الدافع العاجل لإثارة الموضوع ما يبدو من حالات الإحباط المتزايد بين شبيبة لبنان وقواه الحية من مهنيين ومثقفين وخريجين، وما يرافق ذلك من هجرة، بعضها ربما من النوع الموقت إلى منطقة الخليج لكن بعضه الآخر يتجه إلى مغتربات شبه نهائية مثل الولايات المتحدة وكندا واوستراليا والتي تقود كلها حملة ترويج واسعة النطاق لتوطين الكفايات والإغناء المتواصل لتركيبتها السكانية.
إن جو الاستنفار السياسي القائم في البلد ليس جوا صحيا لأنه لا يتم في سياق معركة سياسية طبيعية بل في إطار مأزق وطني عميق وأفق ملبد بالمخاطر، ولهذه الحال تأثيرها الهدام على الروح المعنوية للناس الذين شاركوا ربما في التحشدات المتوالية لحركة 14 آذار لكنهم بعد ذلك وفي الوقت الضائع بين تحشدين ينزلقون بهدوء إلى مستنقع الانتظار القلق للتطورات السياسية فيما يستمر بحثهم في الوقت نفسه عن سبل العيش الكريم ومواجهة المشقات المتزايدة للحياة.
هذا الوضع يكشف ربما عن فجوة متزايدة بين انتفاضة الاستقلال وجمهورها، وكذلك بين المطامح السياسية للانتفاضة وقدرة المؤسسات والتكوينات المشاركة فيها على تجاوز الصراع السياسي الصرف إلى الشروع في البناء الحثيث على الأرض لمجتمع الاستقلال وشرائعه وقيمه الجديدة. وقد أظهرت التجارب الأخيرة ان الاستقلال لا يمكن تحقيقه فقط عبر المؤسسات السياسية بل من طريق ترسيخ قواعده في المجتمع المدني ومؤسساته وتعزيز ثقافة الديموقراطية وحكم القانون والدمج الوطني. وأظهرت التجربة أيضا أهمية توظيف الحيوية الهائلة للشباب اللبناني في العمل المباشر ونقلهم بالتالي من هامش الانتظار إلى ميدان المشاركة باعتبارهم أول المعنيين بنجاح المشروع السياسي الشامل للحركة الاستقلالية.
إن في لبنان اليوم جبهات واسعة لترجمة مشروع الاستقلال ومضامينه في مجالات مثل مسألة الحريات وقانون الانتخاب وتنظيم قيام الأحزاب والجمعيات والإعلام وحقوق الإنسان والقضاء النزيه والتسامح السياسي والديني والتعليم العصري وحماية البيئة والتراث والاهتمام بنوعية الحياة وباستمرارية القرية وإعادة تخطيط النشاطات الزراعية والإدارة المحلية ومواجهة الفساد المستشري والاحتكارات وترقية الخدمات العامة والمبادرات المدنية وحماية الضعفاء… وكل هذه المجالات ومثلها الكثير هي الساحة الحقيقية لترجمة شعار “أحب الحياة” الذي كان عنوان حملة وطنية واسعة، كما أنها الجواب الأقوى والأمضى – وبقوة المثال – على المقترح الآخر الذي باستثناء الأهداف السياسية الآنية في تعطيل المشروع الاستقلالي لا يملك أي رؤية للمستقبل يمكن أن تنافس هذا المشروع وبالتالي تستحق ثقة اللبنانيين.
كل هذه المسائل لم تبرز حتى الآن وبصورة كافية ومنهجية في العمل اليومي لحركة 14 آذار بل نجدها مغيبة إلى حد ما ومهملة بسبب التركيز الوحيد الجانب (غير الاضطراري!) على المناوشات السياسية اليومية. وهذه الفجوة في العمل المباشر يتم سدها ولحسن الحظ من قبل مجموعة متزايدة من منظمات المجتمع المدني المستقلة والتي تشكل أكبر دليل على الحيوية الفريدة للمجتمع اللبناني وخصوصا فئة الشباب، لكنها تؤكد في الوقت نفسه حجم الحاجات الحقيقية وساحات المبادرة المهملة من قبل المشروع الاستقلالي.
ومشكلتنا في لبنان هي ان الجميع يريد أن يشتغل بالسياسة بمعناها المرادف لإدارة المعركة السياسية فيكون بذلك جزءا من “الطليعة” ويبقى بالتالي في دائرة الضوء المسلط على “الفعل” السياسي، في المقابل فإن القليل من كادرات بل وقيادات الحركات السياسية يثمن كما يجب الأهمية الكبرى للعمل الاجتماعي وللمبادرات المدنية في تكوين الأساس القيمي والثقافي المعاصر للبنان الجديد الذي نرفع أعلامه على الشرفات وفي الساحات العامة، بل إن العديد من تلك الكادرات تعوزه ربما الخبرة في تنظيم وقيادة المبادرات القاعدية والتي تمثل إلى حد ما الجبهة الأهم للصراع المصيري الدائر.
بكلام آخر إن التركيز الوحيد الجانب على الصعيد السياسي لمعركة الاستقلال، والتقصير المستمر في سد الثغرات الكبيرة في المبادرات المدنية يمثل انتقاصا من قيمة 14 آذار ومن الأبعاد التقدمية والمعاصرة لانتفاضة الاستقلال وطاقتها التغييرية الكامنة خصوصا إذا أخذ في الاعتبار المشاعر الوثابة والمبادرات الخلاقة التي ولدت في قلب الجموع اللبنانية من دون أي توجيه أو وصاية. وبينما تبدو الخطوط الأمامية لمعركة الاستقلال والديموقراطية مزدحمة بالاجتماعات والسجالات ومعارك اثبات الوجود في هذا الاتحاد أو ذاك أو في تلك النقابة المهنية أو تلك فإن الخطوط الخلفية على معظم الجبهات التي أعطينا أمثلة عليها تبدو متروكة بصورة تدعو إلى القلق. والكلام حول جمود الحركية السياسية للتيار الاستقلالي يأتي بعد سنتين من خروج القوات السورية وبعد أكثر من سنة ونصف على تشكيل حكومة الرئيس السنيورة وفوز تحالف 14 آذار بالأكثرية المطلقة في البرلمان.
لا أحد ينكر بالطبع أهمية وجود سلطة سياسية متجانسة وفعالة في ظل استمرار الطابع المركزي للإدارة السياسية في لبنان، لكن المجتمع اللبناني بات يحتوي في المقابل على قدر كبير من اللامركزية ومساحات القرار والعمل الأكثر قربا من الناس وحاجاتهم اليومية. في الوقت نفسه فإن حركة 14 آذار، وبغض النظر عن كونها في موقع السلطة أو كونها ضحية للشلل السياسي، تهيمن عمليا على مئات البلديات والأقضية والمدن والحواضر الرئيسية في البلاد، كما أنها تمتلك وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة والموراد التنظيمية وإن ليس بالضرورة الخبرات اللازمة للعمل. بالتالي فإنه لا توجد في الحقيقة معوقات جدية تمنع الحركة الاستقلالية من المبادرة في كل الاتجاهات سوى عدم وجود إرادة أو وضوح سياسي بهذا الشأن. علما أن الردّ الحاسم على استراتيجية الاستنزاف وتطويل الأزمة السياسية من قبل المعارضة لا يكون عبر المواجهة الرتيبة للسجال بالسجال (هذا الفخ المنصوب بعناية) بل بعدم إضاعة الوقت وخلق أمر واقع وطني ونهضوي جديد على الأرض عبر العمل المباشر ساعة بساعة ويوما بيوم. بل إن 14 آذار تحتاج ربما للتعلم بكثير من التواضع من المبادرات المهمة والخلاقة لمؤسسات المجتمع المدني وأن تضع برنامجا للتلاقي مع تلك المبادرات ودعمها من دون التدخل الفوقي في اندفاعها أو التأثير في منطلقاتها المستقلة والعفوية.
إن منظمات المجتمع المدني وما يمكن لقوى 14 آذار أن تحفز قيامه من مبادرات ومنظمات مستقلة ومكملة ستكون في الحقيقة القوى الأهم على الأرض في مشروع بناء لبنان النموذج وتمنيع الاستقلال والكيان الوطني، وما لم يتم التحالف الحقيقي بين القوى السياسية للتيار الاستقلالي وقوى ومنظمات المجتمع المدني المستقلة فإننا قد نفوّت فرصة تاريخية حقيقية لإحداث تغيير ديموقراطي في المجتمع اللبناني لأننا سنجد أنفسنا في النهاية مع حركة سياسية “قيادية” لكن من دون قوى كافية عاملة على الأرض ومن جهة ثانية أمام قوى إجتماعية فعلية على الارض لكن عاجزة عن تحويل مبادرتها إلى فعل تغييري بسبب “هامشيتها” وغياب الدعم السياسي. والتحدي هنا هو القدرة على بلورة تحالف “سياسي – مدني” يوحده برنامج تغييري واضح الأهداف ويكون بذلك الرافعة الحقيقية لتعميم ثقافة الديموقراطية والمبادرة في ما يتعدى بنية السلطة والأحزاب وقيودها.
عندما نتحدث عن الدمج الوطني مثلا فإن المفترض دعم هذا الشعار بمبادرات حقيقية تستهدف التقريب بين الكادرات النشطة في الحركات السياسية المكونة لـ 14 آذار، وكذلك العديد من الحركات السياسية المستقلة الأخرى. ولا يوجد رد على قوى التفتيت أو الطرح الطائفي غير توطيد أواصر عضوية على مستوى القاعدة بين قوى الاستقلال وإحداث المزيد من المشاركة والتوادد والتقارب وروابط الثقة بين جمهور اللبنانيين ومن دون أي تمييز. وعندما نتحدث عن الشفافية أو الحكم الرشيد أو حماية البيئة أو الصحة العامة أو المستهلك فإنه لا شيء يمنع ترجمة هذه الأهداف في نطاق البيئة المجتمعية التي تشرف عليها قوى 14 آذار لكن على هذه القوى في تلك الحال أن تبدأ ودون مزيد من الانتظار في تطوير بناها الوسيطة والتعلم من الآخرين والتحلي بروح الخدمة والتواضع للناس واستبدال الثرثرة السياسية بالإنجاز على الأرض.
ولا ننسى إن حركة 14 آذار تضم تحالفا عريضا وغير متجانس، وبعض مكونات هذه الحركة من السياسيين قد يتفقون مع أهدافها الوطنية الملحة لكنهم ليسوا بالضرورة “قوة تغيير” في ما يتعدى الأهداف السياسية الآنية، وبهذا المعنى فإن على “النواة الصلبة” أو التقدمية في 14 آذار وبالإضافة لامتلاكها برنامجا للحكم أن تمتلك برنامجا موازيا للمبادرة السياسية على مستوى المجتمع المدني ومؤسساته، لان هذه الحركة التاريخية كما يجب أن نتذكر انطلقت في الاساس ليس من مستوى المنظمات الحزبية بل كانتفاضة شعبية عارمة ومن دون أي قسط يذكر من التنظيم.
أكثر من ذلك إن أفق ممارسة السلطة ولمدة طويلة من تحالف تهيمن عليه حركة 14 آذار قد تكون له سلبياته أيضا على إنتاجية الحركة الاستقلالية – الديموقراطية لأنه قد يساهم في إغراقها في مستنقع البيروقراطية واستنزاف حيويتها عبر المناوشات اليومية وضرورات التسوية في أي مشروع حكم بشكل عام، ومثل هذا الاحتمال قد ينتهي بتمديد الواقع الموروث في الحكومة وأجهزة الدولة وتأخير الأجندة الإصلاحية كما حدث غالبا في السابق فيتم لنا الاستقلال على مستوى البنية السياسية للدولة لكننا في المقابل لا نربح الديموقراطية وهي المضمون المرادف الذي يحمي الاستقلال.
وفي هذه الحال يتعين على الحركة الاستقلالية التعويض عن بطء دورة الإصلاحات بتعزيز آليات الديموقراطية المباشرة والتشجيع على تصليب عود المجتمع المدني والمنظمات غير السياسية وقيام الأخيرة بدور “تأسيسي” في الحياة السياسية الجديدة وعملية الإصلاح واستكمال المشروع المدني سواء عبر العمل “من الداخل” أو عبر الضغط والنصح من الخارج وبشتى الأساليب.
خلاصة القول إن أمام حركة 14 آذار مهمات هائلة يجب منذ الآن تنسيقها وتحديد أولياتها ووسائل السير بها في مختلف الظروف. أمامها ببساطة أن تتحول من تكوين سياسي “قيادي” إلى حركة نهضة سياسية واجتماعية عبر استقطابها للنخبة الحقيقية في البلد وهي النخبة التي – يجب الاعتراف بذلك – ما زال معظمها يقع خارج أطر 14 آذار. وقد يكون في إطلاق مثل هذه الديناميكية أفضل توكيد على الأهلية السياسية لقيادة الاستقلال الثاني وافضل وسيلة تدعو من خلالها طوابير الشباب المهاجرين إلى دور فعلي يعيد إليهم ايضا الثقة بالمستقبل ويستبدل سمات الهجرة التي يسعون إليها بدور يجعل منهم مجددا لاعبين حقيقيين ومواطنين فخورين ببلدهم وبما يقدمونه إليه في مرحلة حرجة وتكوينية من تاريخه.
(قضايا النهار)