صيف 2004 في القاهرة، كان واحد من تلك المؤتمرات العربية عن الاصلاح والديموقراطية، التي ازدحمت آنذاك. جمعيتا حقوق انسان ومجلة سياسية فصلية رسمية دعت اليه، والبنك الدولي موّله. مسؤولة العلاقات الخارجية في الشرق الاوسط كانت مندوبة البنك وممثلته في المؤتمر: ليبية اسمها شاها رضا. «رضا» ولا يطلب المؤتمرون منها غير الرضا… كانت المرجع الصامت، مركز السمع والنظر. قليلة الكلام، كالمنْكمشة على نفسها. وما تقوله درَرْ. احد المؤتمرين ممن لم يكونوا على بيّنة من كل الامور قال لي: «من اين تستمد هذه السيدة الصامتة المكفهرّة كل هذه الهيبة وسط كل هؤلاء الخطباء المفوّهين… المتفوّقين على انفسهم؟!».
صحيح. لاحظتُ ذلك. لكنني وقعتُ وقتها (أنا التي تدعي عدم الوقوع…) في أسر صورة منمّطة عن العربية العائدة الينا، الى وطن اجدادها، متسلحة بموقعها المهني العالي في مؤسسة غربية دولية، وبإيمانها العنيد بضرورة الديموقراطية وتحرير النساء. وقد بدا لي يومها ان هذه السيدة كانت تخفي ذكاءها وعمقها عنا، نحن المؤتمرين اصحاب الخطب الرنانة. كأننا غير جديرين بهذين الذكاء والعمق. «تُكبّر عقلها» علينا، كما يقولون، فتظهر اكثر ما يمكن من التجهّم، بصفته، ربما، عنوان الصرامة والمنهجية والدقة، التي نفتقدها، نحن الغارقين في مصائب الدنيا كلها. نحتاج اليها لو اردنا إصلاحاً وديموقراطية وتحرير نساء. وهي التي سوف تعطينا منها ما يوفر لها الدعم. شيء من الانبهار والاعتزاز بهذه الابنة العائدة الينا على حصان الكبار…
وفجأة تطلع علينا الفضيحة. السيدة شاها رضا هي، منذ سنوات، العشيقة الرسمية لبول وولفوفيتز، رئيس البنك الدولي منذ 2005، وقبل ذلك نائب وزير الدفاع الاميركي السابق دونالد رامسفيلد، وصقر من صقور الادارة البوشية وصاحب نظريات غزو العراق من اجل التخلص من اسلحة الدمار الشامل ومن تنظيم القاعدة. وقد نُقِل الى رئاسة البنك الدولي مكافأة له على سقوط هذه النظريات.
وبصفتها هذه، فان السيدة شاها هي الآن بطلة فضيحة فساد: عشيقها، بول وولفوفيتز، اضطر لنقلها من البنك الى مؤسسة اخرى. وذلك تبعاً للوائح البنك القانونية التي تمنع «العلاقات الحميمة» بين الرئيس والمرؤوسـ(ـة). هكذا وجدَ لها وظيفة في وزارة الخارجية. لكنه بقي يمدها بمرتّب ضخم من البنك الدولي بعدما نقلها منه الى وزارة الخارجية، وصل مع راتبها المعلن الى 200 الف دولار، معفاة من الضرائب. أي أكثر مما تتقاضى كوندوليسا رايس كما صار الجميع يعلم، مع وعد، حين العودة الى البنك، براتب تصاعدي يوصلها الى موقع «نائبة رئيس البنك»…
عندما كشف موظفو البنك الدولي الفضيحة، حاول بول وولفوفيتز التنصل والنكران. لكن سرعان ما تتالت الاثباتات والتقارير المؤكدة لها، فاعتذر عن فساده لكنه رفض الاستقالة، والبيت الابيض «يثق به».
جوانب هذه القضية عديدة. فالمؤسسة العالمية القابضة على اقتصاد العالم لا يكلّ رئيسها من تكرار «الاخلاقيات الاقتصادية» وضرورة التخلص من الفساد لإنجاح اية خصخصة واي مشروع استثماري كبير او صغير واي تفعيل او إعادة هيكلة للادارات؛ وقد علّق مساعداته لكل من بنغلادش والتشاد وكينيا، بسبب فسادها؛ وهو يخوض «حربا صليبية من اجل الحكم الصالح والتنمية» (صحيفة نيويوركر)… لكن هذا الرئيس نفسه، الاخلاقي باللسان، هو في الواقع فاسد، خارق للقوانين التي «يكافح» من اجل تنفيذها.
الا ان في الموضوع شيئاً آخر يهمنا: لا اعرف ان كان احدٌ من مؤتمري صيف 2004 يعلم بأن السيدة شاها علي كانت وقتها عشيقة بول وولفوفيتز، منظّر غزو العراق، ونائب رامسفيلد. ولو قيل لي يومها بأن شاها يمكن ان تكون عشيقة لأحد، لَمَا تخيّلتُ. فهي لا تشبه صورة العاشقات، ولا في عيونها إلتماعتهن (أم ان التجهّم مجرّد قناع؟).
بحثتُ امس على الانترنت، فوجدتُ مقالا وقعته كاتبة عربية عام 2005 تبدي اعجابا شديدا بشاها رضا. وبصفتها غير الرسمية ايضا، اي عشيقة «المفكر السياسي» بول وولفوفيتز، و»الناشطة في مجال حقوق المرأة والتي تؤمن بعنف ان الديموقراطية لا بد ان تحلّ» (لاحظ الايمان بالديموقراطية «بعنف»…). فتصفها بـ»السيدة الثائرة والبركان الذي ينتظر…».
هل كان مهماً، إبان المؤتمر العتيد حول الاصلاح، ان نعرف بأن تلك السيدة العَبوس عشيقة بول وولفوفيتز؟ نعم. ليس بسبب العشق، بل بسبب بول. فعشاق من هذا العيار متواطئون وموحدون ومتعاونون اكثر من الازواج. والمعرفة بهذا العشق تضيف لنا زوايا نظر اضافية، قد يكون وعينا بحاجة اليها، نحن الراكضين الى المؤتمرات الاصلاحية بلهفة. والسيدة شاها لا بد أدارت العشرات من تلك المؤتمرات على امتداد الدول العربية المريضة كلها.
الآن الفساد. ان تكون السيدة شاها رضا في هذه القضية فاسدة، مثلها مثل بول وولفوفيتز، فهذا من البديهيات، وان كانت المسؤولية القانونية غير متساوية بين الاثنين. عملية الفساد حصلت بعيد مؤتمرنا العتيد، والفضيحة انفجرت الآن. فهل نحاسب انفسنا على غفلتنا؟ هل خدعتنا السيدة شاها؟ ام ان انبهارنا أنقص من فضولنا؟ ام نحاسب السيدة شاها على استعدادها المسبق للفساد، الذي انفجر «بركانه» عند اول لحظة سانحة…؟ هذا اذا لم يسبق لبول وولفوفيتز ان أمدّها بالنصائح والخيوط والعناوين والفرص… فمداخل الفساد لا تُحصى، خاصة بين عشيقين.
الارجح اننا في مؤتمر صيف 2004 حول الديموقراطية كنا جمعاً من المخدوعين أوالمنافقين…
شيء آخر: بفضيحتها هذه، ضربت شاها رضا الصورة المنمّطة لـ «الشرقية» العائدة الى اوطانها الاصلية في سبيل خدمتها من اعلى المنابر؛ فهي صاحبة هيبة وفضل. وهذه فكرة تبسيطية وغير منطقية، لكننا كنا مثابرين عليها. الآن صار لنا المثل الحي عن خطئها، عن انعدام دقتها، عن بعض اصحاب جميل علينا من «ناشطين» في سبيل المرأة وحقوق الانسان…
وهذان الهدفان الساميان، اي المرأة وحقوق الانسان، الواهنَان اصلا، اضعفتهما السيدة شاها رضا بفضيحتها تلك. فضيحة من هذا العيار مثل سهم من نار في حقل الظلامية النامي، حيث مزاولة الربط بين الفسق والفساد وبين كل ما يأتي من الغرب. لكن للضرر فوائد: فهذه القضية نقطة للمقارنة بين مخالب الارتقاء بالمهنة والمكانة في الغرب، ومخالب هذا الارتقاء في الشرق…، خصوصا لدى النساء.
dalal_el_bizri@hotmail.com
الحياة