نشرنا منذ شهرين مقالاً تناول أفكارا حول المسألة الأمازيغية، كمساهمة من “مشرقي” في محاولة فهم ما يجري حولنا، وأخذ
العبر بحثاً عن حلول لقضايا مشابهة في منطقتنا، وقد أشرنا في مقال سابق آخر إلى المقارنة بين المسألة الكردية في المشرق والمسألة الأمازيغية في المغرب. من المؤكد أن الحوار حول هذه المسائل يتحمل المزيد طالما الآراء متعددة، وللقارئ في النهاية اختيار وتقبل الأفكار المنسجمة مع الوقائع.
أثار المقال في الصحافة الالكترونية تعليقات من طيف متباين من المثقفين المغاربة، وهي ظاهرة عامة تتسع باستمرار بعد “الثورة” الانترنتية التي شهدت مشاركة أعداد متزايدة من المهتمين بنشر مقالات تبين أراءهم في مسائل تهم مجتمعات بلدانهم، مما كسر احتكار الكتابة في الصحافة الورقية من قبل صحفيين محترفين محدودين، وهو أمر لا يمكن التقليل من أهميته، فالتعبير الواسع عن الرأي كتابة أصبح متوفراً وبسيطاً ومتخطياً الحدود القديمة المغلقة ومبشراً بـ”ثورة” في حرية التعبير والرأي لن تستطيع الأنظمة المستبدة إيقافه بوسائل بدائية، كمن يحجب الشمس بغربال..
إلى جانب الآلاف من الكتاب والمحللين والباحثين عن الحقائق الذين أطلقتهم الشبكة العالمية، عشرات وربما مئات آلاف آخرين من المعلقين على المقالات والأخبار، والمدونين والمتحاورين المعبرين عن آرائهم، دون خطوط حمر أو حجب أو حجر.. يتزايدون حسب متوالية هندسية لا يعلم أحد إلى أين ستقود..
من الطبيعي أن ترافق هذه الظاهرة الإنسانية الإيجابية الجديدة سلبيات وأهمها استخدام هذه الوسيلة، – التي وصلتنا من الغرب مصدر معظم ما هو في خدمة الإنسان-، لتوجيه شتائم واتهامات عشوائية لذوي الرأي المخالف. من المؤسف أننا كشعوب متخلفة نأخذ بآخر ابتكارات الحضارة الغربية ليشوهها بعضنا بضيق أفقه وتخلفه.. لكنه في النهاية سيسود الحوار “النظيف” مع الاحترام الواجب للاختلاف، وستنحسر “ظاهرة السباب” لدورها في حرف الحوار عن غاياته وإهدار الوقت والجهد وخلق العداوات بدل التوافقات..
يرى البعض أن كتاب ومعلقي ومدوني الإنترنت يفتقد معظمهم “للمستوى” و”المعيار” –الذي يقاس به كتاب الصحافة الورقية-، وهم في ذلك يستمرون في التقيد بالقالب القديم المتعارف عليه للكتابة، الذي يضع معظم الكتاب الجدد خارجه، وهو أمر طبيعي من “أهل الكار” في أية مهنة تتعرض للتجديد الذي يطلق أعداد كبيرة من “المنافسين”، لا يختلف عن موقف الكتبة القدماء أصحاب الريشة والمحبرة في مواجهة آلة الطباعة الحديثة التي نقلت الكتابة في حينها إلى مستويات نوعية متقدمة..
لا ننكر بالطبع المستويات المتعددة بين كتاب الإنترنت، ولكن هذه ميزة غير مسبوقة للمواقع التي تنشر للجميع، مستويات وآراء مختلفة، والقارئ ذو الاهتمامات المتنوعة والمستويات المتباينة هو الغربال، وليس “رئيس تحرير” يرفض ويقبل ويشطب ويعدل.. القارئ يختار كتابه ومواضيعه والمستوى الذي يلائمه..
إذا أهملنا التعليقات الناشزة على مقال “الهوية المتعددة للمغرب الكبير”، يمكن مناقشة بعض الآراء التي طرحت، ومنها أن “التخلف الأمازيغي أكثر بشاعة من التخلف العربي”، لا شك أننا “كلنا في الهم شرق” حسب المثل الدارج، ولكننا لا يمكن أن نتجاهل أن أحد أسباب التخلف تهميش هوية قسم كبير من المجتمع وإجباره على قبول هوية مخالفة لهويته. وإذا كانت اللغة العربية متقدمة على الأمازيغية، فلا يعني ذلك فرضها على الأمازيغ ومنعهم من لغتهم، وإلا فإن ذلك ينطبق على العربية المتخلفة تجاه لغات أخرى، فالحل هو تطوير العربية وتطوير الأمازيغية.
العديد من المعلقين وأصحاب الردود عادوا للتاريخ لتحديد الحاضر والمستقبل في المغرب بدلاً من التعامل مع الواقع الراهن، ومنهم من يعير الأمازيغ بأحداث من تاريخهم بأسلوب استفزازي، متجاهلاً الهمجية التي طبعت مراحل من التاريخ العربي، يمكن العودة إليها في الكتب الحديثة التي تجاوزت التاريخ المدون خصيصاً لتلميع ماضينا وطمس نقاطه السوداء.
في التاريخ العربي ما يخجل وفي التاريخ الأمازيغي ما يخجل، لكن الأجيال الحالية لا تتحمل المسؤولية عما جرى في الماضي طالما اعترفت به ووعت ضرورة عدم تكراره. البعض يطالب باعتذارات عما فعله الأسلاف، والفكرة مفيدة إذا أمنت انطلاقة جديدة في العلاقات بين الشعوب متحررة من إسار الماضوية التي تكبل مجتمعاتنا ونخبنا.
انتقدت تعليقات ما وصفته بالتعصب العرقي لدى الأمازيغ، دون أن تدرك أن المبالغة ليست سوى رد فعل على تهميش هذا العرق وسلب حقوقه العادلة، فلن يحد من التعصب سوى الاعتراف بهوية المختلفين وتمكينهم من حقوقهم الإنسانية.
واعتبر البعض أن الحوار حول حقوق الأمازيغ “دس للدسائس واستقدام لجحيم العراق الملتهب.. وتحريض للأخ على أخيه!!..” وهو للأسف رأي من دفن رأسه في الرمال وتجاهل الوقائع، فيما احترام حقوق الشعوب الأخرى الطريقة الأمثل لمنع الصراع بين الإخوة، فالتعدد سمة من السمات الإنسانية، أما النهج الأحادي في الهوية فلا يمكن تطبيقه إلا قسراً.
هل نريد بقاء الاستبداد أم نشر الحريات؟ فإذا كان الخيار هو الاول فمن مستلزماته فرض الحكم المطلق لهويته الواحدة على الجميع وقمع كل من يخرج عنها، أما إذا كان الخيار هو الديمقراطية، فحرية الانتماء والهوية حق طبيعي للإنسان لا يمكن الانتقاص منه.
قوانين أية دولة تفرض جنسيتها على مواطنيها، ولكنها لا يمكن أن تفرض هوية لغوية أو ثقافية، فهي خيارات حرة للمواطن طالما لا يمس قوانين البلاد. والهوية تعتمد على لغة وثقافة وتقاليد، وهذا ما ينطبق على الأمازيغية التي لا تزال حية في أوساط المنتمين إليها، ولم تنقرض مثل لغات وهويات قديمة أخرى كالهيروغليفية والفينيقية والسومرية.
لماذا الآن؟ – السؤال الذي يعتقد أصحابه أنه ذكي ومحرج-. لأن العالم كله يتغير بعد انهيار أنظمة الدول الشرقية الاستبدادية وانتقالها للديمقراطية، التي باتت على رأس الأولويات العالمية، تطرق أبواب منطقتنا، جزيرة الاستبداد الرئيسية الباقية في العالم، لترافق حرية الهوية والانتماء الحريات الأخرى.
تعدد الهوية ليس بالأمر الشاذ كما يتصور البعض، فهو ميزة لدول عديدة. وهو لا يوجد فقط بالنسبة لمواطني دولة، بل يصلح للإنسان الواحد، فحامل الجنسية المغربية مثلاً إلى جانب انتمائه لهوية مغربية، هوية الدولة بحدودها الواقعية الحالية، يحمل هوية أمازيغية أو عربية، وهوية دينية تختص بإيمانه، وهوية إنسانية تقربه من أخيه الإنسان في العالم الواسع وربما هوية عائلية واخرى مدينية.. ما الضرر من تعايش الهويات وعدم إلغاء أحدها للآخر؟
ثم إن الحق في حرية الهوية والانتماء يضمنه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهود الدولية، التي أدانت حرمان المنتسبين لمكونات قومية أو لغوية أو ثقافية من حق التمتع بثقافتهم والتكلم بلغتهم والمجاهرة بانتمائهم وممارسة تقاليدهم وشعائرهم، وحضت على حماية الهوية الثقافية واللغوية وحق المنتمين لها بالمشاركة في إصدار القرارات الخاصة بمناطقهم، وإنشاء جمعياتهم ومنظماتهم التي تعنى بشؤونهم..، وطالبت باعتماد قوانين لتحقيق هذه الأهداف.
إن مصالحة المغرب مع هويته وإبراز الروافد المتعددة التي تغذيها- أمازيغية وعربية وإفريقية ومتوسطية وإسلامية..-، يتحقق بإدراج الأمازيغية في الدستور كحقوق لغوية وثقافية وهوياتية، وإدماجها في الدولة والمجتمع في المجالات التربوية والإعلامية وفي الإدارة والقضاء..
إن اتهام كل من يعرض أفكاراً جديدة بخدمة قوى خارجية كما فعل أحد المعلقين، هو الأسلوب الوحيد لتأبيد التخلف وإبقاء الأمور على حالها، وما لا يتقدم فمن الطبيعي أن يعود للوراء، وأفضل ما يفكك المجتمع لصالح القوى الخارجية هو الصراع بين مكوناته المختلفة يؤججه حرمان الآخر من حرياته ضمن وحدة البلاد.
وأكثر التعليقات تهافتاً استندت “لخصوصية مغربية” مفترضة!!: “ماذا أتى بكاتب مشرقي إلى ديارنا؟”. صاحب هذا الرأي ما زال يعيش في كهفه أو خيمته الصحراوية المتخيلة، مغلقاً المنافذ في وجه الانفتاح العالمي الإنساني، رافضاً سماع أية آراء من العالم بأوضاعه وقضاياه. المنطق يقول بالحوار معها، فإغلاق الآذان لعدم سماعها وصفة للعزلة عن العالم وضمانة لاستمرار التخلف..
* كاتب من سوريا
dimah@aloola.sy
* دمشق