1ـ لكل طاغية، كما لك إنسان نهاية. ولأن أنظمة الحكم هي من صناعة البشر، فلا بد لها من نهاية مثل البشر الذين صنعوها. ولكن النهايات تختلف طبقاً لطبيعة الطغاة وأنظمة الحكم. وحينما يتجاوز “الطغاة” كل الحدود في طغيانهم، فإنهم يخلقون “غلاة” يتجاوزون كل الحدود في غلوهم (أو غليانهم) أيضاً. وهذا هو السيناريو الذي أرى مشاهده الأخيرة هذه الأيام مع آل مبارك ومع من يدفعونهم إلى الغلو والغليان. وهؤلاء يمثلون فئات عديدة من شعب مصر، فمنهم إسلاميون، وعمالاًء، وقضاة، وبدواً، وأساتذة جامعات.
2ـ وليسمح لي القارئ بفذلكة نظرية عن مفهوم “الفائض”، والذي هو أقرب إلى الاختلال الشديد في الموازين، والذي هو أقرب إلى ما يطلق عليه في لغتنا العربية بعبارة “فاض بنا الكيل”.. ثم نتابع بعد ذلك بقية مشاهد السيناريو المصري الذي يرجح أن تكون نهايته انفجارا دموياً عنيفاً، حتى لو تحصن الطغاة في بروج مشيدة ـ سواء في برج العرب أو برج شرم الشيخ. فقد اغتيل رؤساء مصريون في العصر الحديث، وهم في بروج مشيدة ـ كان بعضها داخل أو على أبواب وزارة الداخلية، أو وهم وسط قوات دفاعهم المسلحة. وليست صدفة أن ينتفض بدو سيناء مع الاحتفال بأعياد سيناء، وللمرة الرابعة على التوالي، قرب شرم الشيخ. وليست صدفة أن ينتفض عمال مصر ويعلنوا استقلالهم في عيدهم (أول مايو)، في تحد صريح للقفص الكبير الذي وضعهم فيه النظام تحت اسم الاتحاد العام لعمال مصر. وليست صدفة أن يضطر قضاة مصر إلى تسجيل كل هذه الوقفات الاحتجاجية على تعسف السلطة التنفيذية، ممثلة بوزير العدل، ثم بتمرير قانون يخصهم، دون رضاهم، بل ورغم معارضتهم. كذلك من أمثلة فائض الطغيان هذا ملاحقة مواطنين يتظاهرون أو يحتجون سلمياً، والقبض عليهم، والتنكيل بهم، والتحرش بهم جنسياً، ثم تقديم مدنيين منهم إلى محاكم عسكرية، ذات أحكام نهائية لا تقبل الاستئناف أو النقض. ثم أخيراً، قيام الأجهزة بإلقاء القبض على عضوين بمجلس الشعب، بدعوى أنهمها من الإخوان المسلمين، وضاربة بالحصانة البرلمانية عرض الحائط.
3ـ كان مفهوم “فائض القيمة”(Surplus Value) في الأساس مفهوماً ماركسياً، يشير إلى استحواذ الرأسماليين في أي مجتمع على نصيب الطبقات الكادحة من العملية الإنتاجية. فهذه الطبقات هي التي تخلق بعملها وكدحها القيمة الاقتصادية لأي سلعة تباع وتشترى. ومع ذلك فإن الرأسماليين هم الذين يستحوذون على النصيب الكبير من هذه القيمة، ولا يتركون للعمال والفلاحين إلا الفتات، الذي يبقيهم بالكاد عل قيد الحياة، حتى يعودوا للعمل في اليوم التالي. وبصرف النظر عن صحة أو خطأ مفهوم فائض القيمة، فإنه أصبح أداة تحليلية هامة.
4ـ من ذلك أن مفهوم “الفائض” أصبح يُستخدم في سياقات أخرى، تعاني من سوء التوزيع، أي تنعدم فيها “العدالة”. و “الفائض” يقابله دائماً “ناقص”، وجمعهما “فوائض” و”نواقص”. وموضوع هذا المقال هو الاختلال التوزيعي في السلطة والحرية والثروة، بين آل مبارك والحفنة الصغيرة عددياً، التي تدور في فلكهم من ناحية، وبقية فئات الشعب المصري من ناحية أخرى. فآل مبارك والخمسمائة مصري الذين يحضرون أفراحهم يستحوذون على كل “الفوائض”أما النواقص فالسبعين مليون مصري الآخرين، فهم يعانون بدرجات مختلفة من كل “النواقص”. فكل نقص في خدمة أو سلعة لدى أي مصري كادح، يوجد منها فائض كبير لدى آل مبارك والخمسمائة أصدقائهم وحلفائهم ـ سواء كان الحديث عن السلطة أو الثروة أو الحديد أو الأسمنت أو الوظائف أو السكن أو التعليم والرعاية الصحية أو رفاهية الترويج والترف، أو حتى الانحلال.
5ـ ربما يشعر الرئيس حسني مبارك أنه حصين بقلعة من النصوص الدستورية، التي تم تعديلها أو استحداثها، والتي تضمن له ولأهله خلوداً في مقاعد السلطة ـ لا فقط إلى آخر نبضة في حياته، ولكن أيضاً إلى آخر نبضة في حياة الأبناء والأحفاد من بعدهم وإلى يوم الدين! وها هم يستكملونها بترسانة إضافية من القوانين الدفاعية والهجومية، التي تضمن اكتساح الساحة السياسية المصرية ضد أي مقاومة فعلية أو محتملة، في الأجل المنظور (وغير التطور أيضا).
6ـ ومع ذلك، يعلم آل مبارك أنه رغم كل ما يقال عن مسالمة وموادعة شعب مصر، وحرصه على الاستمرار والاستقرار، إلا أنه حينما يفيض به كيل الظلم والاستبداد، سواء من حاكم محلي أو محتل أجنبي، فإنه ينتفض ويثور. وقد فعل ذلك مثلاً مرتان في ثلاث سنوات ضد الحملة الفرنسية (1798-1801)، وضد أسرة محمد علي (1889-1952) وضد الاحتلال الإنجليزي (1919) والاحتلال الإسرائيلي (1973)، وضد الرئيس عبد الناصر نفسه (1968) والرئيس السادات (1977). كما خرج من صفوفه أفراد وجماعات تولت عمليات قتل واغتيال ضد من استبدوا وطغوا ـ سواء من الأجانب المحتلين (الفرنسي كلبير والإنجليزي لي ستاك) أو حكامه المصريين (بطرس غالي، أحمد ماهر، محمود فهمي النقراشي، أنور السادات).
7ـ وفي عهد الرئيس مبارك شهدنا عنفاً غير مسبوق خلال السنوات العشر الوسيطة من حكمه الممتد (1987-1997)، والذي تجلى في مواجهات دموية بين أجهزته الأمنية وجماعات إسلامية مختلفة، سقط فيها عدة آلاف من الجانبين. وتم سجن وإعدام أعداد غير مسبوقة أيضاً، حيث أن من سجنوا أو أعدموا في عهد مبارك هم أربعة أمثال من سجنوا أو أعدموا في عهدي الرئيسين عبد الناصر والسادات مجتمعين. ويكفي للدلالة على ذلك أن نذكر أن عدد السجون قد عكس هذه الحقيقة. ففي بداية حكم حسني مبارك كان عددها إحدى عشر، وبعد ربع قرن من حكمه تضاعفت أربع مرات، ليصل عددها الرسمي إلى 44 سجناً. ونقول سجوناً رسمية، أي تلك التي لها سجلات تتبع أجهزة وزار الداخلية. وهذه غير سجون أخرى غير رسمية، تتبع أجهزة أخرى، مثل “الرقابة الإدارية” . كما يشهد على ذلك تضخماً غير مسبوق في أعداد المنخرطين في قوات الأمن الداخلي، والتي وصلت إلى حوالي المليون والنصف ـ أي تجاوزت حجم القوات المسلحة ثلاث مرات على الأقل، ورغم كل سجون مبارك وأجهزة أمنه المتضخمة، فإن المصريين لم يكونوا أقل شعوراً بالأمن والأمان منهم في الوقت الحاضر. ونحن نذكر تلك الحقائق لأن مصر على شفى مرحلة جديدة من المواجهات العنيفة بين فئات عديدة، غاضبة ناقمة، وبين الأجهزة القمعية لآل مبارك.
8ـ نقول ذلك كله لأن فائض الطغيان المباركي قد وصل مستويات غير مسبوقة منذ العصر المملوكي ـ العثماني ـ أي قبل قرنين. وحينما يفيض الكيل، كما نرى هذه الأيام، فلا بد من ردود فعل مضادة. وقد رأينا، أن عدد الإضرابات والاعتصامات العمالية قد تجاوز المائتين في الاثنى عشر شهراً الأخيرة. ولسيطرة الأجهزة المباحثية على اتحاد عمالهم الرسمي، فإن قطاعاً كبيراً من العمال قد فاض بهم الكيل، فأعلنوا في عيدهم، أول مايو، بينهم لتأسيس اتحاد عمال حر. وهو نفسه ما كان قد لجأ إليه منذ عدة شهور، قطاع كبير من الطلبة بسبب السيطرة الأمنية الغشومة على اتحادهم الرسمي.
وقد اتخذت التعبيرات الاحتجاجية على تعسف وإجحاف أجهزة آل مبارك، صوراً غير مسبوقة وغير معتادة من المصريين. من ذلك أن بعض الطلبة المعتقليت من الاتحاد الموازي، والذين تعرضوا للتعذيب وانتهاك الحرمات، هددوا بطلب اللجوء السياسي لإسرائيل، رغم أنهم محسوبين على جماعة الإخوان المسلمين. وهذا أيضاً ما هدد به بدو سيناء من قبيلة السواركة، بعد أن قتلت أجهزة الأمن اثنين، واعتقلت أكثر من مائة من أبنائهم. بل وذهب بعض غلاتهم إلى المطالبة بانفصال واستقلال سيناء عن مصر. هذا، رغم أن قبيلة السواركة، لها ماض مشرّف في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي. وكان منهم أطول المسجونين العرب على الإطلاق في السجون الإسرائيلية. إن تهديد شباب من الإخوان أو بدو سيناء بطلب اللجوء إلى إسرائيل، وهم من نشأوا على اعتبارها أعدى الأعداء وكرهوها، وحاربها بعضهم، ربما كان صيحة غضب ومرارة ويأس من نظام مبارك، أكبر منها رغبة حقيقية للجوء إلى إسرائيل. وبتعبير آخر، لأن طغيان آل مبارك قد وصل إلى مستوى غير مسبوق وغير معتاد. فكذلك فإن ردود الفعل، غير مسبوقة وغير معتادة.
إن هذا المناخ الخانق وهذه الممارسات المتعسفة هي التي تدفع أبناء مصر ـ بدواً وفلاحين وطلاباً، وعمالاً وإخواناً وقضاة وأساتذة ـ إلى ردود الفعل غير المعتادة هذه. ومن صنوف هؤلاء الغاضبين الخانقين اليائسين، قد تخرج رصاصة تعجل بنهاية نظام آل مبارك.
saadeddinibrahim@gmail.com
فائض الاستبداد، وفائض العنف ونهاية آل مبارك
السلام عليكم اود لو ان اسمع اخبار عن المعتقل مشعل جديع المشرف في سجن بوكا وارجو الردعلى اليميل التالي KHLLEF-1988@HOTMALI.COM