يقف المشروع الأمريكي في منتصف الطريق. فكل خطواته في المنطقة معلقة عدا استثناءات قليلة، فهو إلى الآن لم يبسط الديمقراطية التي وعد الشعوب بها، والنموذج الديمقراطي في العراق الذي يتعين على دول المنطقة أن تحتذيه لا يزال متعثرا، بل ولا يزال ينتفض دما وآلاما وغضبا عراقيا موجعا. وفي لبنان ارتدت الاستشارة العسكرية المجانية التي قدمتها الإدارة الأمريكية لإسرائيل عليها فأوجعتها المقاومة ببسالة رجالها، وفي فلسطين ومصر شعت الساحة بتقدم الحركة الإسلامية رغم أنف الجهود الأمريكية التي حاولت قطع الطريق عليها، وتبين لها أن دعم الديمقراطية لم ينتج سوى المزيد من الدعم للتيار الإسلامي في تلك الدول.
وترى الولايات المتحدة أن مقابض خيوط هذه الأحداث تنتهي بيد طهران، التي يعتقد أنها تدير فعلا حربا ضد الولايات المتحدة وتضع العصي الخشنة في الدولاب الأمريكي، وتُحمل الإدارة الأمريكية إيران مسؤولية إخفاق مشاريعها المتنوعة في المنطقة، وهو ما أكده وكيل وزارة الخارجية الأمريكية للشؤون الخارجية نيكولاس بيرنز في كلمة ألقاها أثناء مشاركته في مؤتمر نظمته مؤسسة راند في ابريل الجاري مشيرا إلى أربعة قضايا أساسية “الاضطرابات في العراق، ومساعي حزب الله للإطاحة بالحكومة اللبنانية، وبروز قوى الرفض الفلسطينية، وبرنامج إيران النووي”، وقد أثبتت إيران قدرتها على إدارة أكثر الملفات التي تتعلق بها بشكل أو آخر بحنكة كبيرة، واعتقد أن الوجود الأمريكي في المنطقة هو أحد أهم الملفات التي تأتي في سُلم أولويات الاهتمام الإيراني.
وبهدوء من ينسج خيوط الحرير تدير طهران باقتدار وضبط نفس هذه الملفات الساخنة، وعلى عكس ما يقال فإن مكانة إيران تتعزز أكثر مع تقدم برنامجها النووي، فالدول الأوربية مقتنعة بضرورة أن تكشف إيران عن برنامجها النووي أمام المفتشين الدوليين لضمان عدم تحوله لأغراض عسكرية، لكنها في ذات الوقت لم تصل حتى الآن إلى درجة الاقتناع بالحاجة إلى استخدام القوة العسكرية ضد إيران، وترى فرص الحوار مع طهران قائمة وممكنة، لاسيما وأن إيران ليست عراق صدام وإنما هي دولة حديثة تحتضن تيارات سياسية وفكرية متنوعة، وأجنحة حكم تتداول السلطة سلميا عن طريق صناديق الاقتراع. وفي أسوء الظروف فإن تصلب الموقف الإيراني في هذه المرحلة لا يعني أنه سيبقى كذلك بل هو قابل للتغيير والإصلاح، ويرتفع هذا الاحتمال إذا وضعت عروض عادلة على طاولة المفاوضات.
من جهة أخرى فثمة تيار صاعد في العالم يتجه إلى اعتماد الطاقة النووية كبديل ناجح ورخيص نسبيا في السنوات المقبلة، وقد أعلن الرئيس الأمريكي نفسه في فبراير من العام المنصرم وفي مقر شركة جونسون كونترول بمدينة ميلووكي في ولاية ويسكونسون الحاجة إلى إعادة إنتاج الطاقة النووية في الولايات المتحدة لاستخدامها في تشغيل الكهرباء، ويتصاعد هذا الاهتمام في الصين وروسيا والعديد من الدول الأوربية وتفكر معظمها في تطوير استخدامها لهذا المصدر النظيف نظرا لارتفاع أسعار البترول ومحاولة إيجاد مصادر بديله، ونظرا لخطورة مصادر الطاقة المستخدمة وانعكاساتها الكارثية على البيئة، وهو ما يمنح إيران الحق أمام تلك الدول لامتلاك محطات نووية، وتجتهد إيران لإقناع العالم بسلمية برنامجها النووي، وتصر الإدارة الأمريكية على إثبات عكس ذلك.
والواقع أن إصرار الجانب الأمريكي لن يؤتي أي ثمار تذكر، فطهران خاتمي المعتدل وطهران نجاد المتشدد لم تفكران أبدا في وقف الأنشطة النووية، وإن اختلفت الدبلوماسية الخاتمية عن الأخيرة بترويها ومرونتها، وقدرتها على مخاطبة العقل والوجدان الغربي وتوجيه رسائل مطمئنة إليه، إلا أن بناء القوة النووية هو قرار إيراني نهائي لا عودة عنه، وإن اضطرت طهران للدخول في مواجهة عسكرية ساخنة وتحملت آلام الحرب، حيث النتيجة الوحيدة التي يمكن أن تتحقق هي أن يمسح الإيرانيون جراحهم العميقة ويقرؤون الفاتحة على أرواح موتاهم ويعودون بنشاط إلى بناء منشآتهم المدمرة، وحسب وكالات الأنباء فإن كبير المفاوضين علي لاريجاني أكد استعداد بلاده لبدء مفاوضات حقيقية بهدف الوصول إلى تفاهم مع المجتمع الدولي بعد أن حققت طهران تقدما ملموسا في استكمال دائرة الوقود النووي.
ويعزز من فشل الضربة العسكرية في تحقيق أهدافها طبيعة الشعب الإيراني المتماسك داخليا عند شعوره بالخطر الخارجي، ورغم مراهنة الولايات المتحدة على إثارة العرقيات والاثنيات ودعم ردود فعل الأقليات العربية، وتشجيع الشارع الإيراني على الانتفاض في وجه التيار الحاكم إلا أن هذه الحسابات الأمريكية تبدو خاطئة إلى حدٍ ما، إذ أن جرعة الديمقراطية التي ظهرت من خلال تداول السلطة وبروز تيار شبابي محافظ من نسيج التيار التقليدي يميل إلى إتباع سياسات بديلة تتصف بالمرونة وقراءة الساحة الدولية وفتح حوار مع واشنطن، قادر على أن يمثل البديل القادم الذي يستوعب الشارع ويسير في اتجاهات إصلاحية بعيدة المدى.
إن من مصلحة الولايات المتحدة اليوم أن تبادر لتغيير سياساتها مع طهران، والدخول من بوابة الحوار والتفاهم بدلا من التلويح اليومي بالحرب ودك الأراضي الإيرانية بالصواريخ الأمريكية، ومن شأن ذلك أن يفسح المجال للحراك الإصلاحي داخل إيران أن يأخذ أبعاده الحقيقية، ويدفع بالملفات العالقة إلى التقدم نوعيا، وأهمها ملف الوجود الأمريكي، وجدولة الانسحاب من العراق، وتخفيف مظاهر العسكرة الأمريكية في المنطقة، وتحصيل ثقة المجتمع الدولي بسلمية البرنامج النووي الإيراني، وهو ما يؤدي في النهاية إلى فتح طريق للتفاهم حول المستقبل المشترك ووضع حلول مقبولة لسلة من أزمات المنطقة.
Alshehab4@yahoo.com
* كاتب كويتي