نام المحبون على إيقاع سنفونية الصمت وثرثرات السكون الهادئ في ليل مقمر، بعد أن تجرعوا كأس الهوى، واستراحوا من بطش زلزال عقارب الساعة، والعصافير سكنت عشها، وأدخلت الأسود عرودها، ونام الصبيان بعد أن استراحت أجسادهم من لعبة العرندس، في ليلة من ليالي كانون الأول، والكل استراح بعد شقاء يوم مليء بالمتاعب، بيد أن عصفور الكنار لم يجد له مأوى فراح يعد ساعات الليل ويتنشق الأرق، وينظر في السماء حيث كانت لحظة التحام قطري الشمس والقمر، ليلة الخسوف، ساقه النظر في هذه الصورة الكونية للتأمل، وتساؤلات ميتافيزقية عن فحواها، أخذته روعة النظر وحلقت به إلى أعلى الأفق، ما بين رجوم السماء وبين أضغاث أحلام، إنها لحظة تطابق واحتضان، ابتسامة الشمس ودفئ حرارتها، وبين برودة القمر وصمته الدفين في سكون الليل، متسائلا عن سبب وكيفية الجمع بين المتناقضين، الإيجاب والسلب، الإيجاب بكل شيء ينطلق من الصفر ليصل إلى أعلى درجات المائة، وبين السلب الذي ينطلق دائما من الصفر وينتهي إليه، متخذا قصيدة الوجود لإيليا أبو ماضي * الطلاسم* في حواره مع البحر، مكونا أساسيا من تساؤلاته، حيث قال:
قد سألت البحر هل أنا يا بحر منكا ؟
أصحيح ما رواه بعضهم عني وعنكا ؟
أم ترى ما زعموا زورا وبهتانا وإفكا ؟
ضحكت أمواجه مني وقالت:
لست أدري
وكأنه يتحدث عن نفسه حينما يجلس في لحظة يتمناها كل مخلوق على البسيطة، لحظة قد تدوم ساعات وقد تصل إلى ثوان، عندما يغرد أحلى أغاني الهوى، ويرسم ابتسامة على شفاهه، بيد أن من يسمعه يستريح، ومن يرى ابتسامته يحسده عليها، لأنه فاقد لها، ويرجع ويتذكر قصيدة فيلسوف الوجود والباحث عن الوجود إيليا أبو ماضي ، عندما قال للبحر :
أنت يا بحر أسير آه ما أعظم أسرك
أنت مثلي أيها الجبار لاتملك أمرك
أشبهت حالك حالي وحكى عذري عذرك
فمتى أنجو من الأسر وتنجو ؟
لست أدري
يتأوه بين الفينة والأخرى عن ما قدر له، يرسم دائما الابتسامة على شفاهه الذابلة، ويغني أحلى أغاني الهوى، ولا يدرك من يراه ويسمعه أنه مقيد بقيود الأزلية،ابتسامات مملوءة بآهات ودموع و أشجان،وأغاني ألحانها قيثارة مكسرة على أجنحة الظلام والوحدة،يغرد للآخرين متناسيا ذاته أو بالأصح يبحث عن ذاته التي فقدت بين ألسنة الضباب ولهيب السكون القاتل، يرجع به تفكيره إلى هالمت أو شقي الزمان كما يقال عنه،ويرى حاله حاله،ووجوده مكمن تعاسته،يطمح أن لا يوجد وإن وجد أن يملك فقط حريته ويختار دربه، ويصنع قدره،يضحك أو يبكي سيان عنده، تلك هي حياته التي قدر له أن وجد عليها،الخور و الفتور يذوبان أعصابه، أرق يزاوله متى حل وارتحل حتى أصبح يعشق الليل مع وحدته ويمل النهار وزلزاله،يلازمه الصمت الرائع ويهرب من كل كلام حتى ولو كان فيه شذا عسل صوت آتيا من العالم الأزلي، يتذكر للحظة يوم ميلاده،حيث كتبت شهادة وجوده على أغصان شجرة الخير زان في فيافي بحور الأحزان ي شهر نيسان ، تحللت ذاته كما ذابت روحه يوم ما كتب على سطور الحياة شهادة ميلاده ، وانغرست جذور حياته على قبر النسيان، حتى أصبح منسيا مع توارث الأزمان ، تسائل هذه المرة مع كامل الشناوي في قصيدته * يوم بلا غدي* عن سر وجوده الذي يوافق سر مولده ، قائلا :
عدت يا يوم… مولدي
عدت يا… أيها الشقي
الصبا… ضاع من يدي
وغزا… الشيب مفرقي
ليت يا يوم مولدي
كنت يوما بلا غدي
مستغربا مندهشا عن وراء هذا الوجود إذا كان يحمل في طياته نهاية حتمية، عذاب ألم بذاته، واستحوذ على بنات أفكاره، مرددا مع فريد الأطرش قصيدة *يوم بلا غدي*، هذه الأبيات:
ليت أني… من الأزل
لم أعش… هذه الحياة
عشت فيها… ولم أزل
جاهلا… أنها حياة
ليت أني … كنت من الأزل
كنت روحا … ولم أزل
أنا عمر… بلا شباب
وحياة … بلا ربيع
أشتري الحب … بالعذاب
أشتريه…
فمن يبيع… فمن يبيع
أنا وهم… أنا سراب؟
يا لسحر الكـلـمـات، ورونق الأسلوب، كأنه يترجم ذات الكنار الحائر، المشمئز، المتمرد، الثائر، الغاضب، عن الوجود برمته، لكنه يرجع ويهدأ تماما عندما يسمع غناء كروان بني البشر محمد عبد الوهاب في قصيدة * الكرنك *، حين يطرب:
تجري وأحلامي في غيها تمضي
إلى حيث البعيد البعيد
أنت مجد سالك دربه
يدفعه الشوق إلى حيث يريد
ولي خيال …. لي خيال
ساهر بالمنى
يسوقني حينا
وحينا يهين
كأنني والطير في قبضتي
موجه به إلى حيث يريد
تأتيه لحظات من السكون الجميل عندما يسمع هذه المقاطع وليلة الخسوف بدأت تكتمل، يا لروعة هذه الصورة الكونية تطابق شبه تام بل تام بين عصفورة الكون وبين مصباح السماء، ناظرا إليها بكل شغف وشوق تمنى لحظتها أن تدوم هذه الصورة الكونية ولن تنمحي، لكن يرجع به تفكيره إلى أن كل شيء في هذا الوجود غير دائم وغير مطلق، يتأوه مرات ومرات ومرات على رجوعه إلى سفينة الرياء بعدما عاش للحظات صفاء الجسد مع الروح، وكأنه حلق إلى أعالي الأفق بل إلى ما بعد الشقاء وما بعد التعاسة، رجعت هذه الظاهرة اللوحة الفنية والنهار بدأ يظهر ويحمل معه كل شيء زلزل الحياة برمتها، مشمئزا ناقما عن ركوبه سفينة الرياء والنفاق، لا أحد يشعر به لكن عليه أن يبدي ابتساماته على شفاهه، ويغني أغاني العشق المندثر، فقرر الآن أن يطرب مع نزار قباني هذه الأبيات:
لا تطلبي مني حساب حياتي
إن الحديث يطول يا مولاتي
كل العصور أنا بها فكأنما
عمري ملايين من السنوات
تعبت من السفر الطويل حقائبي
وتعبت من خيلي ومن غزواتي
واليوم أجلس على ظهر سفينتي
كاللص، أبحث عن طريق نجاتي
وأدير مفاتيح الحريم فلا أرى
في الظل، غير جماجم الأموات.
ورجعت وابتسمت وطربت ورقصت. لكن هل يوجد من يرسم لي ضحكة براءة الطفولة، و يسمع آهاتي التي تنزل بشلالات الغناء المتمرد، ويأخذني ويذهب بي للرقص على لحن الخلود بدل الرقص على سلالم الثورة، ويسكن لي دموعي الدفينة في أعماقي بدل الصمت المطبق على لساني.
fadwa_ahmad_tagmouti@yahoo.com
* صحفية من المغرب