يوم كان الاتحاد السوفياتي ما زال قائماً، تكاثرت الانتقادات الموجّهة الى نظامه، والرد الستاليني عليها: نعم، هناك عيوب، هناك معاناة… (طبعا يغفل الستالينيون ضحايا قمعهم الشرس). والعيوب والمعاناة، يتابع الستالينيون، تعود الى كون الشيوعية لم تصبح عالمية، لم تتحقق في كل البلدان. علينا بذل المزيد من النضال من اجل تحويل العالم كله الى اتحاد سوفياتي، كي نبلغ الاشتراكية الحقيقية، حيث لا ضحايا ولا معاناة، حيث الكمال الشامل. الألسنة اللاذعة آنذاك اخترعت عبارة «الاشتراكية الواقعية»، نقيض «الاشتراكية الحقيقية»؛ اي الاشتراكية التي يعيش الناس في ظل تفاصيل قوانينها، بكل ما تنطوي عليه هذه الحياة من كآبة وقهر واهمال. ولكن صبراً، كان يقول الستالينيون، انتظروا تحقيق الاشتراكية الحقيقية وسوف ترون مجتمع الطوبى الكاملة.
إنهار الاتحاد السوفياتي وتناثر الروس في كل بقع الارض بحثا عن حياة آنية، هي الوحيدة المتوفرة، يسدّون بها شظف عيشهم؛ من تأمين لقمة العيش الى الاثراء الفاحش…
“الحرية أو الموت” الغيفاري او “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة” الناصري: شعارن اكتسحا المنطقة بالتلازم مع “الاشتراكية الحقيقية” التي هي من نفس مناخها، طالما السياسة مناخات. تشي غيفارا، رمز الشعار الاول، كان يصارع الجيش البوليفي المدعوم من الاميركيين في ادغال بوليفيا، وقاعدته كوبا الثورية. وعبد الناصر سيد الشعار الثاني كان يعدّ العدة لمعركة التحرير النهائي مع اسرائيل. حياة البشر في ظل الشعارين كانت معلّقة، مؤجّلة، مجنّدة، من اجل الحرية او التحرير. اما وانهما، اي الحرية والتحرير، لم يتحقّقا على ارض بوليفيا وكوبا ولا على ارض فلسطين، فان الحيوات هذه صارت منثورة في هباء الريح.
لم نقرأ التجارب السابقة. اليوم دعاة الممانعة والمقاومة، اللبنانية وغير اللبنانية، يستعيدون نفس القبضة على حياتنا. فرَدّاً على الذين يريدون ان يعيشوا، يقولون «نريد نحن ايضا ان نعيش… ولكن بكرامة! ولكن من غير ديون! ولكن من غير فساد! ولكن… ولكن…»؛ الى ما هناك من وعود بقِطَع من جنّات الله على الارض. طبعا الوعود، مثل اسلافها بالحرية والتحرير والمجتمع الطوبوي، لن تتحقّق. لن تحقق «المقاومة» لا عيشا كريماً، ولا تحريرا شاملا، ولا حتى سوف تحمي لنا وطناً. فمن الآن، في هذه الحياة التي نحياها الآن، وحتى لحظة إخفاق المشروع، الذي سيتحول هو الآخر الى «نصر»… وبعد الخراب والدمار اللذين لن يُعترف بهما ايضاً، والناجمين عن استمرار «المقاومة»… من الآن وحتى تلك اللحظة الواقعية من حياتنا، ماذا يكون قد حصل لهذه الحياة؟ وربما حياة اولادنا واحفادنا، غير انها تكون قد ضاعت ودمّرت وتشتّتت في بقاع الارض الاربعة بحثا عن حياة ممكنة؟
الستالينية والغيفارية والناصرية ما زالت حيّة في عقولنا. و»المقاومة» بالقيادة الاسلامية هي وريثتهم الشرعية. لذلك ربما نجحت في استقطاب طاقات بشرية والاستحواذ على حياتها الوحيدة وتسخيرها.
لم نقرأ التجارب السابقة. وهذا سببٌ في نجاح الاستقطاب. لكنه طبعا ليس سببا وحيداً. هناك ايضا تصورات واستعدادات ذهنية تعصى على القراءة واستخلاص الدروس. اولها صناعة القائد الكاريزمي. هذا ميل عربي صميم. تجده ايضا خارج نطاق السياسة. فنحن في دوام البحث عن هكذا قائد، في دوام الحاجة الى اختراعه. قائد يسحرنا، يخضع عقلنا لحكمه، يرعى مخيلتنا، ينفخ فينا روح الولاء المطلق. قائد دائما على حق. الى الابد على حق. والاهم من كل ذلك: قائد نفتديه بحياتنا («بالروح بالدم…!» نرطن له). إن لم نشعر بأن حياتنا قربان على مذبحه، فليس هو بالقائد. الافتداء بالدماء هو بيت القصيد. حياتنا في خدمة زعامته وجلبابه و»مقاومته». (من يتذكر المرأة الجنوبية المنكوبة والمفجوعة من الوحشية الاسرائيلية، والصارخة بوجه الكاميرا «كلّو فدى [كله فداء] السيد حسن نصر الله»؟).
مع الزعيم الكاريزمي لا نتصور لقاء فردياً؛ بل دائما لقاء حاشداً، جماهيرياً، وسط كتلة متراصة متشابهة رافعة قبضتها منتشية بتقديم الولاء. وخلف القائد تعريف محدّد للشجاعة، مناف تماما لقيمة الحياة. يتفاخر «المقاومون»، بل يحقّرون غيرهم من غير المقاومين… بأنه حتى اولادهم الصغار لا يأبهون للانفجارات والطائرات… شجعان! عكس خصومهم الجبناء! طبعا ضعْ جانبا حقيقة هذا الادعاء من عدمه. فالجنوب، أرض «المقاومين» وارضيتهم، يضجّ بالاطفال والنساء والرجال الذين يعانون من اعراض الخوف والاضطراب النفسي نتيجة الرد الاسرائيلي الوحشي على عملية «الوعد الصادق». يحصل هذا في هذه اللحظة من حياتهم بالذات، وهي لحظة غالية، مهما كانت اعمارهم، القصيرة والتي لن تتكرّر. ضعْ ذلك جانباً، وافترض بأن هكذا شجاعة قائمة بالفعل؛ فإن حصر الشجاعة بمواجهة الموت، ليست شجاعة ايجابية الا في عقل اصحابها. الشجاعة الأشد، الشجاعة الأجدى، هي مواجهة الحياة. الحياة بكل المسؤولية والتعقيد والممكنات والمفاجآت والعيوب… الحياة كما نحياها، كما يتصور عقلنا الصغير والمتواضع انها تكون افضل، ارحم، أدفأ، ايسر، ارحب… الى ما هنالك من متطلبات نجيد وصفها بدقة لو لم نكن مسخّرين للصوت الذي لا يعلو عليه صوت! والذي لن يتحقق شعاره بالطبع لا الآن ولا بعد دهر. ولكن ايضاً، من الآن وحتى يعمّ الخراب في البصرة نتيجة الدأب على تعليق الحياة، تكون حياتنا في هذه الانثاء اقل دفأً، أقل رحابة، اقل رحمة…. اقل ازدهاراً.
شيء آخر يثبّت الولاء للتأجيل والتعليق: الذهنية المطلقة، التي هي نقيض الذهنية النسبية. طبعا المطلق ليس في ذهن الزعامة الا للسطح، للملأ، للعلني. فالزعامة تتعاطى النسبية والبراغماتية على ارفع وجه. عقلها البارد يحسب، يسخّر حياة الآخرين بدقة وبجرعات من المطلق، يحقنها في شرايين الجماهير والكتل المتراصة.
الكتل، الجماهير، الجماعة الواحدة…. هي بطلة من ابطال المشهد المؤجل للحياة. الفرد يغيب عنها. فهو إما ضائع او دخيل… لا قيمة لحياته الفانية، ولا للتفاصيل التافهة من حياته الناسجة ليومياته، امام ضخامة اهداف الكتل المتراصة وعظمتها، بقيادة الزعيم الكاريزمي.
اشفق اكثر ما اشفق على الذين يصدّقون هذا الكلام. كما صدقنا شيئا شبيها في بداية عمرنا. فكانت التضحية بكل شيء من اجل هدفنا السامي، الذي لا اعرف كيف آمنا بأنه آتٍ… آتٍ في حياتنا هذه التي نحياها! وحيث تصبح الحياة حياتين: حياة واقعية مؤجلّة معلقة الى اجل غير مسمى، حياة غير غالية. ثم حياة اخرى متصوَّرة، تلك التي نصبو اليها، الى حدّ انها تنافس الحياة الواقعية. فتختلط الحياتان في حياتنا؛ ولا نريد ان نصدق بأن الحياة المنشودة تشوّش على الحياة الواقعية فتخرّبها…
والأدهى ان كل هذه الشحنات المدمّرة للحياة لن يستسيغها المؤرخون: سوف تذهب هباء، ولن يبقى شي منها في الذاكرة، كما يقول المؤرخ اللبناني كمال الصليبي، والذي يؤرخ للحرب الاهلية السابقة (1975-1990) قائلا: « ان الشعارات التي ذهب ضحيتها القتلى، وخرّبت بسببها البيوت ودمر الاقتصاد الوطني، لم تعد تعني شيئا الآن». ثم يضيف عن الصراع الراهن: «بعد سنوات لن يعود له اثر (…) وسينتهي كما انتهى من قبله وكل ما نسمعه ونراه لا يحرز (يستحق) لأن الناس ستنسى ويجب ان تنساه من اجل الصحة العقلية للبنان».
dalal_el_bizri@hotmail.com