ما زالت المقاطعة الشعبية لمهزلة الاستفتاء على التعديلات الدستورية موضوع دراسات وتأملات في الداخل والخارج. وربما كان الاهتمام الخارجي لافتاً للانتباه، حيث أصبح في الأسبوع الثالث بعد الاستفتاء يفوق ما يكتب عنه في الداخل المصري. وقد أحصيت أنا شخصياً خمسة وستين تعليقاً أو تحليلاً إخبارياً في الصحافة الناطقة باللغة الإنجليزية فقط في أوروبا والولايات المتحدة وكندا واستراليا والهند، خلال المدة من 27 مارس (اليوم التالي للاستفتاء) إلى 17 أبريل 2007. وهذا رغم أن أحداثاً أخرى كثيرة كانت تتزاحم مع واقعة الاستفتاء ـ مثل حادث البحارة البريطانيين الذين أسرتهم السلطات الإيرانية، إلى التفجيرات الانتحارية لتنظيم القاعدة في المغرب العربي، لفضيحة رئيس البنك الدولي، بول وولفويتز، مع صديقته الليبية الأصل، شاها علي رضا، على الانتخابات الديمقراطية النموذجية في موريتانيا.
ولعل سر هذا الاهتمام غير العادي، باستفتاء جرى سلقه وتزوير نتائجه، هو اهتمام بمصر نفسها. فرغم أن الإدارة الأمريكية لجورج بوش، قد تراجعت عن حماسها السابق، في الترويج للديمقراطية في العالم العربي، إلا أن وسائل الإعلام الأمريكية ـ وخاصة كبريات الصحف مثل النيويورك تايمز، والواشنطون بوست، والهيرالد تربيون، ولوس أنجيلوس تايمز ـ لم يقل حماسها للديمقراطية في هذا الجزء من العالم. ويشارك الإعلام في هذا الصدد مراكز الأبحاث والدراسات الأمريكية والكندية ـ مثل جورجتاون، ومؤسسة كارنيجي، وكذا المنظمات الحقوقية الكبرى، مثل منظمة العفو الدولية وهيومان رايتس ووتش. وقد أتى ممثلون من هذه الأخيرة للقاهرة ـ لا فقط لمراقبة ما حدث، أو لم يحدث، يوم الاستفتاء، ولكنهم ذهبوا بعد ذلك إلى بلادهم، واعدوا تقارير موثقة، ثم عادوا إلى القاهرة لإعلانها في اجتماعات عامة. وقد شاركت أنا شخصياً في بعض هذه اللقاءات التي سلطت الضوء على أبعاد مهزلة الاستفتاء. ومن ذلك المائدة المستديرة التي نظمتها “العفو الدولية” في نقابة الصحفيين يوم السبت الماضي، وشاركت فيها منظمات المجتمع المدني المصرية ولفيف من القضاة والمحامين يتقدمهم المستشار هشام البسطويسي.
وضمن ما ورد من تحليلات المراقبين الدوليين، أن الشعب المصري، رغم كل ما يتعرض له من قهر وحرمان، إلا أنه يملك من “رأس المال الاجتماعي والحضاري” نصيباً هائلاً، يؤهله بجدارة، لا فقط باستعادة حقه في ديمقراطية حقيقية، ولكن أيضاً في قيادة المنطقة كلها في هذا الصدد. طبعاً، كان واضحاً من تعليقات بعض المشاركين المصريين أنهم لا يشاركون ممثلي العفو الدولية هذا الحماس أو هذه الثقة في الشعب المصري. بل وجاءت مداخلات هذا البعض من المصريين المكتئبين بمثابة مرثيات وبكائيات. وبدى المشهد سريالياً ـ الأجانب يشيدون بعظمة وقدرات الشعب المصري، وبعض أبنائه يؤكدون العكس!
ومما قاله أحد الحقوقيين الدوليين، أنه قضى ثلاثين عاماً، كممثل لمنظمات حقوق إنسان دولية في أكثر من عشرين دولة في أسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، ولكنه لم يصادف ما رآه وخبره من فطنة وكياسة الشعب المصري. وفي فترة الاستراحة سألت صاحب هذه الشهادة، ألست مبالغاً فيما قلته عن الشعب المصري، مقارنة بالشعوب العشرين الأخرى التي عشت فيها؟ فأجاب الرجل بمجموعة من الملاحظات الثاقبة، أكتفي هنا بذكر بعضها.
من ذلك طبقاً لهذا المراقب الحقوقي الذي أتى إلى مصر قبل موعد الاستفتاء بأسبوعين، ورصد هو وفريق عمله، ما قاله الرسميون والقيادات الدينية، وما كان يقوله المصريون العاديون حول الاستفتاء، والنظام الحاكم، والإصلاح السياسي، والتوريث. ولاحظ أن الرئيس حسني مبارك وجّه نداء إلى الشعب المصري بأهمية المشاركة في الاستفتاء والتوجه إلى صناديق الاقتراع. وتلاه في ذلك فضيلة الإمام محمد سيد طنطاوي، شيخ الأزهر، وقداسة البابا شنودة الثالث كبير الكنيسة الأرثوذكسية القبطية. وتوقع الرجل أن معظم المصريين سيستجيبون لهذا الثلاثي القيادي العملاق. ولكن فريق المراقبين المصاحب، رصدوا، ما رصده زملاؤهم المصريون من هزال نسبة المشاركة في الاستفتاء، والتي لم تتجاوز خمسة في المائة من المسجلين في الجداول الانتخابية. واكتشف الرجل ـ على حد تعبيره ـ أن الثلاثي القيادي ـ مبارك وطنطاوي وشنوده ـ هو عملاق على الورق فقط. وحينما طاف بأماكن يتجمع فيها المصريون وسألهم لماذا لم يشاركوا، ولماذا لم يستجيبوا لزعامتهم المدنية (حسني مبارك) وزعامتهم الدينية (طنطاوي وشنوده) سمع ما جعله بعيد التفكير والتأمل في العقل الجماعي للشعب المصري. فرغم ما يشاع عن رهبة السلطة بالنسبة للمصريين (مبارك)، وعميق تدينهم واحترامهم للرموز الدينية (طنطاوي وشنودة) إلا أن ثقة المصريين في صدقية أو مصداقية هذا الثلاثي هي في تناقض مستمر. وأن الشعب المصري، بمسلميه وأقباطه، لم يعر دعوات الشيخ والبابا أي اهتمام، إما اعتقاداً من الشعب أنهما يجاملان رئيس الجمهورية، أو مضغوط عليهما من الأجهزة الأمنية. وقال هذا الحقوقي أن الكلمات الأكثر تكراراً بين الناس الذين التقى بهم أيام الاستفتاء هي “تهريج” و “مسرحية”، و “مهزلة”، و”سيناريو لتوريث جمال مبارك”، خلفاً لأبيه!
أما الملاحظة الثانية على لسان نفس المراقب، والتي تستحق التنويه فهي حول ما سماه بنفور المصريين من السلطة الرسمية والإخوان المسلمين على السواء. وحين سألته عن دلائل أو قرائن هذه الملاحظة. قال أنه شارك في مراقبة وتحليل الانتخابات البرلمانية في أواخر عام 2005، وأن حقيقة أن سبعة وسبعين في المائة (77%) من المسجلين في الجداول الانتخابية قاطعوا تلك الانتخابات. وأن ذلك في نظره، هو دليل على أن الأغلبية الكاسحة للمصريين لا تريد لا الحزب الوطني ولا نظام مبارك بكل عجزه وفساده واستبداده، ولا تريد الإسلاميين بكل ما يحيط بشعاراتهم وممارساتهم من غموض. وهذا في رأيه هو عين الحكمة والفطنة من الشعب المصري، الذي لاحظ نفس المراقب أنه يقبل على الانتخابات النقابية، وانتخابات الأندية الرياضية، ومباريات كرة القدم، بمعدلات عالية، تفوق مشاركتهم في الانتخابات البرلمانية والرئاسية. أي أن الشعب المصري ليس كسولاً أو عازفاً عن المشاركة في الشأن العام حينما تكون هناك منافسة حقيقية وعادلة. ولكن الشعب المصري يرفض أن يكون “ديكوراً” أو “مغفلاً” (Fool) .
قال بقية أفراد منظمة العفو الدولية ومرصد حقوق الإنسان كلاماً كثيراً في نفس الاتجاه. وأهم من ذلك أنهم كانوا حريصين على استمرار التعبئة، والمتابعة، والمراقبة الدقيقة لما يخطط له نظام مبارك من تمرير القوانين الجديدة، التي تستلزمها التعديلات الدستورية الأخيرة. فأضعف الإيمان ـ حتى إذا كانت الأغلبية التي يسيطر بها آل مبارك على مجلس الشعب تمكنه من تمرير أي قانون مهما كان ظالماً جهولاً ـ هو الكشف والفضح والتجريس أمام الشعب المصري والعالم بأسره. ولكن مشاركاً آخر، في نفس المائدة المستديرة بنقابة الصحفيين، قال “المشكلة هي أن آل مبارك وأقطاب الحزب الوطني لم يعودوا يحسون أو يأبهون بما يقوله الشعب أو العالم عنهم، أو عن استبدادهم وفسادهم وفسقهم.
فلا حول ولا قوة إلا بالله.
saadeddinibrahim@gmail.com