل أنا معتقل أمني أم معتقل قضائي أم أنني معتقل أمني بغطاء قضائي أم معتقل قضائي من بوابة أمنية؟!
بعد إحالتي إلى سجن عدرا عقب ((التحقيق)) وبعد وصول موقوفين آخرين بلغ عددهم تسعة، زار السجن ذات يوم المحامي طارق حوكان، وقال أن المعتقلين صنفوا إلى فئات ثلاث: واحدة تضم أربعة أشخاص هم محمود مرعي غالب عامر وصفوان طيفور ونضال درويش، سيخلى سبيلها بمنع محاكمة، وأخرى تضم محمود عيسى ومحمد محفوض وسليمان الشمر وخليل الحسين سيخلى سبيلها بعد تجنيح تهمها، وثالثة تضم المحامي أنور البني وميشيل كيلو ستجرم وتدان. وبالفعل عرض حوكان على الأربعة الأوائل توقيع وثيقة تفيد أنهم لم يوقعوا الإعلان، يذهبون بعدها إلى بيوتهم. وبما أن هؤلاء السادة قبلوا العرض، فقد تم أخذهم إلى مكتب المحامي العام الأول بدمشق الذي أضاف إلى العرض مطلبين، يقول أولهما أن ميشيل كيلو اتفق مع عبد الحليم خدام على الإعلان. وثانيهما أن هذا خدم الأمبريالية والصهيونية واضر بسورية. قال الأربعة أنهم رفضوا العرض ووافقوا على التنكر لتواقيعهم على الإعلان دون غيرها، أخيراً وقعوا على حل وسط، يقول أنهم لم يوقعوا لأن الإعلان يخدم الأعداء. يومذاك وبعد الاستماع إلى هذه الرواية الغريبة، وجهنا نحن الستة المتبقين مذكرة إلى المحامي العام تستنكر ما جرى وتسأله إن كان بين مهامه تلفيق تهم لم ترد في التحقيق الأمني / القضائي ولم يذكرها أحد أو يوجهها إلينا أحد، وسألناه إن كان يريد محاكمتنا عن التهم الرسمية الموجهة إلينا أم على تهم غير معلنة، فنتهم عندئذ بشيء ونحاكم بغيره، فيبدو وكأننا نعاقب على التهم المعلنة، بينما نحم نحاكم ونجرم في الحقيقة على تهم ملفقة لم توجه إلينا بصورة رسمية، لكن ((القضاء)) يقرها ويحكمنا بسببها. وقد ذكرنا المحامي العام بعمله، وأكدنا أنه يجب أن ينتمي إلى الجسم القضائي لا الأمني، وأن عليه التعامل معنا كرجل قانون وليس كرجل أمن.
يوم 11/ 5/ 2006، نشرت جريدة الثورة الرسمية مقالة لسيدة لبنانية اسمها ((ماريا معلوف)) تدعي أنني زرت قبرص وتلقيت أموالاً من السيد مروان حماده وزعتها على موقعي الإعلان من مثقفي وناشطي سورية. وبما أن هذا الخبر كان ملفقاً وكاذباً، ويمثل محاولة أخرى لتشويه سمعتي وتلفيق تهم وأنباء كاذبة ضدي، فقد كلفت محام بإقامة دعوى قضائية في دمشق ضد السيدة معلوف، لكن الأستاذ المحامي العام كان لي بالمرصاد هنا أيضاً، ومنع إقامة الدعوى طيلة قرابة نصف عام. بينما امتنعت جريدة الثورة عن نشر رسالة تكذيب مني. فهل كان ما قام به الأستاذ اللوجي من مهام عمله؟!
وماذا كان يضيره أن يبت القضاء السوري بأمر يتصل بشخص ليس لها مركزاً أو مقاماً أو دوراً رسمياً أو غير رسمي في سورية، ينشر أخباراً كاذبة ضد مثقف معروف وصاحب دور يجد نفسه في وضع حساس، عرضة لمحاكمة لو بحث فيها المحامي العام عن الحقيقة، بل يلفق ما يدين هذا المُثقف ويجرّمه، رغم أن القانون والعرف يمنعان أياً كان، خاصة رجال الجسمين القضائي والسياسي، من التدخل الكيفي والتعسفي في مجريات دعوى قضائية، كما يمنعانه من فصل أو قول ما من شأنه التأثير على العدالة، فهل منع وتعطيل عمل القضاء من مهام المحامي العام، أو من علامات ((القضاء العادي)) الذي قال رئيس الجمهورية إنني أحُلت وزملائي إليه، وأن له القول الفصل في قضيتنا، لذلك لا يجوز أن يتدخل أحد في عمله؟!. لمصلحة من يمنع المحامي العدالة من أخذ مجراها، ويحول دون إظهار الحقيقة؟! وإذا كانت لديه أدلة قوية في الدعوى الأصلية المقامة ضدي، لماذا يلفق لي تهماً ما انزل الله بها من سلطان، دون أن يوجهها إلي بصورة رسمية ويحاكمني عليها، كما طالبته أكثر من مرة، رغم خطورتها الفائقة، في حال كانت صحيحة؟!.
أخيراً، وفي يوم 19/10/ 2006، أصدر قاضي الإحالة قراراً استئنافياً بإخلاء سبيلي، أسوة بزملائي الأربعة، جماعة الفئة الثانية، الذين كان قد أخلي سبيلهم بالفعل، وهم محمود عيسى ومحمد محفوض وسليمان الشمر وخليل الحسين، لكن المحامي العام أنكر وصول قرار إخلاء السبيل إليه، رغم إبراز وصل كفالة رسمي يؤكد صدوره، ورغم إبلاغي رسمياً في السجن وحثي على مغادرته قبل مدفع الإفطار، اللافت أن عملية تزوير فظة حدثت هنا أيضاً، فبينما أنكر المحامي العام وجود القرار، ورفض الكفالة وإيصالها، قام قاضي التحقيق إياه بإصدار قرار بإحالة ملفي إلى قاضي الإحالة، الذي كان قد أخلى سبيلي للتو، فقرر، وهنا العجب العجاب في ((القضاء العادي)) توجيه جناية ((إضعاف الشعور القومي)) إلي مع نصف دستة من الجنح وذلك يوم 22/10، بالإشارة إلى قرار قاضي التحقيق بتحويل ملفي إليه يوم 21/10 (وهو يوم عطلة رسمية لوقوعه في يوم سبت)، فما هذا النشاط وما هذه الحماسة، التي تدفع قاضياً لم يتنازل ويقرأ إضبارتي الآتية من المخابرات، إلى العمل يوم عطلة، وما الذي يسوغ إلغاء إخلاء سبيلي، أنا المتهم بجناية واحدة، بينما تم بالفعل إخلاء سبيل زملائي الأربعة، المتهمين بجنايتين؟!وماذا حدث كي يبطل تعطيل إخلاء سبيلي قرار إخلاء سبيل هؤلاء، ويدفع قاضياً كان قد أرسلهم إلى بيوتهم وعيالهم قبل قرابة شهر، إلى إصدار أمر بإعادة اعتقالهم، بل وإلى إلقاء القبض على أحدهم، الصديق محمود عيسى، قبل صدور قرار قضائي باعتقاله؟! هل هذه هي المعاملة القضائية والقانونية، وهل هذا هو ((القضاء العادي)) الذي جعله الرئيس حكماً أوحداً في قضيتي؟!.
سأتجاوز ما فعلته محكمة النقض التي قفزت عن هذه الغرائب جميعها وأصدرت فتوى تنضوي في السياق السابق، وضربت عرض الحائط بالقانون وأصول التقاضي وأضرت بي، ووضعت العدل في جانب والقضاء في جانب آخر مناقض له.
والآن، إذا كنت سجين القضاء، لماذا أعامل بهذه الطريقة غير القضائية، وغير القانونية؟!. ولماذا لم يقم محام عام ما باستدعائي بعد توقيعي إعلان بيروت/ دمشق، بواسطة الشرطة، ليوجه إليَّ ما يريد من تهم، ويحاكمني طليقاً، كما هو مألوف وقانوني ودستوري في حالات كهذه ؟! وإذا كنت سجين الأمن، لماذا يقدم هو((القضاء العادي)) التغطية غير القانونية وغير القضائية أو الشرعية لتوقيفي الأمني ؟!.. وإذا كنت موقوفاً لصالح التهمة الرسمية الموجهة إلي لماذا رفض إخلاء سبيلي أسوة بزملاء لي أخليّ سبيلهم، مع أنهم متهمون بإضعاف الشعور القومي وبـ ((تعريض سورية لخطر أعمال عدائية))؟! إنها أسئلة حساسة تطرح نفسها على ضمائركم وحسكم القانوني، كما تطرح نفسها عليَّ، أنا الذي لا يجد تفسيراً منطقياً لما يجري غير ذاك الذي يجعلني مقتنعاً بأن من سلكوا هذا السلوك ينتمون إلى القضاء شكلاً وإلى ((المؤسسة الأمنية)) مضموناً، وقد قررت اعتقالي وتركت الباقي لهم، فقاموا به أسوأ قيام، لغير صالح القضاء والعدل والحق، ولغير صالحي بطبيعة الحال.
في الإعلان
يتضمن الإعلان محاور ثلاثة هي:
1) وصف الحال الراهن للعلاقات السورية / اللبنانية.
2) تشخيص ما شاب ويشوب هذه العلاقات من مشكلات يجب التخلص منها، كي يكون تطبيعها ممكناً.
3) تقديم الحلول الكفيلة بجعل هذه العلاقات عصية على التردي والتأزم، وبلورة حاضنة جديدة لها تقيمها على أسس مختلفة عن الأسس التقليدية التي نهضت عليها وحددت ولا تزال علاقات البلدين الأخوين طبعتها بطابعها، وأدت إلى توتيرها وتأزيمها من حين لآخر خلال نصف القرن المنصرم، أسس تنطلق من المنظور الديموقراطي وتعبر عنه وتترجمه إلى وقائع قابلة للحياة، بما لها من عقلانية ومن قابلية للتحقق.
1) يتسم واقع العلاقات السورية/ اللبنانية الراهن بالتردي المتفاقم، الذي برز بعد سحب الجيش السوري من لبنان نهاية شهر آذار من عام 2005، بناء على وجود إجماع لبناني، كما قال الرئيس في خطاب 5 آذار 2005.
يشخص الإعلان محطتين على طريق هذا التردي هما: التمديد للرئيس لحود ومقتل الرئيس رفيق الحريري، دون أن يتهم أية جهة أو طرف بالتسبب في التدهور والتأزم الحاصل، علماً بأن التردي واقعة صارخة لا مجال لإنكارها. مهما كانت رغبة المرء كبيرة في تجاهل حال البلدين الراهن، بهذا المعنى، يبدي الإعلان القلق بسبب هذه الحال. دون أن ينساق إلى أية انحيازات أو أحكام قيمة عن أي نوع كان، لصالح أي من الطرفين أو ضده. وهو يكتفي بتأكيد ما لا يمكن إنكاره، وهو أن هذه العلاقات ساءت بدرجة تثير القلق، تهدد ((بتكريس شرخ عميق بين البلدين الجارين والشعبين الشقيقين)) اللذين كانت علاقاتهما تعتبر نموذجية وغير قابلة للتخريب، فإذا بها تنحط فجأة إلى درك عميق من السوء والتردي ((شعر بعض أصحاب الرأي في البلدين بخطورته فتنادوا لمناقشته وتوافقوا على ضرورة تصحيح صلات بلديهما بما يلبي المصالح والتطلعات المشتركة للشعبين في السيادة والحرية والكرامة.. والتقدم..))
هنا لابد من إيراد ملاحظتين:
أ) إن هذا الواقع المتردي، والمهدد بمواجهة لا يعرف أحد نهايتها ولا يفيد أحد منها غير أعداء البلدين، يتناقض، كما يقول الإعلان مع تاريخ علاقات الشعبين، الذي اتسم بنضالهما المشترك، النابع من آمالهما وتطلعاتهما ومنطلقاتهما المشتركة في سبيل الاستقلال وضد الاستعمار، وترجم نفسه إلى كفاحات وتضحيات مشتركة قدمها كلا الشعبين ((عندما كانت مدن لبنان تقفل وتتظاهر ويتلقى شبابها الرصاص بصدورهم تضامناً مع انتفاضات مدن سورية والعكس بالعكس)) (من نص الإعلان) هذه الوحدة النضالية وما ترتب عليها من تعاون، كانت تعيد تجديد النضال السوري/ اللبناني المشترك من أجل فلسطين وضد الأحلاف العسكرية الدولية والإقليمية، وصولاً إلى تضامنهما خلال العقود الأخيرة في التصدي للعدوان الإسرائيلي عليهما، وضد احتلاله أجزاء من أراضيهما، وقد أثمر التصدي في لبنان تحرير جنوبه المحتل (نص الإعلان). يقول تقرير الأمن أن الإعلان تجاهل دور سورية في تحرير جنوب لبنان، رغم هذا النص الباهر الوضوح والدقة في التأكيد على أن التحرير نجم عن التعاون السوري/ اللبناني والذي يقرر في فقرات أخرى ضرورته لتحرير ما تبقى تحت الاحتلال من أراضي البلدين، لقد أشاد نص الإعلان بتاريخية التعاون بين البلدين، واعتبره نموذجاً يجب أن يحتذى من جديد، ووضعه في مواجهة واقع التردي القائم، ولا عجب في ذلك، فهو نص يؤكد في منطقه ولغته صدوره عن جهة تقدمية/ يسارية وعروبية، ومعادية للاستعمار، فهو ليس كما يقول الأمن لأمر في نفسه. نص من نصوص ما يسميه )((جماعة 14 شباط)) مكرّس لخدمة قرار مجلس الأمن رقم 1680 (لم يعد أحد يذكره اليوم، مع أن الإعلان نسب إليه حصراً قبل عشرة أشهر فقط!) ذلك أن أميركا لم تستطع إقناع روسيا والصين بالموافقة على القرار، فاتصل بوش بموقعي الإعلان عامة وبي خاصة، فتدخلت للتو لدى روسيا والصين وأقنعتهما أو أجبرتهما بقبول القرار 1680 المضاد لسوريا والملائم لجماعة 14 شباط، فلابد من معاقبتي على يد ((القضاء العادي)) وقضاء مروان اللوجي الذي هو في الحقيقة قضاء غير عادي بجميع المعايير!
ب) هذا الواقع بما يضمره من مخاطر مخيفة، أثار قلق الموقعين على الإعلان من مثقفي سورية ولبنان، الذين ينتسبون في معظمهم إلى اليسار القومي والديموقراطي، ويرفضون أن يحسبهم أحد على أية جهة، سورية كانت أم لبنانية، وأن يحتسبوا الواقع المتدهور، على أية جهة، كي لا يسيئوا إلى رهانهم الرئيس، رفض الواقع القائم بين البلدين وإدانته، وإدانة كل ما يسهم في المزيد من تدهوره، بغض النظر عن تفاصيل هذا التدهور وأحداثه، فليس توزيع التهم وتحميل المسؤوليات هدفهم، وإلا لكانوا ذكروا بكل وضوح، وهم من هم شجاعة وبسالة وحرية رأي، من يحملونه مسؤولية ما يقع دون مواربة. ليس الإعلان مع أي من الطرفين المتصارعين، إنه ضد الصراع بحد ذاته، وهو جهد يعترض على التدهور وينبه إلى ضرورة وقفه والتصدي له في زمن سقوط عربي شامل هو جزء منه، خاصة وأن حملته مثقفين وأكاديميين وإعلاميين معنيين جداً بالشأن العام ومنخرطين فيه، تهمهم الحقيقة بدرجة أولى، حقيقة التدهور الذي يجب التصدي له، ومن منظورات الثقافة ومتطلباتها الضميرية، وليس من منظورات سياسوية تريد تسجيل نقاط على هذه الجهة أو تلك، مادام تسجيل النقاط أمراً ثانوياً بالقياس إلى ما يمكن أن يترتب على التدهور من كوارث إضافية يمكن أن تحل بالبلدين والشعبين الشقيقين، في حال تواصل أو تفاقم عجزها عن وقفه، وصمت أصحاب الرأي حياله، بهذا المعنى، الإعلان موجه ضد كل من وما يسهم في تردي العلاقات السورية/ اللبنانية، وهذا يراهن على إقامة أرضية فكرية/ سياسية جديدة بينهما، تفوق أهميتها بالنسبة إلى موقعيه أية تكتكة سياسية وتتعارض طبيعتها أشد التعارض مع أية محاولة لتجيير جهدهم في الإعلان لصالح هذه الجهة أو تلك من طرفي النزاع والصراع، ولو كان قصد الإعلان دعم أو إدانة أحد الجانبين، لما اعترض الموقعون السوريون على فقرة تحمل سورية مسؤولية التمديد للحود، ولما وافق الموقعون اللبنانيون على حذفها من النص.
2) في تشخيص العقبات والقضايا التي تحول دون تطبيع علاقات البلدين، وفي إطار الرغبة في تقديم رؤية صادقة لا تدين ولا تجامل، كان من الضروري قول الواقع كما هو، وقراءته على حقيقته، ودون أحكام مسبقة أو نوازع انتقامية أو فرار من الوقائع. وقد وجد الإعلان في الطابع التاريخي لعلاقات النخبتين السياسيتين والاقتصاديتين/ الاجتماعيتين للبلدين أساس مشكلاتهما، فصب جهده على وصفها دون مواربة، رغم تفاوت أهمية المشكلات التي نجمت عنها من ميدان لآخر، ومن مشكلة لأخرى.
في هذا السياق برزت مشكلات وقضايا رئيسية وأخرى فرعية ترتبت عليها، فمنها مثلاً مشكلة العمالة السورية/ اللبنانية عامة والسورية في لبنان خاصة، ومشكلة المعتقلين اللبنانيين، الذي يقال أنهم في سورية، والعمال السوريين الذين قتلوا في لبنان. بالنسبة للمشكلة الأولى، طالب الإعلان بتنظيم العمالة السورية في لبنان على أسس واضحة تضعها الدولتان، صيانة لحقوق العمال السوريين/ الذين يشكل قسم منهم فائض عماله في بلدهم والبلد الشقيق، لأن ذهابهم إلى لبنان اتسم بالعشوائية، ولأن أعدادهم فيه كانت كبيرة إلى درجة ضغطت على أسعار قوة عملهم من جهة، وقوة عمل اللبنانيين من جهة أخرى، علماً بأنه استحال بسبب هذا الواقع حصولهم على حقوقهم، وخاصة منها حقهم في التنظيم النقابي، والتعويض والرعاية الصحية والسكن والتعليم..الخ. وقد أدان الإعلان ما يتعرض له هؤلاء العمال من اعتداءات خاصة بعد خروج القوات السورية من لبنان، واعتبر العدوان عليهم جرائم طالب السلطات اللبنانية بمحاسبة مرتكبيها وإنزال أشد العقاب بهم. بالمقابل، عرّج الإعلان على قضية اللبنانيين الذين يقال أنهم مفقودون في سجون سورية ومع أن أحداً لا يستطيع نفي أو تأكيد وجود هؤلاء فقد ذكروا في الإعلان لاعتقاد موقعيه أن مشكلتهم لابد أن توضح أو تحل، لما تحمله من شحنات انفعالية وتحريضية، تستطيع لعب دور لا يستهان به في تخريب علاقات البلدين، خاصة وأن جهات عديدة تستغل المشكلة سياسياً، الأمر الذي يجعل من الحتمي توضيح مصيرهم والبت فيه، علماً بأن الجانب السوري هو الذي يجب أن يقوم بذلك، بصفته الجهة التي أنكرت طيلة سنوات كثيرة وجود معتقلين لبنانيين لديها، والتي أطلقت فجأة سراح خمسة من الذين كانت تنكر وجودهم، مما أثار مشكلة المعتقلين من جديد وفي أجواء بالغة السلبية، ودفع شخصيات رفيعة المستوى في سورية بينها وزير الداخلية اللواء علي حمود إلى الإدلاء بتصريحات مفعمة بالارتباك حول الموضوع، وإلى استقبال أسر لبنانية تطالب بأبنائها، الذي قال من خرجوا من السجون أنهم موجودون فيها. أن طرح مشكلة المعتقلين اللبنانيين يتطلب موقفاً سورياً يوضح مصيرهم، ويجعل طي ملفهم أمراً لا مهرب منه، فإن كان بعضهم في سجون سورية وجب إطلاق سراحهم، وإلا قيل بوضوح أنه لا وجود لهم، وأن سورية مستعدة لاستقبال ذويهم وتوضيح مصيرهم بوضع ما لديها من معلومات عنهم بين أيدي هؤلاء تخلصاً، لمرة واحدة وإلى الأبد، من الضرر الفادح الذي تلحقه قضيتهم بعلاقات البلدين والدولتين.
تتركز ملاحظات الإعلان الرئيسية، كما فهمته، على نمط مصالح وصلات نخب البلدين الحاكمة والمالكة، والتي يرى أنها كانت حاضنة عملية تفاعل اتسمت بالفساد والأنانية، أعاقت قيام علاقات سياسية واقتصادية استراتيجية بينهما، تتجاوز طبيعتها مصالح قسم هام من هذه النخب، تحول إلى مافيا بفعل انعدام الرقابة عليها، ووجود مصالح مشتركة ومتشابهة بين أفراده، من الخطورة والخطأ إنكار وجودها، وإنكار ما ترتب على مكانته ضمن الهرمية السياسية والإدارية من نتائج في البلدين، وما نجم عن ممارساته من خراب في علاقاتهما، لعب دوراً رئيسياً في منع وحدتهما الاقتصادية، وحال دون بلورة مصالح وسياسات مشتركة بينهما، تقوم على أرضية صلبة من التوجهات والأفكار والمصالح الموحدة، كما حال دون قيام مشاريع توحيدية فيهما، لأن حسابات هذه المافيا انصبت على مكاسب آنية أقرب إلى النهب منها إلى العمل التنموي بعيد المدى.
وهكذا، بعد ثلاثين عاماً من الوجود السوري في لبنان ومن تهالك النخب اللبنانية على دمشق عند النظر في كل كبيرة وصغيرة، تبين أن الهياكل والمؤسسات التي تمت إقامتها رسمياً بين البلدين كانت شكلية وفارغة، وأن ما بني منها قام على ملح ما لبث أن ذوبته مياه الخلافات والتأزم، لتعود علاقات البلدين إلى أدنى من تلك التي سبقت عام 1976، لم يكن أحد يصدق أن بلوغها ممكن بالسرعة التي شهدناها، فهل يعاب من وقع هذا الإعلان لأنه كشف هذه المافيا وأدان أعمالها وحملها جزءاً من المسؤولية على ما آلت إليه أمور البلدين؟!. وهل من الخطأ أن يطالب هؤلاء بتصحيح هذا الجانب من علاقات بلديهما؟!.
توقف تقرير الأمن كثيراً عند مطالبة موقعي الإعلان باستكمال التحقيق في جريمة اغتيال الرئيس الحريري واعتبروها ضرباً من الاتهام لسورية، ورفضوا حجة أوردتها هي أنها جاءت على لسان جميع المسؤولين في سورية، وعلى لسان حزب الله وحركة أمل والجنرال ميشيل عون، وهم المعارضة في لبنان، ورفضوا تذكيرهم بقول الرئيس الأسد، أن كشف الحقيقة في اغتيال الحريري هي مصلحة سورية عليا، وأنه سيعاقب أي سوري يثبت تورطه فيها باعتباره خائناً لوطنه، وللعلم كان براميرتس يقر بأن سورية تسهل التحقيق، وتريد معرفة من قتل رئيس وزراء لبنان الأسبق، بعد أن أعلن الأسد مرات عديدة براءة القيادة في سورية منه، فكيف يتهم ويحاكم ويلام من طالبوا بشيء يتفق مع موقف سورية الرسمي، ومع ما لم يعترض أحد عليه في لبنان أو عندنا، لأن عدم القيام به لا يخدم الحقيقة ولا يقدم الدليل على براءة سورية من دمه؟!. ولماذا يقال أن الإعلان مكتوب من ((جماعة 14 شباط)) ويخدم مصالحها، إذا كان حزب الله وأمل وعون يوافقون على بنوده الرئيسية وجوهره، ومنها جلاء الحقيقة في قضية اللبنانيين الذين يقال أنهم في السجون السورية، وفي مقتل الحريري وإقامة علاقات ديبلوماسية بين البلدين وترسيم الحدود بينهما؟!. لماذا لا يتهمنا تقرير الأمن بأننا من جماعة المعارضة، وخاصة منها حزب الله، الذي لطالما نصرته وتعاطفت بل وتعاونت معه؟!. أليس هذا كله تلفيقاً بتلفيق وسعياً إلى إدانتي بأية حجة وأي ثمن؟!.
قال الرئيس في خطاب 5آذار 2005 أنه مع تنفيذ كل ما يجمع عليه اللبنانيون وقد أجمع هؤلاء في مؤتمر الحوار الوطني على تبادل التمثيل وترسيم الحدود وجلاء الحقيقة في مقتل الحريري والمعتقلين في السجون السورية (الافتراضيين)، فلماذا يحسب التوقيع على الإعلان لصالح جهة يعرف القاصي والداني أنها أبعد الجهات السياسية عن عقلي وقلبي، ولماذا لا تؤخذ هذه الحقيقة بعين الاعتبار. وهي أن هذه مطالب إجماع وطني لبناني، وأنها مكرسة لفض مشكلة وإنهاء تأزيم العلاقات بين البلدين، وليست مقصودة بذاتها، بل يراد بها درء سوء أعظم بسوء أقل، ودفع ضرر أكبر بضرر أصغر.
3) أصل الآن إلى روح الإعلان وجوهره، إلى وصف الحلول وتقديم الأرضيات الملائمة للتخلص من تردي العلاقات وتفاقمها وما يمكن أن يسببه من خراب ودمار يطالهما معاً، هنا يكمن أساس الإعلان وليس في هذه الجملة أو ذاك المطلب الفرعي، رغم أهمية التخلص من المشكلات التي سبق ذكرها لتطبيع علاقات البلدين التي لا يعقل ولا يجوز أن تبنى على أرضية ملغومة بخلافات متنوعة ومتزايدة، تضع البلدين في مواجهة بعضهما بصورة متعاظمة، وتفسح في المجال لتدخل أعدائهما وخصوصا في شؤونهما الأكثر وطنية وصميمية، يصير حسن الجوار وتصير الأخوة الجامعة بينهما ضرباً من المحال بوجودها.
يقول الإعلان بضرورة بناء علاقات البلدين على مشتركات التاريخ واللغة والدين والاقتصاد والآمال والأهداف المشتركة والجامعة، ويعتبر تحرير الجولان والمحتل من أراضي لبنان تصرفاً يوحدهما، ويبرز حقهما في مقاومة الاحتلال وطرده من أراضيهما بجميع السبل، ويطالبهما بالإحجام عن التحول إلى ممر أو مقر أحدهما ضد الآخر، ( يزعم تقرير الأمن كذباً بأن الإعلان يطالب سورية ألا تتآمر على لبنان)، ويلح على ضرورة إرساء علاقاتهما على التكامل والشفافية في إطار من احترام وتنمية الحريات العامة والخاصة، وحقوق الإنسان والمواطن، ودولة القانون والمؤسسات والانتخابات الحرة وتداول السلطة ووحدة الدولة، لما لهذه القيم وخاصة منها قيم التحول الديموقراطي، من أهمية في حماية استقلالهما وتعزيز قدرات شعبيهما في معاركهما الوطنية والقومية، ترسيخاً للندية والثقة والاحترام المتبادل بينهما.
هذه الرؤية، بما تضمره من توجه جديد هي روح الإعلان ونواته، كما فهمتها بعد قراءته بإمعان، وهي إسهام مثقفي البلدين في تصحيح علاقاتهما، وهي التي تجعل الإعلان تطبيقاً ملموساً للمبدأ الديموقراطي على العلاقات بين بلدين عربيين، وهي التي تقدم أول تصور تفصيلي حول نمط مختلف من هذه العلاقات، مغاير للنمط الدمجي والإلحاقي والاستبدادي، الذي سيطر على العقل القومي بعد الحرب العالمية الثانية، وقام على تصور تأكد خطؤه في الواقع والممارسة طيلة نصف القرن المنصرم، يرى أن العرب سيكونون في حال من العداء والتجزئة، ما لم يتحدوا في دولة واحدة، وأن ما عدا هذه الدولة هو بالضرورة انفصال وخراب وهلاك، وبما أنني من القائلين بوجود مخاطر للتجزئة العربية ذات نتائج وخيمة حقاً، فقد وافقت على الإعلان لاعتقادي أنه جاء بتصور يمكن بواسطته تخطي مشكلات كثيرة سببتها تجزئة العرب، لانطلاقة من رؤية تعتقد بإمكانية وضرورة فعل أشياء كثيرة لتنمية مشتركاتهم، رغم واقع التجزئة المرفوض وأنه بالإمكان تقريب الأمة من هدف الوحدة المنشودة بطريقة تدرجية لكنها فاعلة، لما بوسعها إقامته من علاقات تكاملية بينهم، تحد من ارتباطهم بالخارج الأجنبي، وتنمي مصالحهم ومشتركاتهم في حاضنة فاعلة، وإن لم تفض إلى اختفاء دولهم الفوري وقيام الدولة العربية الواحدة.
في هذه القضية الرئيسية يطرح الإعلان الملاحظات التالية:
1) يحاول إبعاد سورية ولبنان عن هاوية نزاع لا مسوغ له، بالتذكير بما بينهما من مشتركات تاريخية ودينية ولغوية وثقافية وشعورية، ومن مصالح واحدة في مواجهة الأعداء المشتركين، كي لاتظهر مفاعيل التجزئة القائمة بينهما في أفظع صورها بشاعة ويتم كسب الوقت لتخطي سطح الأشياء والمشكلات والغوص إلى جذورها العميقة، حيث توجد القيم والضوابط الضرورية لوضعها على أرضية تمكن البلدين من حلها.
2) ليس في الإعلان فكرة واحدة رئيسية لم ترد على لسان أكثر من مسؤول سوري (ليس هؤلاء من جماعة 14 شباط بالتأكيد!) وخاصة الرئيس بشار الأسد، الذي أعلن في خطاب 5 آذار عزمه على إقامة علاقات مع لبنان أرضيتها وحدة الثقافة والدين واللغة والتاريخ.. الخ. خدمة للشعبين، وليس لخدمة أي سياسي أو حزبي هنا أو هناك، كما قال.
3) ليس الإعلان من عمل سياسيين، بل هو فعل ثقافي لمثقفين وأكاديميين وإعلاميين أقلقهم مصير العلاقات بين بلديهما الجارين والشقيقين، التي كثيراً ما سمعوا أنها مميزة وممتازة وغير قابلة للتأزم والتدهور، فإذا بها تنقلب فجأة إلى أسوأ علاقات عرفها العرب في تاريخهم الحديث، الذي لم يعرف معظم الأحيان غير العلاقات السيئة. إلى هذا، ليس الإعلان مرسوماً جمهورياً قطعي الأحكام، بل هو رد ثقافي وعملي على واقع مقلق ترافق مع انهيار العراق ومخاطر نشوب حرب أهلية فيه. بينما تدهور وضع فلسطين، فصار من حق، بل من واجب مثقفي البلدين تقديم مساهمتهم حول سبل تصحيح علاقاتهما، ليس لأن تدهورها ينعكس عليهما أيضاً، بل لأن ما جرى ويجري يبدو كفشل للنخب السياسية في البلدين من غير الجائز أن يصمتوا كمثقفين حياله، وإلا خانوا أنفسهم في الزمن الجديد، الذي يلقي على كاهلهم عبئاً ضميرياً يجعل صمتهم ضرباً من التخلي عن واجبهم وتالياً عن شعب البلدين والدولتين.
4) ليس الإعلان قرآناً كريماً. إنه مقاربة ثقافية أولى فيها نواقص متنوعة حول علاقات على قدر كبير من التعقيد والتأزم والالتباس تتدخل فيها قوى دولية وإقليمية كثيرة معظمها معاد للبنان وسورية، علاقات تأزمت كثيراً عقب خروج الجيش السوري من لبنان، حكمها جو من الانفعال والمصالح والمواقف المتضاربة ورافقته حملات إعلامية متبادلة استخدمت فيها جميع أنواع المصطلحات والشتائم، وبما أنه لم يكن في نية الموقعين الانحياز إلى أحد طرفيه، فإنه لم يبق لهم غير الانحياز إلى جهة يكرهها الخصمان: ألا وهي الحقيقة التي لا تجامل ولا تهادن لكنها تجرح كي تداوي . ثمة هنا أمر غريب حقاً هو أن سورية المستفيد الحقيقي من تطبيق الأسس التي شخصها الإعلان، بوصفها البلد الأكبر والطرف الأقوى، الذي سيسيطر لا محالة وستكون له أرجحية في الوضع المقترح، هي التي اعتقلت مثقفيها، بينما لم يسأل أي شخص في لبنان عما فعله، ولم يتهم أحد من الموقعين بالتفريط في مصالح وطنهم، ولم يعتبر من جماعة 16 تشرين في حين شنت حملة إعلامية شعواء على المثقفين السوريين، شارك فيها رجال دين ومثقفين وأطباء ومحامين وصحافيين، ورجال سلطة كبار جادوا على الرأي العام بتهم جديدة كل مرة، لم يرد أي منها في التحقيق أو في صك الاتهام القضائي، كان تدخلهم برهاناً إضافياً على احتقارهم للقانون والقضاء وقبل هذا وذاك للحقيقة، وكشف كم هي وطيدة بنى الاستبداد في بلدنا، وكم يلذ لمسؤوليها وصحافييها وضع أنفسهم فوق العقل والمنطق وخارج دائرتهما، ووضع القانون تحت أقدامهم.
5) اعتقلت السلطات عشرة من أصل 235 موقعاً على الإعلان في سورية، مما أثار الحيرة والاستغراب في صفوف المثقفين خاصة والمواطنين عامة، لاسيما وأن الموقعين وقعوا بصفتهم الشخصية لا السياسية، وأن بينهم من هم أكثر أهمية بكثير من بعض المعتقلين، كما أن بينهم من ظل على رأس عمله، في حين تم تسريح من هم أكبر من هؤلاء دخلاً ودوراً، وبينهم من أصر على التمسك بتوقيعه، في حين اعتقل أشخاص تنكروا لتواقيعهم، فهل شكل هؤلاء العشرة الذين ما لبثوا أن تقلصوا إلى ستة، دون غيرهم خطراً على البلد؟. وهل انفردوا وحدهم بـ ((إضعاف الشعور القومي)) وهل هم وحدهم جماعة 14 شباط في سورية، مع انهم وقعوا كغيرهم على الأنترنيت، بينما لم يضعف هذا الشعور من هو أكثر شهرة وأعظم دوراً منهم، رغم أن هؤلاء تمسكوا بموقفهم من الإعلان ومن تبنيهم له، لكنهم بقوا أحراراً، ربما لأن توقيعهم اعتبر مجرد توقيع، في حين اعتبر توقيع الستة فعلاً غير وطني، كما قيل أكثر من مرة. في هذه الحالة، نود أن نسأل عن المعايير التي يعتمدها أولو الأمر منا عندما يتعاملون مع الواقع، ولماذا يوجد بالنسبة لهم ((خيار وفقوس))؟!.
6) بغض النظر عن أن المطالبة بالعلاقات الديبلوماسية وبترسيم الحدود لا تقتصر على ((جماعة 14 شباط)) بل هي مطالبة وطنية جامعة في لبنان، فإن الإعلان لم يطالب بالعلاقات والترسيم بإطلاق، كما قال خصوم الإعلان، بل طالب بهما في إطار محدد هو إقامة شراكة سورية/ لبنانية أساسها وحدة البلدين في الدين والثقافة واللغة والتاريخ والمصالح والأهداف والنضال ضد الاحتلال، إن المطالبة بالترسيم والاعتراف ليست مفصولة عن هذه الأرضية التي أعتقد أنها ستحول دون جعلهما حاجزاً يمنع أو يضعف تفاعل البلدين، وتحقيق أعلى قدر من التعاون والشراكة بينهما، هنا، في هذه النقطة الهامة، يكمن الفارق بين مطالبة الإعلان ومطالبة الخارج بالحدود والعلاقات، فالخارج يفصلهما عن عمقهما التاريخي/ الثقافي/ الديني/ المصلحي.. الخ، الذي يجمع ويوحد البلدين. بينما يجعل الإعلان هذا العمق حاضنه أية علاقات مستقبلية بين الشعبين والدولتين، لأول مرة في تاريخهما وتاريخ العرب الحديث، أليس هذا الفارق هام جداً من الضروري الوقوف عنده لأن فصل المطالبة بالحدود والاعتراف عنه يشبه قولهم: ولاتقربوا الصلاة، ولأن موقعي الإعلان تميزوا به عن الخارج، لكن هذا لم يشفع لهم لدى من يريدون تصويرهم زوراً وبهتاناً، كانفصاليين يطالبون بما يطالب به الأعداء، ولم يشفع لهم عند من يحبون حزب الله والمعارضة لكنهم تناسوا عامدين متعمدين أنه يطالب بما طالب الإعلان به والغريب أن من يتهمون موقعي الإعلان يتحدثون وكأنهم حققوا وحدة لبنان مع سورية خلال السنوات الثلاثين التي كانوا خلالها في بيروت، علماً بأنهم لم يتجرؤوا على إزالة ولو حجر حدود واحد بين البلدين، ولم يفعلوا أي شيء لإقامة أرضيات رسمية وشعبية مشتركة فيهما، على أي صعيد من صعد السياسة والاقتصاد والمجتمع والثقافة .. الخ، في حين يحاول الإعلان إنقاذ ما يمكن إنقاذه، بعد انفجار صراع كان يقال قبل أشهر قليلة أن نشوبه مستحيل، وبعد أن بدا كم كانت برانية سياسات سورية اللبنانية، وكم ابتعدت عن الناس وخدمت النخب الطائفية والمصلحة والحزبية السائدة، وكم فشلت في إقامة أي تواصل ثابت وجدي بين بلدين لطالما زعم الإعلام السوري أن علاقاتهما في أحسن حال، فتبين ساعة الجد أنها على أسوأ ما يمكن أن تكون.
7) هل صحيح أن الإعلان يفسح المجال أمام تدخلات الخارج، كما يقال، وأنه تزامن عن قصد مع قرار مجلس الأمن رقم 1680، حسب تقرير المخابرات، الذي بلغ من صدقه أنه حول ((ظن)) نضال درويش بأنني من طلب إليه توقيع الإعلان عبر الأنترنيت (وهو ظن ليس صحيحاً!) إلى يقين يقول: دعا المدعو ميشيل كيلو نضال درويش إلى التوقيع على الإعلان. وهل صحيح أن هذا التزامن أضعف الشعور القومي في سورية؟. إذا كانت المطالبة بإقامة علاقات سورية ولبنان على أرضية التاريخ والدين واللغة والثقافة.. تضعف الشعور القومي فما الذي يعززه؟!.. وما هو هذا الشعور القومي الذي لايتفق أو يتسق مع علاقات لحمتها وسداها وحاضنتها هذه القيم الوطنية والقومية؟! .. حسب علمي يتكون الشعور القومي من لحظات وقيم مختلفة بينها الدين واللغة والتاريخ والثقافة.. الخ، فهل صار الشعور القومي في سورية متعارضا مع هذه القيم أو نافياً لها؟!. إذا كان الأمر كذلك ما هو هذا الشعور القومي الغريب؟ إنه بلا شك شعور من نوع غير مسبوق. حرام أن نقول عنه أنه شعور أو قومي، لأن وجوده دليل على موت الأمة وعلى فقدها أي نوع من الشعور السليم قومياً كان أم غير قومي. وللعلم فإن علاقات سورية ولبنان لن تقبل التصحيح على غيرالأسس التي أتت في الإعلان، شاء من شاء وأبى من أبى، وليس صحيحاً على الإطلاق أن هذه الأسس أضعفت الشعور القومي والصحيح أنها الوسيلة الوحيدة لإعادة إحيائه، وليس التنكر له وملاحقة بعض موقعيه غير قتل للشعور القومي في سورية ولبنان، بما أنه لم يعد هناك من وسيلة ـ بعد نجاحات سياسات البعث القومية المظفرة خلال السنوات الأربعين الماضية! ـ لإحياء الشعور القومي ويقظة العرب عبر إطلاق العمل الوحدوي من شراكة العرب في الدين واللغة والتاريخ والثقافة.. الخ، وللعلم فإنه باستثناء الأخوة في الأمن، لم يعد هناك بين العاملين في الشأن العام من العرب من يؤمن بالقسر والقهر سبيلاً إلى وحدة العرب، فلم يتنكر هؤلاء للحقائق الساطعة ويكابرون في المحسوس؟!. ولماذا وبأي حق يتهمون مثقفين يسعون إلى شق جديدة لوحدة العرب، بإضعاف شعورهم القومي، مع أنهم لا يراهنون إلا على إعادة إحيائه بعد أن قتله الاستبداد؟.
قال بعضهم: إن تزمن الإعلان مع قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1680 دليل قاطع على ارتباط موقعيه بالخارج، بالعدو الأمبريالي الصهيوني وبجماعة 14 شباط، يبدو أن هؤلاء من الذين يجهلون أن الأحداث المتزامنة لا تكون سببية بالضرورة، لأنها قد تكون بكل بساطة، من طبيعة متنافية. إذا كان هناك من يعتقد من هؤلاء أن أميركا وإسرائيل تؤيدان برنامجاً يصحح علاقات سورية ولبنان من منطلق التاريخ والدين والثقافة.. الخ، وكذلك الآمال والمطامح العربية الموجهة ضدهما تحديداً، فماذا يمكن أن نفعل كمثقفين لمساعدته، وهل يمكن لأحد مساعدته أصلاً؟ تريد أميركا علاقات عربية/ عربية تقوم على وجود قوي وضعيف، ظالم ومظلوم، مركز ومحيط لأن علاقات كهذه تنسف أية علاقة وطنية أو قومية بين العرب، وترفض أميركا وإسرائيل أي جهد قومي يرتكز على قيم ومطامح وأهداف شعبية وتاريخية شاملة لصعوبة اختراقها بسبب اتصالها بهوية وآمال المواطن العربي، يصح بعد هذا قلب الأمور رأساً على عقب والسعي إلى إقناعنا بأن أمريكا تريد علاقات سورية / لبنانية تنهض على الإخاء والندية والطوعية والجوامع المشتركة، روحية كانت أم مادية، وأنها ترفض علاقات التحكم والمافيات والقسر والقهر التي تخدمها؟ّ. إذا كانت أميركا تريد علاقات كالتي يسعى إليها الإعلان فهذا يعني أنها لم تعد أميركا التي نعرفها، فعلى من يضحك أخوتنا في الأمن، حين يزعمون أن إعلاناً هذه صفاته يخدم أميركا وإسرائيل، عدوتا أية مشتركات وجوامع عربية وطنية كانت أم قومية، ونصيرتا أية علاقات قسرية، لعلمهما أنها لن تخدم في نهاية الأمر، غير مصالحهما وأهدافهما، أنه لإهانة لعقل المواطن العربي ولضميره وللحقيقة أن يقول قائل: إن علاقة تقوم على قيم وثوابت الأمة والتاريخ تخدم الأمبريالية والصهيونية وتضر بسورية، علماً بأن علاقة كهذه لن تكون قابلة لأي اختراق خارجي، ولن تعزز أحداً غير سورية ولبنان، بينما لا تقوم سياسيات السيطرة والهيمنة إلا بفضل الخارج ودعمه وموافقته وللعلم، فإن عودة النظام السوري إلى لبنان على غير الأسس والثوابت التي يقرها الإعلان، ستكون مستحيلة دون تفاهم وتنسيق مع خارج، هو الخارج الأميركي في حالتنا، الذي سيرتب أموره، عندئذ على استنزاف طاقات سورية ولبنان، وتوظيفها في غير مكانها الصحيح، وإفشالها في نهاية المطاف، كما حدث بين عامي 1976 و 2005.
8) يقول تقرير الأمن: إن من وقعوا الإعلان سقطوا في فخ ما يسميه ((جماعة 14 شباط)) وأنهم وقعوا وثيقة أعدتها الجماعة المذكورة، فلنلق الآن نظرة على الأسماء الموقعة، في سورية ولبنان، لنرى إن كانت من الجماعة هناك، أو من الذين ينخدعون بالجماعات هنا، وما إذا كان اللبنانيون من أعداء سورية، كما قيل أكثر من مرة، لشديد الأسف، واللبنانيون والسوريون من خدام الخارج، كما زعم أكثر من مسؤول إعلامي في دمشق.
هل رياض الترك ود. صادق جلال العظم ود. طيب تيزيني والشاعرعلي كنعان والمفكر والفيلسوف برهان غليون والمخرج الكبير عمر أميرلاي والأساتذة أصلان عبد الكريم وياسين الحاج صالح وحسين العودات وحميد مرعي وعمر كوش، والرسام الكبير يوسف عبد لكي، والناشطة سهير الأتاسي والمخرجة المسرحية نائلة الأطرش، والخطاط الأشهر منير شعراني والكاتب الكبير رياض نجيب الريس وأستاذ علم الاجتماع الأشهر في جامعات بريطانية الدكتور عزيز العظمة والدكتورة فداء حوراني والكاتب الصحفي المتميز محمد علي الأتاسي والمحامي والوزير السابق عبد المجيد منجونة والشاعر والكاتب الكبير شوقي بغدادي والصناعي الريادي، رياض سيف والطبيب وليد البني والمحامي والكاتب حبيب عيسى والشيخ المثقف نواف البشير، والمحامي والمناضل القومي الناصري حسن عبد العظيم والمفكر الاشتراكي والقومي حمدان حمدان والكاتب الدكتور رضوان زيادة والمحامي خليل معتوق (على سبيل المثال لا الحصر) من خدام الخارج عموماً وجماعة 14 شباط خصوصاً؟. هل المثقفون والعاملون في الشأن العام وأساتذة الجامعة والفنانون والمسرحيون والكتاب والنقاد والشعراء والرسامون والناشرون والأطباء والمهندسون والفلاسفة والمحامون، الذين وقعوا الإعلان من الذين خدموا في أي يوم غير الفكر القومي والتقدمي والاشتراكي والديموقراطي، وعملوا بوحي قناعاتهم وضمائرهم كأحرار وكوطنيين، اختلفوا مع النظام، منذ سبعينات القرن الماضي، على الموقف من أميركا والاحتلال الإسرائيلي، وحول سبل التعامل معها وردعهما، ويختلفون معه اليوم أيضاً على قضايا جوهرية تتصل جميعها بالتقدم والتحرر العربيين، وليس بالموقف من هذه الجماعة أو تلك، سورية كانت أم لبنانية، إن اتهام هذه الرموز الثقافية والفكرية والسياسية بالعمالة لـ ((جماعة 14 شباط)) أو غيرها، وليس بينهم من قبض منها، أو من تعامل مع رموزها طيلة نيف وثلاثين عاماً، وليس منهم من تحالف معها واستقبل وجوهها وخصص لهم الشقق الفخمة والسيارات الفارهة، ووضع المرافقات والحراسات والفنادق والمطاعم الفاخرة تحت تصرفهم ، وحماهم وتحالف معهم وأغدق عليهم المدائح، على لسان المنافقين من إعلامييه الذين يتهمون موقعي الإعلان اليوم بالعمالة لهم؟.
لو تأملنا بعض من وقع الإعلان في لبنان، لوجدنا أنفسنا حيال مثقفين متنوعي المشارب يجمعهم حب سورية وإيمانهم بضرورة الأخوة معها كرابطة تضمها إلى لبنان، من غير المقبول أو المعقول هنا أيضاً اعتبار نضال الأشقر وكريم مروة وعاصم سلام ومحمد دكروب ومسعود ضاهر وفواز طرابلسي وجهاد الزين وحبيب صادق (صاحب كتاب ضد جماعة 14 شباط) ومحمد كشلي وعصام خليفة ويمنى الحاج وعباس بيضون ومحمود سويد وأحمد علي الزين وأنطوان حداد والياس خوري وعقل العويط ويوسف مرتضى وخالد حدادة…الخ، وهم من هم في عالم الثقافة والجامعات والإبداع الأدبي والمسرحي والشعري والصحافي، وفي عالم السياسة والقومية والعدالة والديموقراطية واليسار، ممن يعملون في الشأن العام وتشهد لهم بصداقة سورية علاقات بعضهم مع ممثليها، بمن فيهم حافظ الأسد، كما تشهد لهم مواقفهم بالاستقلالية وحرية الموقف والضمير، سواء حيال جماعة 14 شباط أم حيال سورية وأعدائها.
لو كنت محل النظام لدعوت هؤلاء إلى حوار مفتوح في دمشق، ولكرمتهم وأعلمتهم أن أهل النظام قرروا إسناد علاقات بلدهم مع لبنان عليهم وعلى أمثالهم من رجال الرأي والموقف، ولأحجمت عن توجيه أية تهمة أو إهانة إليهم، ولشكرتهم على اجتهادهم الموجود في الإعلان حول سبل استعادة علاقات بلدهم مع سورية وفق أسس لا تهتز ولا تقبل الاختراق، ولما اتهمتهم بالعداء لسورية، وزعمت أنهم يدعون إلى قصف دمشق، ولكرمتهم على غير الطريقة التي كنت أكرم بها أصدقائي من جماعة 14 شباط)).
في إضعاف الشعور القومي وإثارة النعرات الطائفية
سأتجاوز الآن المفارقة/ المهزلة التي تحصر تهمة ((إضعاف الشعور القومي)) بستة من موقعي الإعلان، وسأناقش لب التهمة وهي تسببي شخصياً في ((إضعاف الشعور القومي)) نتيجة توقيعي على إعلان بيروت / دمشق
ثمة معنيان محتملان لهذه التهمة فأنا إما أضعفت الشعور القومي للعرب في كل أرض وديار الأمة العربية، بين الخليج والمحيط، أو أنني أضعفت شعور السوريين القومي حصراً. في الحالة الأولى التي أستبعدها، سنكون حيال مبالغة كاريكاتورية تقول أن مواطناً عربياً اسمه ميشيل كيلو، لم يسمع به معظم الشعب العربي، وقع إعلاناً حول تصحيح العلاقات اللبنانية/ السورية، لو تعاملت السلطة معه بحكمة لما سمع به معظم السوريين، فإذا بشعور العرب القومي كأمة يضعف إلى درجة تجعل معاقبته كجان ومجرم واجبة أمنياً وقضائياً، أعتقد أن الاتهام الموجه إليّ لا يصل على سخفه، إلى هذه الدرجة من التهافت والتفاهة، لذا أستطيع القول بضمير مرتاح أن شعور أمتي القومي لم يضعف نتيجة توقيعي الإعلان.
هكذا، يبقى شعور السوريين القومي، الذي تعرف أجهزة الأمن وذيولها القضائية أنه ضعف بعد توقيعي الإعلان مباشرة، لذلك تستحق فعلتي الشائنة هذه في زمن الأخطار الأمبريالية والصهيونية، الاعتقال والمحاكمة والعقاب، فهل هذا صحيح.
1) إن القول بحد ذاته يعني أن أخوتنا في الأمن والقضاء لديهم قياسات كمية دقيقة وجاهزة للشعور القومي عند شعب سورية بأسره فرداً فرداً، تستند على أسس وروائز علمية، اجتماعية ونفسية، وتقتصر في جميع الأحوال وبطريقة مخبرية محض، على هذا الشعور دون غيره، الذي يضعف وحده، دون أن تتأثر مكوناته الكبيرة الاجتماعية والثقافية والروحية.. الخ، العامة والخاصة، مما أدى إلى إضعافه، وهو هنا إعلان بيروت ـ دمشق، الذي أضعف شعور السوريين القومي دون غيره من مشاعرهم، لأن هذا موجود عندهم بصورة صافية بنسبة مائة بالمائة، بعد نيف وأربعين عاماً من حكم قومي بعثي. في هذه الحالة أطالب بالأدلة والقياسات، التي تؤكد أن شعور السوريين القومي كان قبل توقيعي الإعلان أعلى منه بعده، وأن انخفاضه وضعفه يرجع إلى توقيعي الإعلان حصراً. أطالب بأدلة تثبت أن الشعور القومي كان في حال مرتفعة قبل التوقيع وصار بعده في حال ضعف وتراجع، لأنه بغير هذه الأدلة الكمية تصبح التهمة كلاماً مرسلاً على عواهنه لا يعبر عن الواقع بل عن هلوسات أجهزة ليست، في جميع الأحوال، أكثر الجهات حرصاً على شعور الشعب السوري القومي، ولا تعترف أصلاً بشعور كهذا إلا حين تستخدمه لاتهام ومعاقبة من تلاحقهم من المواطنين وإلى هذا، أطالب كي تطمئن نفسي بأدلة تبين أن الشعور لم يبق ضعيفاً أو أن المشرفين عليه تمكنوا من إعادته إلى وضعه الأصلي الممتاز.
بالمناسبة، أريد أن أعرف المواطنين الذين أضعف توقيعي الإعلان شعورهم القومي، هل هم مثلاً أكراد سورية المحروم قسم منهم من حقوق طبيعية متنوعة بينها جنسية البلد الذي ينتمون إليه ويدافعون عنه ويسهمون في بنائه، ويعانون من شكوك أمنية وسياسية تضعهم في خانة غير المخلصين للوطن؟ لا أعتقد، بكل صراحة، أن توقيعي الإعلان أضعف شعور هؤلاء الوطني أو القومي، كما لا أعتقد أنه أضعف شعور مليوني رفيق بعثي ينضوون في الحزب القائد، وتتحلق حولهم، كما يقول أعلام النظام ليل نهار، أغلبية السوريين الساحقة من رجال ونساء وأطفال وشيوخ، يلتزمون التزاماً مطلقاً بما يصدر إليهم من توجيهات وأوامر وإرشادات قيادية، علماً بأنهم أثبتوا التزامهم وطاعتهم المطلقة، وإلا لما قبلوا تحويل البعث من رسالة إلى حزب، ومن مشروع تاريخي قومي نهضوي موعود إلى مشروع سلطوي تشبه بنيته وسياساته بقية مشاريع العرب السلطوية، غير القومية وغير النهضوية، التي ظهرت وتوطدت في كل مكان من أرض العرب، بعد هزيمة حزيران والمشروع الناصري، القومي والوحدوي والنهضوي حقاً، هزيمة قال عد الناصر بعدها: ((من يفشل في حماية وطنه لايكون مؤهل لبناء مشروع نهضوي كبير وحقيقي)). وأعلن رغبته في الاستقالة، ورد النظام في سورية عليها بسلسلة صراعات داخلية انتهت بانقلاب حوله إلى مشروع قطري/ سلطوي، شمولي لا يستر حقيقته أو يخفيها اتهام نقاده من تقدميين وديموقراطيين ووحدويين بإضعاف الشعور القومي أو غير ذلك من ترهات وأباطيل. والآن إذا كان توقيعي الإعلان لم يضعف شعور الأكراد والبعثيين القومي، فمن تراه أضعفه لدى النساء والأطفال، أم لدى الشباب العاطل عن العمل في سورية، والمهاجر هرباً من ظروف العيش خارجها، أم لدى الشيوخ والمتقاعدين أم لدى ربات البيوت الغارقات في هموم العيش وتأمين لقمة لأسرهن في زمن تضخم وإفقار وبطالة وفساد لايعرف الرحمة؟!.
يقول المثل: مجنون يحكي وعاقل يفهم. يقول العاقل في حالتنا أن شعور السوريين القومي في سورية البعث على أفضل حال، وأنه عصي على الإضعاف، مادام القطر في أيدي مناضلين أشاوس، يحاربون الأمبريالية والصهيونية دون هوادة، ويعبرون عن أعمق أماني وتطلعات الشعب وكل فرد فيه، لذلك سيخيب فأل من يحاولون إضعاف الشعور القومي في سورية، لأن الشعب لن يتفاعل معهم، مهما بلغوا من الخبث واستخدموا من خدع، في هذا المنطق، لايخاف النظام أي جهد يستهدف التماهي المطلق بين السلطة والشعب، خاصة في المسألتين الوطنية والقومية. يطالب العاقل (النظام) المجنون (المعارض) أن يفهم هذا ويصدقه ويتقيد به، وإلا كان مصيره الخيبة والعزلة عن الشعب والسجن، فما بال العاقل ينقض مزاعمه ويدعي أن توقيعي على صك قومي ووطني وتقدمي وديموقراطي بامتياز، ومعاد للأمبريالية والصهيونية وللاحتلال، أضعف شعوراً قومياً لايقبل الإضعاف، أقله لأن ضعفه يعني أن هنالك قوى وجهات تستطيع التأثير فيه، وهو ما تنكره السلطة وإعلامها، وتؤكد عكسه بألف لهجة ولسان، على مدار ساعات اليوم الأربعة وعشرين!
إذا كان الشعور القومي في سورية عصياً على الإضعاف، لماذا يتهمونني بإضعافه؟!.. وإذا كنت قد أضعفته حقاً، أين أدلتكم التي تثبت ذلك لي، لا تقوضوا في الحالة الأولى مزاعمكم، وتسيئوا في الثانية. إلى مصداقيتكم كحزب قومي تقولون أن بينه وبين شعبه عروة وثقى لا تنفصم، ليس بوسع أحد زعزعتها أو فكها.
هل من المنطقي أو المقبول في ظل خطاب كهذا، اتهام أي شخص بإضعاف الشعور القومي، لمجرد أنه وقع إعلاناً. ياللبؤس!.
موقفي من الشعور القومي والنعرات الطائفية
أزعم أنني لم أفعل في حياتي ما من شأنه إضعاف الشعور القومي في بلدي أنا الذي تركت الحزب الشيوعي عام 1958 بسبب موقفه من وحدة مصر وسورية، وعملت دوماً ومنذ مرحلة مبكرة في ستينات القرن الماضي، للتوفيق نظرياً وعملياً بين الاشتراكية والوحدة، والماركسية والمسألة القومية في الواقع العربي، لاعتقادي أن وحدة العرب هي رافعة الاشتراكية وليس العكس، كما اعتقد الحزب الشيوعي، الستاليني النزعة آنذاك، وقلت دوماً وكتبت أن وحدة العرب مهمة لا تقبل التعطيل أو التأجيل، ورافعة لا بديل لها لنهضة العرب، وأكدت ذلك في دراسات كثيرة خلال نصف القرن الماضي، اعتبر بعضها تجديداً مهماً في الفكرين القومي والماركسي، الذي كنت وما أزال من المؤمنين بقدرته على فهم الواقع، وأرسيت نظرتي إليه وترجمتي له على أفكار جوهرية منها:
1) عدم وجود أي تعارض بين الاشتراكية والديموقراطية، بل وجود تلازم بينهما، ووجود تلازم مماثل بين الوحدة العربية والديموقراطية، مادامت الحركة القومية هي التي عممت، لأول مرة في التاريخ، قيم المواطنة ومفاهيم حقوق الإنسان والمشاركة والحرية الشخصية والفردية والحقيقية، إنني عارضت نظام البعث لأنه فصل المسألة القومية عن المبدأ الديموقراطي، مثلما عارضت الحزب الشيوعي لأنهم فصلوا المسألة الاجتماعية عن هذا المبدأ، الأمر الذي أقام في الحالتين تعارضاً مبدئياً بين تكوينات متلازمة/ متكاملة مثل الطبقة والمواطن، الأمة والمواطن، الدولة والسلطة، المجتمع والدولة، وحوّل الأمة إلى أقنوم مجرد لايقبل الوجود في الواقع، وتالياً إلى عقبة كأداء في وجه الوحدة العربية، وألغى في الوقت نفسه وجود المواطن والإنسان، وأبطله عبر سياسات وأفكار جعلت قيام الدولة الحديثة ضرباً من الاستحالة، بما أنها قامت على استبعاده عن الشأن العام وأنكرت حقوقه الأساسية، وأقامت تعارضاً غير قابل للجسر بين السلطة وبينه، وبين الأمة والفرد، وزعمت أن للأمة حقوقاً مقدسة، مجردة قدر ما هي مطلقة، يعطي بلوغها الفرد والمواطن كل ما هي بحاجة إليها من حريات وحقوق. بسبب هذه النظرة الخاطئة، وصلت سورية إلى ماهي عليه اليوم من أوضاع تسودها سلطة أممت الدولة والمجتمع، أقلعت منذ وقت طويل عن رؤية نفسها بدلالتهما، واعتمدت معياراً وحيداً هي التعامل مع أي شأن، قومياً كان أم قطرياً، انطلاقاً من مصالحها الخاصة باعتبارها مصالح الدولة والأمة والمجتمع والمواطنين في آن معاً، بينما الأصل والصواب أن ترى نفسها بدلالة هذه التكوينات ودلالة مصالحها وطموحاتها، لهذا السبب الجوهري، من غير المنطقي أن تتهم سلطة كهذه أي مواطن بإضعاف شعور قومي قامت هي ووطدت نفسها من خلال تقويضه، وأحلت محله روابط مادون قومية، قطرية وحزبية ومحلية وشخصية، أوهنت ما كان قائماً في المجتمع من شعور جامع وأفكار وتصورات مشتركة. يلفت النظر في هذا السياق أن يرفض نظام، يصف نفسه بالقومي، إعلاناً يقوم على هذه الجوامع والمشتركات، وأن يتخذ موقفاً صريحاً يرى في الصراع بينهما صراع قوميين ضد انفصاليين، وطنيين ضد خونة، أعداء الأمبريالية وعملاء لها، متجاهلاً جوانبه التمزيقية التدميرية، التي لن تفيد في نهاية المطاف غير الأمبريالية والصهيونية والخونة والعملاء. وللعلم فإنه من غير الجائز ترك هذا الموضوع دون ملاحظة مهمة هي أن احداً في سورية أو خارجها، بعثياً كان أم غير بعثي، لايعتبر البعث الراهن مشروعاً قومياً أو نهضوياً.
2) انطلاقاً من إيماني بالتوافق بين حدي المشروع النهضوي العربي، أعني الوحدة والديموقراطية، ساهمت في تأسيس حراك مدني في سورية، عبر عن نفسه في مبادرات ((لجان إحياء المجتمع المدني)) التي سبقت بقية الحراك المدني العربي الحديث إلى طرح رؤية متقدمة ومتكاملة للخروج من المأزق الذي زجنا فيه نمط السلطة الشمولية السائد، محلياً وعربياً، وقد لعبت دوراً في تلمس رؤية حددت دور ومهام المثقف العربي الحديث الديموقراطي والوطني والقومي والتقدمي، الذي ليس مثقف سلطة بل مثقف مجتمع، تأثر بها مثقفو الأقطار العربية الأخرى، من مصر إلى الخليج ومن العراق إلى السودان قامت على نقد الواقع السياسي والحزبي القائم، في سورية وخارجها، ورمت إلى تأسيس أرضية فكرية/ ثقافية/ معرفية تصلح لإعادة تأسيس المشروع النهضوي العربي، الذي لعبت السلطة السورية وغيرها من سلطات عربية دوراً خطيراً في وأده وإفشاله، وقد بلورت وزملائي مكونات أولية مهمة لهذه الأرضية، عبرت عن نفسها في مقولات فلسفية/ فكرية منها مقولة لأرسطو تعرف الإنسان كـ ((ذات حرة وجديرة بالحرية، بغض النظر عن تعييناتها الموضوعية)) ومقولة لماركس تعتبر المجتمع المدني ((مجتمع مواطنين أحراراً ومتساوين)). بهاتين المقولتين وما تعلمناه من تراث الفكر الإنساني العربي وغير العربي، تلمسنا سبل تخطي الاحتجاز السياسي الذي نعاني منه، والذي انتهى إلى إحلال الحزب محل المجتمع، والسلطة محل الدولة وتعيينات الإنسان الموضوعية محل ماهيته، المتمثلة بالحرية كخصيصة يفقد الإنسان صفته بدونها، ثم وفي حال انتهاكها، وقد رددنا الاعتبار انطلاقاً من تعريف الإنسان هذا، للمجتمع المدني والدولة، ورأينا تجربة بلادنا الحزبية والسياسية بدلالتهما وفي ضوء ما قدمته لها من خدمات، وتوصلنا إلى أن الحزب تكوين جزئي والدولة تكوين عام فلا يجوز له السيطرة عليها وإلا شوهها وأجهض هويتها كتكوين عام وشامل ومجرد يخص جميع المواطنين دون استثناء، وعليه الخضوع لها بدل إخضاعها له، والانضواء فيها بدل حذفها لصالح هيمنته وواحديته، كما عليه الخضوع لأولياتها العامة بدل إخضاعها لأولياته الجزئية، والآن هل يضعف تأسيس الشأن العام والسياسة على المواطن باعتباره ذات حرة في الوقت نفسه، والمجتمع المدني بما هو مجتمع مواطنين أحراراً ومتساوين شعور السوريين القومي ويثير نعراتهم الطائفية؟. وهل القول بتساوي الناس جميعاً في الحرية، وتالياً القانون، وأمامه، وفي المواطنة وعلى أرضيتها، بغض النظر عن انتماءاتهم ومذاهبهم وأوضاعهم الاجتماعية والطبقية، مما يضعف شعورهم القومي ويثير نعراتهم الطائفية؟ وهل رد الاعتبار للإنسان، الغائب الأكبر عن فكر البعث وممارسات سلطته، وإبراز الحرية كمعيار يؤسس لمساواة البشر مما يضعف شعوره بقضاياه ويحرك لديه نوازع وغرائز بهيمية كالنعرات الطائفية؟!. لو راجعنا فلسفات العالم الحديث السياسية جميعها لوجدناها مؤسسة على أولية الإنسان والمجتمع المدني في علاقتهما بالدولة والسلطة، ولعلمنا أن أوليتهما هي السبيل الذي يحول دون حلول حزب محل المجتمع، وسلطة محل الحزب، وشخص صاحب السلطة محل كل شيء.فهل يضعف الشعور القومي وتثار النعرات الطائفية إذا نحن طالبنا بتصحيح هذه العلاقة المشوهة، وبإيقافها على أقدامها بدل وقوفها على رأسها، وبالاعتراف بالحرية والمجتمعية كأرضية وحيدة للشأن العام، وحاضنة يجب أن ينضوي المواطن فيها، لأنه لن يجد في حال انتفائها ما ينضوي فيه غير مشاعر ما قبل وطنية/ ماقبل قومية، أهمها الشعور الطائفي، الذي وقفت عمري، ككثيرين غيري من ديموقراطيي ووحدويي هذا البلد، على محاربته، وقلت في مقالات ولقاءات كثيرة أنني على استعداد للتضحية بحياتي من أجل منع إثارته في وطني، وأنني لا أرى في مواطني منتسبين إلى طوائف، بل بشراً متساوين في الحرية وأمام القانون، ولابد أن يكونوا متساوين في الثروة والمعرفة والسلطة، تعبر عقائدهم ومذاهبهم الشخصية عن ثراء مجتمعنا، ولايجوز أن تكون عوامل فرقة وانقسام ونعرات، من أي نوع كان، دعوني أخبركم الآن أنني كتبت في شباط من عام 2000 مسودة وثيقة للمجتمع المدني صدرت تحت عنوان ((التوافقات)) أو عقد وطني/ اجتماعي جديد)) قلت فيها: لسنا طوائف ولسنا فرقاً أو مزقاً أو زمراً أو عصباً أو قبائل، نحن شعب واحد متلاحم موحد، ينتمي أبناؤه إلى مذاهب وأديان وعقائد مختلفة تخصهم كأشخاص وتعبر عن تنوعهم، وعن غنى أفكارهم وأرواحهم، وعن وحدتهم، ومن يقرأ مقالة ((نعوات سورية)) أنني أختمها بجملة تقول ((يجب أن نصلي على محمد علي في جامع القرداحة، وعلى علي محمد في جامع العجان باللاذقية)) وأضفت أن أمورنا لن تستقيم بغير هذا.
3) كتبت في آب من عام 2000، بعد شهرين من غياب المرحوم حافظ الأسد، سلسلة من أربع مقالات جعلت لها عنواناً مشتركاً هو ((سورية مهمات تنتظر حلولاً)) نشرت بين 23 و 26 آب في جريدة ((النهار)) قدمت فيها تحليلاً لوضع البلد من مختلف جوانبه، وتلمست انطلاقاً منه رؤية جديدة لسياسات المعارضة والنظام، وقلت بعد تشخيص ضاف للمشكلات بضرورة سحب شعار إسقاط النظام والأخذ بسياسة بديلة تقوم على المشتركات والجوامع الوطنية، التي يجب أن يتقاسمها جميع أبناء الوطن، أكانوا في السلطة أم في المعارضة، لأن الإصلاح سيكون، بغير هذا، ضرباً من المحال، مادام غير ممكن دون النظام أو ضد إرادته، ولأنه لا مفر من وجود مساحات مشتركة بيننا وبينه يمكن بواسطتها تهدئة الوضع الداخلي وضبطه، وبعث الطمأنينة لدى السلطة، اللازمة لتشجيعها على الشروع بالإصلاح والتغيير والضرورية لتقريبنا منها وتقريبها منا، انطلاقاً من أهداف تجمعنا معها وتتعين عبر حوار هادئ وعقلاني يقوم بينها وبيننا، أوليته حل مشكلات البلاد المتراكمة والمتفاقمة، التي سيقربنا التصدي المشترك والمتوافق عليه لها بعضنا من بعض، وسيحولنا، إن سار كل شيء على ما يرام وخلصت النوايا، إلى جسدية سياسية ووطنية واحدة، ستخرج البلد من بلاياها، وستحميها في آن معاً، من خطر الخارج وتحدياته ومخاطر الداخل ومعضلاته، وإلا سقط البلد، وسقطنا جميعاً، سلطة ومعارضة، على أن تتسم علاقاتنا وحواراتنا بالسلمية والديموقراطية وتكون دون عنف من جانبنا وقمع من جانب النظام.
وبالفعل، سحبت المعارضة شعارات وسياسات إسقاط النظام، وأحلت محله أولوية حل مشكلات البلد، على أن يتم ذلك في إطار جديد هو مصالحة وطنية عامة، تشمل جميع أطياف العمل السياسي، وتحقق إصلاحاً تفضل المعارضة أن يكون سياسياً، لكنها تقبل به من أي ميدان بدأ، كي لا تصطدم بالنظام وتصاب البلد بمزيد من الضعف، وتسقط كما سقط العراق ونخسر جميعاً كل ما لدينا، أخيراً بلغ الأمر حداً من الرغبة في تشجيع النظام على الإصلاح جعلني أعلن وأكتب أكثر من مرة أنني لن أعتبر نفسي معارضاً، بمجرد أن يقلع الإصلاح، وينصب على تغيير علاقات الداخل السوري، ويمهد للمشاركة الشعبية ويقر حريات المواطنين العامة ويرفع قبضته الأمنية عن أعناق العباد وعنق البلاد، مهما كانت بدايات سياساته هذه تدرجية وجزئية.
السؤال الآن: هل يضعف هذا الجهد والدور الشعور القومي ويثير نعرات طائفية لدى السوريين؟!. وهل القول بأن تغيير السلطة لم يعد هدفاً، ما دامت تستمد شرعيتها من الإصلاح، بعد أن تبخرت شرعية الوحدة والحرية والاشتراكية تحت وطأة سياساتها وأخطائها، وتعتمد في تدابيرها على مصالحة وطنية وبداية سياسة جديدة، توافقية وجامعة ومنفتحة على الشعب والديموقراطية.
في الحقبة الثالثة، شاركت في جميع أنواع الأنشطة الرسمية التي دعيت إليها من أجهزة الإعلام، وقبلت جميع الدعوات التي وجهت إليّ للحوار أو لمناقشة موضوعات راهنة، وشاركت في أنشطة ((مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة)) وقدمت إسهامات قيل أنها مهمة حول السياسات الأميركية تجاه المنطقة وسبل مواجهتها، كما شاركت في ((لجنة الحرية والديموقراطية)) التي تشكلت في إطار البعث وكلفت بإعداد بعض الأفكار والبدائل لمؤتمره الذي انعقد في حزيران عام 2005، وعملت كمستشار للجنة وقدمت وزملائي ورقة متكاملة حول سبل وممكنات التحول الديموقراطي وجداوله الزمنية الممكنة ومهامه ومراحله المحتملة، ثم وجهت رسالة مفتوحة إلى مؤتمر الحزب قلت فيها أن الإصلاح غايتنا جميعاً، وأن إصلاح البعث ضروري ومطلوب، لأن البلد سيكون بخير إذا كان هو بخير، وقدمت تصوراً تفصيلياً حول المرحلة وما تتطلبه من سياسات وبدائل فهل يضعف هذا أيضاً الشعور القومي ويثير النعرات الطائفية؟!. وهل يضعفه ويثيره مقال كتبته تحت عنوان ((محظوران)) ظهر بعد تلك الفترة بقليل أقول فيه: إن النظام الحالي سيء، لكنه أحسن من الاحتلال الأجنبي والفوضى الداخلية، وأنني لن أقبل بديلاً عنه غير البديل الديموقراطي، وما دام هذا ليس متاحاً في المدى المنظور، فإنني سأدعم النظام ضد الخارج والفوضى، وسأدافع عنه بينما أعمل لإنضاج البديل المنشود. لم يلاحظ العقل القمعي، الذي يسمى خطأ ((العقل الأمني)) أن المعارضة غيرت سياساتها، وأنها سحبت شعار إسقاط النظام، الذي رفعته طيلة ثلاثين عاماً، وقالت بالمصالحة مع النظام في اللحظة عينها التي طرحت أميركا فيها مهمة إسقاطه وأعلنت عزمها على التخلص منه.
يا لبؤس من لم يفهم أهمية ومعنى هذه الخطوة الفائقة الخطورة، وواصل ملاحقة المعارضين بحجة كلمة هنا وتوقيع هناك، كما واصل اتهامهم في وطنيتهم، بل واتهامهم بإضعاف الشعور القومي وإثارة النعرات الطائفية!!.
أسباب ضعف الشعور القومي
في المضمون:
إذا كان الشعور القومي لشعب عروبي بامتياز كشعب سوريا قد تعرض للإضعاف، فلا بد أن يكون إضعافه نتيجة جملة معقدة من الوقائع والسياسات والتجارب، ترتبت على أنشطة مؤسسات متحكمة وقوى منظمة، استأثرت بالقرار وبتنفيذه طيلة نيف وأربعين عاماً، هي تحديداً مؤسسات وقوى السلطة، ولم تترتب على توقيعي بياناً أو إعلاناً، ذلك انه من غير المنطقي والمقبول القول أن الشعور القومي المتفق مع سياساتها والمعبر عن صحتها، كما تقول، قد ضعف بسبب فعل هامشي تجسده مقالة كتبها هذا المواطن وتصريح أفضى به ذاك، بينما بقي أثر هذه المؤسسات والقوى إيجابياً على الدوام بالنسبة إلى شعور الشعب القومي، رغم الوقائع والحقائق التالية:
1) فشل البعث في تحقيق أي شعار من شعاراته المعلنة، فالوحدة لم تتحقق أو تقترب من التحقق وحل محلها صراع عبثي وقاتل بين جناحي الحزب في دمشق وبغداد، ووضع سورية والعراق في مواجهة غير مسبوقة في تاريخ أي بلدين عربيين جارين، جعل مجرد الحديث عن بعث العراق جريمة يعاقب عليها القانون، بينما تكرست قطرية مؤدلجة، اعتبرت تقدمية وثورية، مزقت المشرق شر ممزق، وضعت السوري في مواجهة جيرانه وجعلته يرى في وحدة العرب غاية بعيدة المنال. تباعدت باضطراد وتناءت عن واقعه، وكان قبل 8 آذار مؤمناً أشد الإيمان بدوره فيها وبقرب وإمكانية تحقيقها، رغم الانفصال عام 1961. هل هناك حاجة إلى الحديث عن الاشتراكية والحرية؟!.
إن الحديث عنها يعني حصراً الحديث عن تحقق عكسها في سورية المسكينة، التي عاشت خلال نصف القرن الماضي على الخيبات.
2) وجود أزمة وطنية مستعصية تتمثل في بقاء الجولان محتلاً من قبل العدو الإسرائيلي طيلة أربعين عاماً ونيف، تناءت خلالها قضيته وإمكانية استعادته حرباً أو سلماً، في حين غرقت السياسات السورية لشديد الأسف، في مسائل فرعية كثيرة غير قضيته، القضية الوطنية المركزية، التي يجب أن يكرس لها جهد يبلور جميع سياسات سورية، بدلالة تحريرها كأولية مطلقة، ثمة مسألة وطنية تبدو حاضرة في لغة السلطة أكثر مما هي حاضرة في سياساتها العملية، التي أخطأت كثيراً حين اعتبرت السلام خياراً استراتيجياً دون أن يعتبر العدو الإسرائيلي بالمقابل الانسحاب من الجولان خياره الاستراتيجي، واليوم، لابد من خروج سورية من مأزق العجز عن الحرب والسلام، مأزق العجز عن استعادة الأرض الوطنية المحتلة، عبر الشروع في مقاومة الاحتلال تحتذي بنهج ((حزب الله)) وتحقق نتائج كالتي أنجزها.
3) وجود أزمة سياسية عميقة نتجت في اعتقادي، عن تصدع استراتيجية أرادت تحويل سورية إلى مركز سياسي / أمني للمشرق، بالتفاهم مع الدولتين العظميين، أميركا والاتحاد السوفياتي، سعى النظام إليها بعد خروج مصر من الصراع ضد إسرائيل، وبعد نشوب الحرب العراقية/ الإيرانية. ومع أن النظام طور استراتيجية بديلة، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ونشوب انتفاضة فلسطين الأولى وفشله في احتواء لبنان وخروج العراق منتصراً من حربه مع إيران، قامت على خوض مواجهات غير مباشرة مع العدو، وعلى الإمساك بأوراق إقليمية وعربية تعزز مكانته عند واشنطن، لكن هذه الاستراتيجية ما بثت أن تهاوت في الآونة الأخيرة، مع خروجه من لبنان وابتعاد حزب الله عن حدود الجنوب مع العدو، وتأسيس منطقة عازلة هناك، والعجز عن فتح معركة في الجولان، وتراجع الحلف السعودي/ السوري، وضعف المحور المصري/ السعودي/ السوري، وخروج النظام مؤخراً منه، وهذا كله استتبع تقارباً سورياً مع إيران، ثم في ظرف عربي مناوئ لها، وظرف دولي يحاصرها ويفرض عليها عقوبات بموافقة جميع الدول الكبرى، بما في ذلك روسيا والصين، تقارب يختلف عن تلك العلاقة التي أقامها الأسد الأب مع طهران، وكانت سورية دولة مركزية جداً فيها، تحتاج إيران إليها أكثر مما تحتاج هي إلى إيران، في حين تواجه طهران خطر ضربات أميركية إن نجحت في إضعافها، فإنها لن تزعزع السلطة فيها وحدها، بل ستزعزع السلطة في دمشق أيضاً، الأمر الذي يوضح أن البديل الإيراني ليس خياراً ناجعاً، وانه من الضروري تطوير سياسات تتركز على المجالين الداخلي والعربي، الوطني والقومي، لأنه لم يعد هناك أي بديل خارجي يستطيع موازنة وتحييد القوة الأميركية في المجال الدولي، التي يرجح أن لا توجد في المدى المنظور دولة تستطيع تحييدها وشل عدوانيتها، أكان اسمها روسيا أم الصين، أن من الحيوي لأمن سورية واستقلالها. ولأمن واستقلال العرب، أن تكون أوضاعنا الوطنية والقومية منطلق استراتيجية جديدة تستند على قيم ومصالح تؤمن بها أوروبا، وخاصة منها المحور الفرنسي / الألماني، كما أن غياب هذا البديل يضعف سورية ويحمل خطر تحولها إلى ورقة في يد الخارج، بما في ذلك إيران، ورقة ثمينة جداً لكنها مجرد ورقة.
4) وجود مسألة اجتماعية تتظاهر في أزمات متنوعة، من مظاهرها المحزنة:
ـ تأخر سورية وتخلفها، حيث تنتج بشعبها الذي يقارب عدده الملايين العشرين حوالي 60% مما تنتجه تونس المتأخرة بملايينها الإثني عشرة وأكثر بـ 20% مما ينتجه لبنان بملايينه الأربعة.
ـ توزيع للدخل الوطني مختل جداً وظالم، يعطي 50% من الدخل إلى 5% من السكان، و30% منه لـ 30% من الشعب (الطبقات الوسطى) وحوالي 20% لما تبقى، أي 65% من السوريين (القوى العاملة التي تقول الشعارات أن يدها هي اليد العليا في دولة البعث) وللعلم، فإن هذه النسب إلى انخفاض في أسفل السلم وارتفاع في أعلاه.
ـ بطالة تطال 70% من شباب سورية المحرومين من أي حق من حقوق المشاركة في الشأن العام رغم أن 79% من الشعب السوري شباب تقل أعمارهم عن 34 سنة، لا توليهم سياسات الدولة أي اهتمام خاص، ولاتعتبرهم هدف سياساتها الرئيس، رغم أن معظمهم مهمشين لايجدون اليوم ولن يجدوا في المستقبل أي عمل، بقول الخبراء: أن حجم البطالة يتعدى 30% من حجم قوة العمل، ويقول بعضهم أنها تصل إلى أكثر من 40%، إذا ما حسبنا مختلف أشكال البطالة وهي كثيرة، وقد كنت أنا مضعف الشعور القومي ومثير النعرات الطائفية، أول من لفت الأنظار إلى خطورة هذه الظاهرة، وأول من اقترح (عام 2000) تأسيس مجلس وطني للتشغيل، ومن بين أبعاد مشكلة البطالة، عندما اثبت بالأرقام أن تشغيل العاطلين الحاليين سيكلف الدولة حوالي 65 مليار دولار خلال عشرة أعوام، بحساب تكلفة منخفض لتشغيل اليد العاملة الواحدة وهي عشرة آلاف دولار أميركي (تقول إحصاءات الأمم المتحدة أنها تكلف 20 ألف دولار) علماً بأن 2.5 مليون وليد جديد سيرون نور الحياة في هذه الأعوام العشرة، بحيث لا يوجد غير خيارين مرين: تشغيل العاطلين الحاليين وإهمال من سيأتون إلى الدنيا خلال العقد القادم، أو تشغيل هؤلاء وإهمال العاطلين الحاليين، وللعلم فإن هيئة مكافحة البطالة التي تأسست بمرسوم جمهوري عام 2003، فشلت في مكافحتها أو وقف توسعها، وهي تنشر أرقاماً تبعث على اليأس مع أنها تعتبر من يعمل أقل من ساعة أسبوعياً في عداد غير العاطلين عن العمل.
ـ تدني إنتاجية العامل والموظف الذي يشتغل حسب مقالة نشرتها جريدة البعث عام 2001 قرابة 32 دقيقة في اليوم، فإذا أضفنا إلى هذا تأخر سن العمل وقصره، وتأخر أساليبه وتقنياته، وتصريحات وزير الاقتصاد السابق الدكتور غسان الرفاعي في مناسبات ثلاث، وفيها يؤكد أن الأموال المهربة إلى خارج القطر تتراوح بين مائة ومائة وخمسة وعشرين مليار دولار أميركي، وهذا مبلغ خرافي يعادل إنتاج البلد لستة أعوام، وتدني مستوى دخول السوريين وأجورهم، ووجود فجوة هائلة بين الأغنياء والفقراء، أدركنا معنى المأساة التي تعيشها سورية اقتصادياً، ولماذا تصعب تنميتها، إذا كان معظم شعبها لاينتج ولايدخر ولا يستهلك (تحصل القوى العاملة عندنا على أقل من 20% من الإنتاج الاجتماعي، وفي البلدان الرأسمالية المتقدمة على 65 إلى 70% منه) بينما بلغ التضخم عام 2006، حسب اقتصاديين وأساتذة جامعة سوريين نيفاً و 21.8% ويعتقد هؤلاء أنه سيبلغ في العام الحالي 40%، وهذه سابقة لا مثيل لها في تاريخ بلادنا، ستؤدي إلى انهيار عام في سعر قوة العمل والعملة والقدرة الشرائية للمواطنين، بينما سيتعاظم الفقر، رغم أن من يعيشون تحت خط الفقر يكاد يبلغ نصف عدد سكان القطر السعيد.
5) وجود أزمة خيارات وسلوك، تتجلى في حقيقة أن أي إصلاح سيؤدي إلى اختلالات في أوضاع النظام، قد تبدأ من الداخل، كما حدث في تجارب مماثلة، أو ستؤدي حتماً إلى نهايته كنظام أيديولوجي سيجد نفسه مجبراً على التخلي عن الوصفات الأيديولوجية التي قام عليها وبفضلها، وانتهت صلاحيتها مع تحوله إلى نظام وظيفي لن يجد حلولاً لمشكلاته عندها، وسيضطر إلى البحث عن بدائل لها لدى نظم أخرى، لا تتفق معها أو مع بنيته الراهنة، علماً بأنه سيأخذ هذه البدائل عن نظم لا تشبهه، ستستغل حاجته إلى التغيير كي تدفع به إلى تبني خيارات وأنماط من الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية ذات أثر سلبي على بنيته السياسية، من هنا يمكن القول أن العون الذي ستمده به، والوسائل التي ستعيره إياها كي يحدث نفسه ستتكفل بتقويضه وبجعل نمط حكمه متقادماً ومتهالكاً، بينما يريد هو منها أن تعيد إنتاجه حاضنة دولية متغيرة، دون أن تحدث فيه تبدلات جدية الأمر الذي سيضعه بين نارين: التمسك بواقعه الراهن الذي سيضعه في مواجهة أخطار لاقبل له بها وسيغربه أكثر فاكثر عن العالم وسيعزله عن تطوره أو الاستعانة بالخارج الذي يطالبه بالتخلي عن هذا الواقع، وتالياً بتبدل جذري يجريه طوعياً وإلا وجد نفسه مجبراً على إجرائه كرهاً.
6) وجود أزمات تعليم وصحة وخدمات وتقدم وثقافة وإدارة، وضمير، فالفساد لم يعد قابلاً للهزيمة في الشروط السياسية الراهنة، مع أنه يأكل الأخضر واليابس، ولعلنا نجد خير تعبير عن واقع الحال في ما قاله مسؤول بعثي كبير في فرع دمشق للحزب، عندما تسائل: هل هذا حزب الفقراء وفلسطين الذي انتسبنا إليه في خمسينات القرن الماضي؟! أين الفقراء بين رفاقنا في القيادة، الذين صاروا أثرياء وفاسدين حتى الصف الثالث!
7) وجود أزمة في العلاقة مع الشعب مع أزمة مشاركة ومواطنة، ترجع إلى قيام السلطة على أسس مغايرة لتلك التي تقوم عليها الدول والمجتمعات الحديثة حيث المواطنة حجر أساس النظام والحياة العامة، وأرضية وحاضنة المساواة وحكم القانون والحداثة والتنمية، والاختيار الحر طريقة التعبير عن آمال الشعب ودوره ومصالحه وهنا، في هذا الصعيد، سوريا بلد غريب عن العصر، يبذل نظامه جهداً يائساً لتحقيق معجزة لم تعد تتفق مع العصر هي قيام السلطة بإنتاج المجتمع على هواها وبما يناسب حاجاتها، وتالياً على صورتها ومثالها، أن على من يحب وطنه حقاً أن يعمل على توقيف نظامه على قدميه، أي على إنتاجه بدلالة المجتمع وليس العكس، وذلك سبيله المواطنة وحقوق الإنسان وحكم القانون كسيد وحيد في الدولة والمشاركة الشعبية والاختيار الحر، لأن تقدم البشر يقاس بحريتهم ولايقاس بأي معيار آخر.السؤال الآن: أليست هذه المشكلات والأزمات سبباً كافياً لإضعاف الشعور القومي لدى السوريين؟!. أليس من المفهوم أن لا يكون لدى المواطن سليب الحقوق، الفقير والمهمش سياسياً واجتماعياً، والخاضع لمعاملة تمييزية لا تقر له بأي وجود مستقل أو حق مكتسب، بما في ذلك حقوقه التي يعتبرها الدستور مقدسة كحق العمل، القدرة على الصمود في وجه الويلات والمصائب التي تنهال عليه ليل نهار، وتؤدي إلى إضعاف شعوره القومي ورغبته في العيش، وأن تدفع به دفعاً إلى جميع أنواع السلبيات: من ضعف إحساسه بقيمة الحياة إلى كره نفسه ومواطنيه ووطنه!.
هذه هي الأسباب التي تضعف شعور السوريين القومي، إن توقيعي إعلان بيروت/ دمشق ليس بينها، وكيف يكون بينها إذا كان هدف الإعلان إنقاذ ما يمكن إنقاذه من علاقات البلدين والشعبين وتكريس قيم وسياسات تخرجها من الاحتجاز، الذي سجنتهما فيه سياسات خاطئة ومصالح جزئية سيطرت عليهما خلال حقبة غير قصيرة.
في الشكل
تقول المادة 285 من قانون العقوبات ما يلي: ((يعاقب بالاعتقال المؤقت من قام في سورية في زمن الحرب أو توقع نشوبها بدعاوى ترمي إلى إضعاف الشعور القومي وإثارة النعرات القومية والمذهبية)).
إنها تتحدث عن زمن الحرب، وهذا في القانون والدستور يتصل بقرار من مجلس الوزراء أو رئيس الجمهورية يعلن الحرب بصورة رسمية، كما يتصل بإعلان التعبئة التامة والنفير العام، مع ما يصاحب ذلك من تدابير رسمية تجعل القرار والإعلام نافذين قانونيا. ونحن لسنا في زمن حرب، لسنا في زمن إعلان حرب أو نفير عام، بل في زمن سلم، يؤكد وجوده آلاف التصريحات الرئاسية التي ترى في السلام خياراً استراتيجياً لارجعة عنه. وكانت قد أكدت أكثر من مرة في أواسط سبعينات وثمانينات وتسعينيات القرن الماضي أن حرب تشرين هي آخر الحروب بين سوريا وإسرائيل وهو أمر أكده الواقع، فسوريا وإسرائيل بقيت في حالة سلام أمر واقع منذ فصل القوات عام 1974، لم يعكرها أي حادث أو صدام مسلح، على الحدود أو وراءها، عدا ما استهدف بعض المواقع الفلسطينية المزعومة كهجوم طيران العدو على ((عين الصاحب)) الذي بقي دون رد من أي نوع، أذكر بهذه المناسبة أنني كتبت مقالة في مجلة ((الشاهد)) اللبنانية تحت عنوان ((هل إسرائيل مستعدة للسلام)) انتقدت فيها استراتيجية السلام كخيار استراتيجي، إذا لم تتلازم مع استراتيجية إسرائيلية مقابلة تقول أن الانسحاب من الجولان خيار استراتيجي إسرائيلي. بعد هذه المقالة الطويلة قيل لي أن أحدهم وضعها على طاولة وزير الخارجية يومذاك (1992) الأستاذ فاروق الشرع الذي قرأها وصرح مرة أن الانسحاب يجب أن يكون خيار إسرائيل الاستراتيجي. ثم كفى الله المؤمنين شر القتال.
ليست سورية، للأسف الشديد، في حالة حرب مع إسرائيل، وهي لا تقوم بأي شيء من شأنه هز الاستقرار القائم على حدود أراضيها المحتلة، كما أن فصل القوات يتناقض مع الاستعداد للحرب لأن من غير المنطقي أن تفصل قواتك عن قوات عدو يحتل أراضيك إذا كنت حقاً تريد تحريرها بالقوة، ومن غير المجدي بالنسبة لهدف التحرير أن يكون بينك وبينها رقابة دولية ومناطق عازلة متنوعة الوظائف، تمنعك من حشد قوات كافية لشن عمل عسكري تحريري حقيقي. لذلك يعتبر نشوب حرب مع العدو أمراً مستبعداً بمبادرة سورية، كما تؤكد تصريحات المسؤولين اليومية فضلاً عن تصريحات الإسرائيليين هذا إذا لم نتجاهل واقعة مريرة هي أن ميزان القوى رجح كثيراً لصالح العدو، منذ دخلت سورية إلى لبنان، وأن الواقع الميداني يجعل من أي عمل عسكري سوري مغامرة محفوفة بأوخم العواقب، وإلا فليقل لي أحد لماذا سكنت الجبهة السورية منذ عام 1974 اقتصر الضغط العسكري والقتال ضد العدو على جبهة جنوب لبنان، عبر ((حزب الله)) وبعد عام 1982 إن النظام يعتقد ـ وربما كان على حق ـ أن رد إسرائيل على عمليات في الجولان سيكون شاملاً وأنه قد يهدد وجوده بينما يقتصر رده في لبنان على عمليات محدودة، مهما كانت واسعة، خاصة بعد تجربة عام 1982، التي وجد نفسه مجبراً على الانسحاب بعدها إلى جنوب لبنان. بعد أن كانت قد أوصلته إلى بيروت.
هل سيكون النظام قادراً على القيام بعمليات محدودة في الجولان. أو على خوض حرب شاملة من أجل تحريره؟! إنني آمل هذا من كل قلبي، وسأدعمه بكل قواي، من السجن أو من خارجه. إلى أن يحدث هذا لا أكون من الذين أضعفوا الشعور القومي لأن نظام بلدي لا يحارب ولا يستطيع أن يحارب، أقله إلى نهاية هذا العقد كما تزعم تقديرات عسكرية خبيرة، دولية وإقليمية ومحلية، وأقله لأن بلدي منخرط في نزاعات فرعية كثيرة تكبل يديه وتمنعه من الدخول في صراع مصيري لا هزل فيه يهدد وجوده!.
في الشكل: لم أضعف الشعور القومي، لأن نظام بلدي لا يحارب العدو، ولا يعلن حالة الحرب أو التعبئة العامة.
ماذا فعلت كمعارض من أجل حماية الوطن
1) قلت أنني لعبت دوراً ما في سحب شعار إسقاط النظام وفي إحلال سياسات المصالحة محله، لحظة اعتمدت أميركا سياسة أرادت التخلص منه. وقلت أن المعارضة فعلت هذا بعد نضال استمر نيف وثلاثين عاماً، ناضلت خلالها ضد نظام أقوى بكثير من النظام الراهن، تمتع بدعم دولي وإقليمي وداخلي يفتقد النظام الحالي إليه، أليس وطنية، بل منتهى الوطنية، أن تقوم المعارضة التي أنا منها، بهذا في اللحظة التي صار بوسعنا فيها الحصول على دعم دولي فائق الأهمية، لو قررت استغلاله لكان حال النظام اليوم أسوأ بكثير من حاله الراهن، ولكان عانى في ظله الأمرين من وجود ودعم خارجي استراتيجي لخطط الداخل، ودعم داخلي فائق الحساسية لبرامج وأهداف الخارج؟!
2) حين طرح النظام (وعد الإصلاح) كان رأيي كمعارض أن تحقيق الإصلاح لن يكون بالأمر السهل أو اليسير، لأن النظام يخشى تحوله من نظام أيديولوجي إلى نظام وظيفي مغاير، ولأنه يخاف أن ينهار تحت وطأة تناقضاته وضغط الحاجات والتحديات الداخلية التي ستستهدفه.
هنا أيضاً، لم تستغل المعارضة هذه اللحظة الفائقة الحرج، التي كانت ستحمل تهديدات خطيرة لو ربطتها بضغوط الخارج ومطالبه وسياساته، بل أعلنت استعدادها لتقديم دعم غير محدد لأي نوع من الإصلاح يقوم به، دون أن تطرح الملفات والمسائل التي تهدد السلطة أو تحرض الرأي العام عليها، ويمكن أن تحرجها إلى أبعد حد، كل ما طلبته المعارضة هو أن يكون الإصلاح الجزئي والمتدرج والآمن والبطيء والمدروس، كما وصفته في مقالة النهار جدياً وأن يتواصل، ويتم بتوافق قوى وأطياف السياسة السورية، وإن بشكل متدرج أيضاً، وان تشارك فيه كل واحدة من موقعها، بالتكامل والتساند والتوجه المشترك. فعلت المعارضة هذا كي يطمئن النظام إلى داخله، ويقتنع أنها لن تستغل المآزق الصعبة التي يمر بها، وكي يبقى الداخل السوري هادئاً وآمناً وغير قابل للاختراق، فهل هناك من وطنية تفوق هذه الوطنية؟!.
3) عندما تمت صياغة ((إعلان دمشق)) قلنا أن مشكلات سورية ستحل بأيدي أبنائها. في ذلك الوقت بالذات، كانت أميركا تنتظر صدور ولو صوت داخلي واحد يعلن استعداده للتعاون معها أو للانفتاح عليها، كي تسانده وتشن هجوماً عاماً ضد النظام. فهل إغلاق الداخل السوري أمامها لا يعبر عن أصفى وأرقى أشكال الوطنية؟! وهل القول بحل عبر الحوار السلمي والديموقراطي مع السلطة يعزز الخارج أم يعززها هي؟. وهل اعتقال المعارضين فعل من أفعال الوطنية أم هو حماقة ويمكن أن تصير وخيمة النتائج، بالنسبة للبلد بأسره؟!
مرة أخرى، يا لغباء الحسابات السلطوية قصيرة النفس والنظر، ضيقة الصدر، التي لا ترى أبعد من أنفها. وتتجاهل هذه الحقائق الاستراتيجية، التي تعتبر في أي مكان آخر إنجازات وطنية من طراز رفيع، ويالغباء التشكيك في المعارضة، على الطالعة والنازلة، والطعن في وطنيتها ونزاهتها، بلغة سخيفة قدر ما هي فارغة وركيكة.
أخيراً
إن قضيتي، مهما لفق الملفقون وزوّر المزورون هي قضية حرية وحقوق إنسان، وقضية تستهدف الخط الديموقراطي العقلاني، الحواري والسلمي والخلاق والوطني والقومي والتقدمي والشعبي، الخط الذي يمثل نافذة أمل بالنسبة إلى النظام، وقوة دعم بالنسبة إلى قواه الإصلاحية، بهذا المعنى ليس استهدافي أمراً يقتصر عليّ شخصياً. بل هو استهداف أيضاً لأوساط تتجاوزني، في الدولة والسلطة والمجتمع.. والأيام بيننا.
يقول الفلاسفة: إن تبدلاً حدث في موقع الإنسان من العالم، خلال القرن الماضي وما شهده من ثورات علمية وروحية، قلبت مكانه منه وبدلته، فبعد أن كان الإنسان من صنع التاريخ، صار التاريخ من صنعه، وبعد أن كان نتاج العالم، صار العالم نتاجه، وبعد أن كان زمانه يتكون أساساً من الماضي، صار المستقبل مكون زمنه الرئيس. في هذه النظرة، لم يعد أحد يرى الإنسان بدلالة العالم، بل صار العالم يُرى بدلالة الإنسان الفرد، الذي تتوقف فاعليته الإنسانية على ما يتمتع به من حرية، بما أن معنى الحرية تبدل ولم تعد أمراً روحياً معنوياً، بل صارت قوة منتجة، يتصل بدرجتها ووجودها ثراء الدول والبلدان، بكلام آخر: إن اضطهاد الإنسان، في حالتنا مواطن الدولة، وقمعه وكبت حريته يعد جريمة بحقه، وحق الدولة التي تمارسه، ربما أن تقدم الدول والمجتمعات صار يقاس بالمعيار الأرسطي الذي يعرف الإنسان كذات حرة وجديرة بالحرية. ولا يرى مهمة للدولة غير تنمية حريته وما يتفرع عنها من علم وظروف عمل وشروط عيش وقوانين، فإن حداثة أية دولة صارت تقاس بما تفعله في هذا الصدد.
في ضوء هذا المستجد الانقلابي، أود لفت أنظاركم، سادتي القضاة، سيدتي قاضية النيابة، إلى أن الحكم الذي ستصدرونه عليّ، أنا الذي يعيش حريته حتى في السجن، ويحيا في عالم روحي/ فكري أكثر نظافة وغنى بكثير من عالمه الخارجي، وخاصة منه عالم الاستبداد والقسر والإقصاء والتمييز الرسمي، الذي تفرضه عليّ كمواطن وكإنسان، مذكرة أمنية حولتني إلى ((المدعو ميشيل كيلو)) أي إلى نكرة بلا اسم ولا صفة، وجعلت مني بالتزوير والبهتان، ما لست هو: نصيراً لما تسميه ((جماعة 14 شباط)) في لبنان، متجاهلة أنني في الدولة مواطن له حقوق، على رأسها حقه في اسم يسبقه لقب سيد، وفي النوع إنسان حر تتكثف فيه أفضل قيم وعلاقات مجتمعه وعصره، لكوني مثقف مرجعيته الحقيقة ورهانه الحرية، وفي المجتمع فرد ورب أسرة وصاحب رأي يحب مواطنيه ووطنه ويخدمها بنزاهته، دون منة ودون فساد أو إفساد، ودون ركض أعمى وأحمق وراء مصالح ذاتية أو خاصة، يعتبر نفسه منطقة محررة لا تنتمي إلى الحال السائد وإلى أخلاقياته وصغائره، بل تنتسب إلى وعي وتصميم إلى نقيضه وبديله إلى وطن لن أقلع عن العمل كي يصير مواطنيه أحراراً ومنتجين، يرفضون أي قسر يمارس عليهم، ويصنعون مصيرهم بأيديهم وبملء حريتهم، ويعرفون كيف يحافظون على كرامة شعبهم وأمتهم والإنسانية عبر الحفاظ على كرامتهم الشخصية وذواتهم الحرة.
لست المدعو ميشيل كيلو، نصير((14 شباط)) أنا الإنسان والمواطن الحر ميشال بن حنا كيلو وغالية عوض، الذي ليس نصير أية جماعة في لبنان أو سورية، وليس نصير أي حزب قائد أو منقاد وأية ثورة، سواء أكلت وطنها أم أكلت ناسها، لأنني نصير وطني الصغير سورية ووطني العربي الكبير، ونصير كل مواطن فيهما، نصير الحرية والديموقراطية: خيار العصر وضرورة الحاضر والمستقبل، كما يؤكد انهيار نظم الإرهاب الستالينية في روسيا وشرق أوروبا وملحقاتهما ونظم التبعية لأميركا في أمريكا اللاتينية، بقوة الحرية والديموقراطية وإرادة شعوب وأجيال ترفض أن يقتلها الاستبداد الداخلي والقهر والنهب الخارجي، وترفض أن تكون فرصتها الوحيدة في الحياة والموت كمداً تحت وطأة الفقر وانعدام فرص العيش والبطالة والتمييز والعنف والقمع، والكذب والنفاق!.
أنا الإنسان والمواطن الحر ميشيل كيلو، الذي يعبر، حباً بسوريا وبالعرب، عن إصراره على خط المصالحة الوطنية والتوافق في بلده، رغم التجربة المرة مع النظام الاستبدادي/ القمعي، لأن المصالحة والتوافق ضروريان لحماية الوطن والشعب والأمة في الداخل والخارج، من القمع والفساد الداخلي ومن الاحتلال الخارجي، كما أعلن تمسكي بسياسة ((اليد الممدودة والعقل المفتوح)) تجاه النظام التي كنت من أوائل من قالوا بها. وإذا كنت أكرر اليوم هذا فليس خوفاً من السجن أو القمع (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا)، بل لإيماني الراسخ بأن المرحلة تضمر أخطاراً جسيمة إلى درجة يعجز النظام والمعارضة عن التصدي لها كل بمفرده، تحتم الوطنية مواجهتها بجهود مشتركة متوافق عليها ومعلنة وتحظى بدعم الشعب والمواطنين، وإلا ضاعت البلاد في واحدة من الصفقات التي قد يعقدها النظام من اجل إنقاذ نفسه، وسط إصراره الغريب العجيب على التلاعب بتناقضات سورية الداخلية، التي تضعف دولتها ومجتمعها، وعلى الانفراد بالمجال السياسي والعام، رغم أن وطننا مهدد بأخطار داهمة، داخلية وخارجية، بل وقد يكون هدفاً لضربات عسكرية معادية لا ترحم، قد توجه إليه في أي وقت، من اليوم فصاعداً.
ختاماً، أنا مجرد مثقف يجبره الانهيار العربي العام على الاهتمام بالشأن العام، ولست سياسياً بأي معنى من معاني الكلمة، بل مواطن يهتم بالشأن العام لأسباب روحية وضميرية تقلقني. كما تقلق النخب المثقفة العربية في كل مكان، ترجع إلى انهيار ما كنت أؤمن به وأعمل من أجله، مع جيلي كله، من أحزاب وأيديولوجيات وزعامات، وإلى كون ((الثورة العربية)) أو ما عرف بذلك، أعادت إنتاج الوضع الذي تمردت عليه ووعدت بتغييره إلى الأحسن ولكن في طبعة أسوأ بكثير من تلك التي كانت ترفضها، والآن، هل التجزئة العربية والانفصال العربي أضعف اليوم ما كانا عليه قبل ((الثورة القومية)) البعثية وغير البعثية؟. وهل توزيع الثروة أكثر عدالة والتفاوت الاجتماعي والظلم والاستغلال أقل منها اليوم عما كانت عليه قبل الثورة الاشتراكية ((والقومية المزعومة؟!)) وهل حال الحرية أفضل اليوم عنه قبل أربعين عاماً ونيف، عندما كانت الحرية وعداً في أهداف وشعارات البعث والشيوعية، فصارت كابوساً قاتلاً يزهق روح الأمة والمواطن، في واقع البشر الحي والمعاش؟!.
وهل الأسس التي تنهض عليها حياة الدولة العامة والفرد الخاصة، وحياة المجتمع وعمل السلطة، تخلو اليوم من الشوائب والتشوهات الموروثة عن الحقبة الاستعمارية، أم أنها ازدادت تشوهاً وانحرافاً بفعل ضرب من استعمار داخلي حولها إلى أداة قتل لروح الأمة والوطن والإنسان؟!.
إنني لا أسعى إلى أية مصلحة خاصة، من أي نوع كان، لو كنت أسعى إلى مصالحي لتعاونت مع النظام وصرت مليونيراً أو مسؤولاً ككثير من المنافقين والتافهين، لكنني لست والله منافقاً أو تافهاً، لذلك أعلن عزوفي اليوم وفي أي زمن آخر عن أخذ أي موقع في أي مكان من السلطة أو الدولة، وتمسكي بأن يكون لي دور أكيد في إصلاح أوضاع بلدي ومؤسساته وسياساته بصورة سلمية وعقلانية، قلت في مقالة النهار (آب عام 2000) أنها يجب أن تكون تدرجية ومدروسة وآمنة وبطيئة ومتوافق عليها، كي لا تفزع حيتان السلطة وأفاعيها!.
هذا الدور الذي يمليه عليَّ حبي لأمتي ووطني، وواجبي تجاههما سيتواصل بإذن الله، فهو واجب لا يعتذر عن القيام به، ولا تطلب المغفرة أو العفو من أحد بسبب تأديته، وهو سيستمر بإذن الواحد الأحد، حتى في السجن، إلا إذا أقنعني أحد ما، أو أقنعت نفسي، أنا الذي يرى عمله بعين النقد القلقة ولا يراه بعين الكمال المطمئنة، أنه خطأ، وهو أمر مستبعد، كما أعتقد.
بقيت ملاحظتان:
1) أريد أن أشكر من أعماق روحي كل من تضامن معي لأسباب تتصل بحرية الإنسان وبالديموقراطية، أكان من مواطني العالم الواسع أم من مواطني البلدان العربية عامة وسورية خاصة. وأخص بالذكر مثقفي بلدي والعرب الأحرار والنقديين والديموقراطيين والنهضويين والتنويرية، أكانوا من العلماء أم الإسلاميين، العرب أم غيرهم من الكرد والبربر والزنوج. هؤلاء أهلي وأخوتي، وإليهم انتمائي، وبهم وبدورهم وتضامنهم اعتزازي، وإنني لأدعوهم، من منبر هذه المحكمة إلى تعزيز وتنشيط حضورهم في الشأن العام، وتكثيف جهودهم من أجل ثقافة بديلة، تقع خارج السائد وتفضحه، وتحمل مشروعاً نهضوياً جديداً هو مناط الرجاء، وموئل الأمل، اليوم وغداً، أود أن أذكر هنا بوعورة الدرب وكثرة الصعاب، لكنني أود أن أبرز كذلك أن إرادة الحرية وحب الوطن أقوى من أي شيء، خاصة إذا كان هدفهما تحرير البشر والأوطان من الظلم والقمع، وتحصينهما ضد مطامع وأخطار الخارج، في زمن فاصل وحاسم هو زمن سقوط للشعوب والأمم أو نهوض نهائي لها.
2) أود أن أدين بشدة عودة الطائفية إلى الساحة اللبنانية باعتبارها حاضنة العمل والعلم والحياة الخاصة فيها، وكنت آمل ككثيرين غيري، أن تكون نخبه السياسية قد تعلمت دروس قرن كامل من الأزمات والحروب الأهلية، وفهمت أن الأوطان لايجوز أن تكون مداجن للفرقة والتمييز والطائفية، وأنها لا تستمر ولا تعيش بالمحاصصات الفئوية والحسابات التمييزية والأنانية، وأن مافي لبنان من حرية قاد، بسبب حاضنته الطائفية إلى الفوضى والهلاك، مرة بعد أخرى، وأن من الضروري اليوم بناء ديموقراطية تنفي الطائفية وتلغيها، وإلا فإن لبنان لن ينجو، ستكون مشكلته مع نفسه أكبر بكثير من مشكلاته مع أية قوى خارجه، وسيبقى ملعباً للآخرين وللقوى الداخلية التي لا تريده وطناً، بل مدجنة للامتيازات والعداوات والمشاكل.
يبدو، لأسفي الشديد، أن نخب لبنان السياسية لم تفهم هذا الدرس، وأنها تراهن من جديد على نسخة محدثة، ومدعومة من الخارج الأجنبي بمختلف أنواعه، من النظام الطائفي، وأنها لم تفهم بعد معنى أن يكون بلدها منارة للحرية والديموقراطية وحكم القانون والمواطنة في منطقة يستطيع أن يكون نموذجه الديموقراطي مستقبلها، وأنها لا تفكر بغير مصالحها الضيقة، التي تحتقر، وبل وتقتل القيم الإنسانية والمعاني النهضوية وتقصيها عن فكر ودوافع الإنسان والمواطن اللبناني. وهكذا، بدل أن يسهم تغيير حقيقي تعيشه لبنان الخارج من الكوارث المحلية والعربية والدولية، في التغيير العربي، توطد المحاصصات الطائفية نظم الاستبداد العربية وتعزز الواقع العربي الذي يتربص بلبنان، وتقوي كل ما هو بائس ومدان في حياة العرب السياسية والعامة، على صعيد السلطة والمجتمع والدولة والفرد.
عاشت سورية وطناً لجميع أبنائها المتساوين في الحقوق والواجبات.
عاشت دولتها العادلة التي هي دولة جميع مواطنيها، عاشت الديموقراطية، عاشت الحرية، عاش الشعب، عاشت الأمة.
ميشيل كيلو 7/5/2007