لم يكن تنصّل حزب العدالة والتنمية التركي عن تعهده بعدم المساس بالعلمانية وراء حيرة أغلبية الأتراك في الأسبوعين الماضيين، إنما موقف أوربا وأمريكا المؤيد لترشيح الإسلاميين وزير خارجيتهم (جول) إلى منصب رئاسة الجمهورية الذي يعتبره الأتراك رمزاً للعلمانية!
عام 2002 سمحت الظروف السياسية المتداعية لحزب العدالة والتنمية الديني بالفوز بأغلبية تتيح له تشكيل الوزارة. وبدل اللجوء إلى حكومة تتسم بروح الإتلاف، شكل الفائزون الجدد حكومة الحزب الواحد، وتعهد رئيسها (أردوغان) بعدم تغيير النظام العلماني. لكنه الآن، أي بعد أقل من خمس سنوات، يهدد بتغيير الدستور لترشيح إسلامي لمنصب رئاسة الجمهورية، فيعيد إلى أذهان الأتراك الشكوك والمخاوف من إمكانية العودة إلى فترة الحكم الديني (الخلافة) الذي حوّل تركيا إلى دولة استعمارية ذات تخوم إمبراطورية دينية، انتهت بالدمار ووضعت تركيا تحت السيطرة العسكرية الإنكليزية بعد تحالف أوربا ضد أطماع استنبول التي لم تكن تريد الوقوف عند حد!
والسؤال: كيف فاز حزب ديني لا يمثل أغلبية شعبية بأكثرية نيابية؟ إنه نفس ما حدث في الانتخابات الفلسطينية التي جاءت بحركة حماس الأصولية إلى الحكومة في مجتمع مدني بغالبيته العظمى.
كانت حكومة الائتلاف السابقة برئاسة أجاويد منشغلة في خلافات عقيمة، والبلد يعاني من أزمة اقتصادية حادة، والأتراك يتذمرون من انتشار الفساد، وأجاويد نفسه مريض وفي حالة سياسية شديدة الضعف مما أشاع بين الناس حالة من اليأس واللامبالاة. ولإنقاذ البلد، الذي كان يفاوض للانضمام للاتحاد الأوربي، تقرر الإعلان عن الانتخابات النيابية قبل 18 شهراً من موعدها، فاستغل الإسلاميون البلبلة القائمة لتوحيد صفوفهم في حزب واحد حمل اسم “العدالة والتنمية” خاض الانتخابات تحت شعار الإصلاح، ففاز بالأغلبية البرلمانية.
إنها نفس الظروف والعوامل التي سادت الضفة وغزة بعد ثلاث سنوات ، أي عام 2006، وجاءت بحركة حماس إلى المجلس التشريعي الفلسطيني بأغلبية مريحة. وهي نفس الظروف والعوامل التي يسعى الإخوان المصريون لإشاعتها في مصر من اجل القفز إلى الحكومة ثم السلطة، وهو ما يسعى إليه حزب الله أيضاً في لبنان، للسيطرة على الحكومة وأيضاً باسم الإصلاح والمقاومة!
لقد بدأ الإسلاميون الأتراك بالحصول على حكومة، والآن يريدون الاستحواذ على السلطة بكاملها، وهذا يرعب أغلبية الأتراك الذين شيد لهم مصطفى كمال أتاتورك دولة عصرية، وحديثة، بعد إزالة كل المظاهر الدينية المتخلفة، ولهذا السبب يكره الأصوليون أتاتورك، في تركيا وفي المنطقة العربية. وعندما تقرأ ما تكتبه الجماعات الإسلامية العربية اليوم، تشعر بالحقد ينفث سمومه تجاه أتاتورك، لشخصه، وللنهضة التي حققها. وقد تأسست جماعة الإخوان في مصر لمحاربة تلك النهضة ومنع المنطقة العربية من التأثر بها، ثم تحولت الحرب ضد النهضة والتطور شعاراً لكل الحركات والأحزاب والجماعات الإسلاميةّ منذ عام 1928 حتى اليوم.
الجيش التركي لا يعتمد في قوة موقفه على تأييد الغالبية العظمى من الأتراك الملتزمين بالعلمانية فقط، أو المجلس القومي الذي تأسس لحماية الدستور العلماني، بل يستند أيضاً إلى تجربة سابقة مع حزب (الرفاه) الإسلامي وزعيمه نجم الدين أربكان، الذي شكل حكومة ائتلافية عام 1996 مع حزب الشعب العلماني، ثم تنصل من تعهداته بعدم المساس بالدستور العلماني عندما حول أنقرة إلى مقراً لاجتماعات ولقاءات الحكومات والجماعات الإسلامية العربية والآسيوية، مما حمل الجيش على اللجوء إلىالضغط لإطاحة تلك الحكومة.
وفي حالة تركيا إسلامية، هناك حسابات وأفكار أمريكية وأوربية سبقت ورافقت اشتراك حزب العدالة والتنمية في انتخابات 2002، ملخصها أن ظهور دولة دينية معتدلة في بلد كبير مثل تركيا سوف يساعد على رسم ملامح جديدة لإسلام معتدل في عموم الشرق الأوسط، يقضي على التطرف والإرهاب الديني، ويبقي على مصالح وعلاقات الغرب بالمنطقة. فما هي الأسس الفكرية والتجريبية التي قام عليها اعتقاد غربي بهذا الترتيب الاستراتيجي الواعد؟
من الناحية الأخلاقية، توجد نقطة سلوكية تمثل عاملاً مشتركاً بين جميع الحركات السياسية الإسلامية هي تقديم أنفسها كفئات مظلومة، لا يفهم الآخرون نواياها الطيبة، ولا يثقون بحرصها على مصلحة الشعب، لكنها تشعر في ذات الوقت أنها غير ملزمة بتأكيد تلك النوايا وذلك الحرص عملياً، وأن كل الأخطاء التي ترتكبها، بما فيها الدموية، لا تقلل من قيمة أهدافها الكبرى، أي العودة بالعرب إلى عهد الخلافة الإسلامية، التي قضى عليها جمودها الفكري، وتخلف أدواتها وأساليبها في إدارة شؤون الناس.
في تركيا، تشكّل حزب العدالة والتنمية من مجموعة أحزاب وجماعات أصولية محظورة لمخالفتها القوانين الدستورية، ولدعوتها إلى إعادة نظام الخلافة مع كل ما سببه لتركيا من مشاكل قومية وكوارث للأتراك وللشعوب الأوربية المسيحية، التي احتلوها وفرضوا عليها الإسلام بقوة السيف وجبروت المدفع.
وكان الرئيس الجديد لحزب العدالة والتنمية (أردوغان) محكوماً بالسجن وبعدم حقه في الترشيح لعضوية البرلمان بسبب مواقف دينية متطرفة، أبرزها إلقاء قصيدة في اجتماع ديني قال فيها:
“المساجد ثكناتنا، والقباب خوذنا، والمآذن حرابنا والمؤمنون جنودنا …”
وظل الأتراك يتوجسون من هذا الحزب بسبب جذوره الأصولية التي أخفاها فترة الانتخابات، ويخشون من عودته إليها لفرض قوانين الشريعة على تركيا. ويشعر الجيش، الذي حمى العلمانية منذ قيامها عام 1924، أن موقف الاتحاد الأوربي المدافع عن حق الإسلاميين بالترشيح ديمقراطياً للحصول على منصب رئيس الجمهورية له وجهان: الوجه الأول الظهور بمظهر الحريص على المبدأ الديمقراطي حتى عندما يتعلق الأمر بأعداء الديمقراطية. والثاني السماح بقيام نظام ديني يعفي الأوربيين من العودة إلى مناقشة شروط قبول تركيا في الاتحاد، التي استمرت سنوات طويلة بسبب مخاوف أغلب الدول الأعضاء مما يحدثه دخول الأتراك إلى التجمع من خلل في الميزان الثقافي لشعوب أوربا، إضافة إلى معارضة المحافظين الأوربيين من احتمال دخول الإرهاب الإسلامي إلى مجتمعاتهم المستقرة تحت عباءة العضو الجديد الذي لا ينتمي جغرافيا إلى القارة.
غير أن الأمر أبعد من ذلك، وتخضع المواقف الجديدة المؤيدة لحزب العدالة والتنمية إلى توجه غربي جديد تقوده واشنطن، يدفع إلى إقامة شرق أوسط تحكمه الأحزاب الإسلامية المنبثقة عن والعاملة مع جماعة الإخوان المسلمين المصرية، تقوده وترعاه تركيا أصولية، ويكون بديلاً عن مشروع “شرق أوسط ديمقراطي” الذي رافق احتلال العراق، ثم فشل بسبب الدمار الذي جاء به الاحتلال.
بالنسبة لموقف أمريكا المدافع عن حق الإسلاميين في الترشيح لمنصب الرئاسة التركية، فإن إدارة بوش دعمت أيضاً الإخوان المصريين في الانتخابات الأخيرة (2005) أملاً في إشاعة نوع من السلام بينها وبين الإخوان، تجعلهم يخففون من عداءهم التقليدي لأمريكا، ومن ثم استخدامهم في حربها ضد الجماعات الإرهابية.
التصور الجديد لما يجب أن يكون عليه الشرق الأوسط، يأتي نتيجة وصول واشنطن، بحزبيها الجمهوري الحاكم والديمقراطي المعارض، إلى اليأس من جدوى حث الأنظمة العربية على تحسين أدائها في مجالي الديمقراطية والتنمية، أولاً بسبب عجز هذه الأنظمة عن تحقيق التغيير المطلوب، وثانياً لأن مجتمعات الشرق الأوسط لن تتخلص بسهولة، ولا بالسرعة التي تريدها واشنطن، من تخلفها المترسخ في بنيتها الثقافية. لذلك لم يعد أمام الأمريكان سوى التعامل بواقعية مع الاتجاهات السياسية والاجتماعية القائمة لخلق تحالفات جديدة تدعم تشكيل حكومات إسلامية بديلة، حتى لو جاء دعمها على حساب المبادئ الأمريكية العليا.
حسابات الإدارة الأمريكية هذه اعتمدت توصيات أعدتها مؤسسات بحثية يديرها خبراء سياسيون راهنوا على فكرة مجردة لم تخضع للاختبار. أخطر من ذلك استند الباحثون على مواقف غامضة للإخوان من الديمقراطية وحقوق المرأة وحقوق الإنسان، وبنوا عليها تقديراتهم النهائية، وهم غير مطلعين على مسيرة الإخوان التي قاربت الثمانين عاماً، تقلبوا خلالها في المواقف والتحالفات، السرية والعلنية، لكنهم لم يغيروا منهجهم الأساسي الذي يهدف في قمة هرمه الثقافي إلى السيطرة على الحكم والسلطة والإعلان عن أول دولة تحكم بقوانين الشريعة، وتؤسس بذرة قوية لخلافة إسلامية تضم بقية الدول العربية بالقوة والتآمر أو بالإقناع! وبهذا سيكون المجتمع المصري، المكون من مسلمين ومسيحيين ويهود، أول ضحية لفكرة وخطط أمريكية تنقصها المعرفة العميقة بالأرض التي ذهبت تجرب نفسها فوقها، كما حدث للعراق الذي احتلته أمريكا بناءً على أفكار وضعت على عجل، وأيضاً من قبل مؤسسات بحثية، انتهت بتحويل البلد إلى جحيم لشعبه وللأمريكان!
وإذا فكرنا بالنتائج المتوقعة لمشروع كهذا، نجد أن قيام دولة إسلامية في تركيا سيكون كارثة إضافية للمنطقة العربية وشعوبها للأسباب التالية:
1- إيران. إن مشروعاً كهذا يتطلب تنفيذ الخطة الأمريكية لضرب المنشآت والقواعد العسكرية لإيران وتدمير كل قدراتها الاقتصادية حتى تنكفئ على نفسها لخمسين سنة قادمة أو أكثر. لأن طهران، بما عرف عن صراعها التاريخي مع الأتراك، لن تسكت على عودة الدولة السنيّة إلى تركيا، التي ستهدد شعاراتها وتحارب النفوذ الذي زرعته طهران في لبنان وسوريا والعراق، وتوشك براعمه على التفتح في بقية الدول العربية. هذا يعني أن ضرب إيران سيكون مفتاحاً مهماً لمشروع شرق أوسط إخواني تسعى إليه أوربا وأمريكا.
2- تركيا. يجب الاعتراف بأن الإسلاميين الأتراك حققوا الاستقرار السياسي خلال السنوات الخمس التي حكموا فيها، وأعادوا للسوق العالمية ثقتها بالاقتصاد التركي، وكسبوا ثقة الغرب الذي ترتبط أنقرة معه بحلف عسكري كبير هو “النيتو” إلاّ أن توجه حزب العدالة والتنمية في هذه المرحلة نحو رئاسة الجمهورية، ثم إعلان أردوغان أمس (3 مايو) عن طلب تغيير الدستور، يشير إلى تكتمهم على استراتيجية تهدف إلى تحقيق سيطرة دينية على جميع السلطات قبل إعلان تركيا دولة إسلامية تحكم بقوانين الشريعة! ولا أعتقد أن واشنطن أو عواصم أوربا ستبدي أي اهتمام إزاء مخاوف العلمانيين الأتراك من وصول (غول) وزوجته المحجبة إلى قصر الرئاسة ليرفع من هناك “الحجاب” الذي أمر أتاتورك قبل 83 سنة بمنع ارتدائه في المدن! لذلك فإن تركيا نفسها ستشهد صراعاً سياسياً بين العلمانيين والإسلاميين حول الوجه الذي يجب أن تظهر به للعالم، كما لا أعتقد أن خبراء واشنطن البحثيين رسموا صورة، ولو تقريبية، عما إذا كان هذا الصراع سيبقى محصوراً في اللافتات، أم أنه سيتخذ طابعاً عنيفاً!
3- الشرق الأوسط. لم تشهد تركيا، ولا إيران، ولا الولايات المتحدة الأمريكية صراعاً دموياً وقاسياً بين حكوماتها وجماعة الإخوان المسلمين أو الجماعات التي انبثقت عنها كما شهدت مصر، وسوريا، وفلسطين، والسعودية، والجزائر والمغرب والأردن. لقد خلف هذا الصراع آلاف الضحايا من المواطنين الذاهبين إلى أعمالهم، والطلاب المتجهين إلى مدارسهم، والأجانب المارين بحافلاتهم السياحية. صحيح أن الأنظمة في البلدان المذكورة لا تحوز رضا جميع سكانها نتيجة نسب البطالة العالية، وانعدام الديمقراطية، وتفشي الفساد، إلاّ أن الأصوليين التي تراهن عليهم واشنطن يكرهون الديمقراطية كما يكره الابن قاتل أبيه، وهم ليسوا بعيدين ولا مطهرين من الفساد وجمع الثروات والتسلط على الآخرين، وليسوا ديمقراطيين إلاّ في الانتخابات التي تسمح لهم بالحصول على مقاعد في البرلمانات، أما ديمقراطية وحرية الفرد في حياته وخياراته وتفكيره وثقافته فالإخوان لن يسمحوا لأحد بالخروج على قوانينهم، أي قوانين الشريعة التي ناسبت شعوباً ومجتمعات في عصور سابقة، ولا يمكنها أن تناسب أحداً في هذا العصر.
إن الديانات هي عقائد مذهبية تنزع إلى الشمولية والسيطرة مثل العقائد السياسية. ومثل بقية العقائد الأخرى قدم الإسلام نماذج تاريخية متراكمة عن افتعال أسباب الصراعات من أجل التوسع والهيمنة. وفيما يخص تاريخ تركيا القريب وضعت خلافتها الإسلامية في أعناق الأتراك وزر مذبحة الأرمن عام 1915 بعد اتهامهم بخيانة الإمبراطورية العثمانية للحصول على الاستقلال بمساعدة الروس.
ولم يكن الإخوان المسلمون والحركات المنبثقة عنهم ليخفوا يوماً التزامهم بالعودة إلى عهد إمبراطورية الخلافة الإسلامية المندثرة ذاتها، بل أنهم يشدون عدداً كبيراً من الناس البسيطين وذوي الطبيعة الرجعية إلى نشاطهم السياسي بالتأكيد المستمر على مسألتين: الخلافة والشريعة، ليكونا نقطة الانطلاق نحو إسلام أممي، يمحو في طريقه جميع الديانات الأخرى، كما يتوهمون.
لذلك، فإن الخبراء الذين صورت تقديراتهم البحثية الفاشلة احتلال العراق كحرب بين جيشين مسبقة النتائج، لم يفكروا، بسبب قصر نظرهم العلمي، فيما تخفيه الأرض التي سيبقى عليها الجيش الغالب من مفاجآت وردود أفعال بشرية ورسمية من الجوار. ونفس هؤلاء الخبراء ينصحون الإخوان المسلمين منذ خمسة أعوام بالاعتدال مقابل تسهيل وصولهم إلى السلطة، ليهيئوا أرض مصر إلى صراع طويل قد يكون أكثر بشاعة مما يشهده العراق الذي يحترق منذ عام 2003.
وإذا كان حزب العدالة والتنمية التركي قد حقق الاستقرار السياسي لتركيا، فلأنه كان مطالباً بتقديم براهين عن حسن نواياه قبل تثبيت أقدامه في الحكم، وحالما يشعر بالقوة اللازمة لبقائه في السلطة سيبدأ تطبيق قوانين الشريعة على الأتراك، وسيكون العلمانيون الممثلين للأغلبية أول ضحاياه، كما ستكون أغلبية الشعوب العربية الرافضة للشريعة ضحايا حكومات الإخوان المفترضة التي تدعم واشنطن سيادتها على المجتمعات العربية بناءً على نظريات، تريد تحويل العرب إلى عنصر للاختبار، مثلما يستخدم الباحثون خنزير غانا لتجاربهم العلمية في الطب!
arifalwan@yahoo.com
* كاتب وروائي عراقي يقيم في إنكلترا