نعم! يحقّ للالهيين وغير الآدميين والمصنوعين من جبلة أثيرية ومن نفح الجنات، والمقتطعي الدستور، ومنتهكي الساحات، ومعطّلي الرئاستين: مجلس النواب والجمهورية، وقطاع الطرق، ودواليبيي “التفكير” و”الايمان”، ومدمني الارتهان لوصاية من هنا، وأخرى من هناك، ومعتمدي الارادات الخارجية، ومستبيحي الأحياء، ومفجّري السيارات، والمتواطئين مع القتلة، يحق لهم (وحقهم إلهي!) أن يعتبروا مجيء نواب الأمة الى البرلمان “اقتحاماً” لآخر معاقل الديموقراطية. ونظن أنهم وعبر حقهم الالهي المصون والمقدّس لهم رسم الحدود التي يجب أن يتحرّك ضمنها ثلاثة أرباع الشعب اللبناني، والأكثرية المنتخبة، والأفكار، والمعتقدات؟ لِمَ لا؟ بل يحق لهم أن يعتبروا أن مجلس النواب نفسه فرع من فروع أحزابهم؟ أو عقار من ممتلكات آبائهم وأمهاتهم وأخواتهم وأسيادهم؟ وإلا كيف “لحُفَنَة” تمثل أكثرية الشعب اللبناني (قلت اللبناني!) أن تجرؤ وتعتدي على أملاكهم ومقتنياتهم وموجوداتهم الخاصة أي مجلس النواب؟ فعذراً من هذا الاعتداء الذي قام به نواب الأمة بزيارتهم مجلسهم النيابي! فعلى أكثرية الشعب اللبناني أن تسلم ممثلي الأقلية ما حصلت عليه بالديموقراطية لكي تكون الأكثرية “ديموقراطية”. والديموقراطية هنا، بمفهومهم، هي أن تنتخب قوى الاستبداد، والوصايات، الشعب اللبناني، لا أن ينتخب الشعب اللبناني ممثليه! وعلى الأكثرية البرلمانية المنتخَبة أن “تُبَخشش” الحكم والتشريع، والدستور، لهذه الأقلية، لكي تكون الأكثرية مخلصة للارادة الشعبية! وعلى الأكثرية الاعتراف بأنها أقلية فعلاً، لتكون هذه الأكثرية أكثرية! وعلى الأكثرية أن تخضع للأجندة الخارجية المشخصنة بهذا الحزب “المُستألِه”، أو تلك الحركة المستقطعة، أو ذلك العميل المجلل بالعمالة والبنكو والفساد، أو ذلك الجنرال المتوّج بالهزائم والفصام والجنون، والأوسمة المزيفة، لكي تمنح هذه الأكثرية شيئاً من صفات الوطنية، وتنفض عنها تهمة العمالة لأميركا أو لاسرائيل؟ وعلى هذه الأكثرية أن تتهم نفسها بقتل شهدائها، وتفخيخ أهلها، وإرهاب ناسها، عندما تضلل تلك الأقلية “المارقة” والهرطوقية، والكافرة التحقيقات لكشف المجرمين، وتحرف الأنظار عن القتلة الحقيقيين، وتتواطأ معهم، لكي تكون هذه الأكثرية عادلة وموضوعية!
وعلى الأكثرية أن تقول إنها هي التي قطعت الحوار وأفشلته عندما يقطع أهل القطع والبتر والتقسيم والكانتونية كل حوار بين الناس. وعلى الأكثرية أن تعلن أنها هي التي قطعت الطرق واعتدت على الأحياء الآمنة والممتلكات العامة، والمواطنين، عندما تكون الأقلية هي المعتدية بالصوت والصورة والزلاعيم والمسدسات والقنابل والنية والتنفيذ؟ على الأكثرية أن تُهدي الأقلية الرئاستين ثم الحكومة ثم النظام ثم الدولة… لتضمن هذه الأقلية تمكنها من حكمها البلاد كأقلية بدون الأكثرية!
هل سمع أحدكم مثل هذه التخريفات؟ والجنون؟ والاستبداد؟ فعلى الأكثرية أن تعلن أنها تقرع طبول الحرب وتعلن أنها تتسلح وتنشئ ميليشيات، عندما تتدفق الأسلحة والأموال وطبعاً المعنويات “الالهية” المخابراتية على ميليشيات قائمة، ومعسكرة في الوسط التجاري، ومدججة بأسلحة لا تمتلكها أعتى الجيوش… وموجهة الى نحور الناس في الداخل!
ماذا يعني كل ذلك؟ أعلى أكثرية اللبنانيين وحفاظاً على البلد، أن تقبل هذا الأمر الواقع المفروض؟ هل عليها أن ترفع أيديها استسلاماً أمام جبروت المتجبرين، و”المستكبرين” الجُدد؟ هل عليها، لتُجنِّب حروباً “أهلية” أن تقبل استعدادات “الآخرين” لحروب أهلية؟
ماذا يعني تدفق كل هذه الأسلحة والأموال، أمن أجل الفرجة أو الاحتفالات بالموالد والمناسبات الدينية والوطنية والأعراس والمآتم؟ ماذا يعني رفض السيطرة على الحدود اللبنانية ـ السورية سوى إبقاء الحدود اللبنانية مفتوحة للأسلحة والأموال والمرتزقة والارهابيين تحت شعار محاربة اسرائيل من الشمال وبيروت؟ أو إلحاق الهزيمة بأميركا من بيروت بالذات؟ أو التهديد بحروب أهلية… وإحراق البلد خدمة لأهداف بني ساسان أو هذه الشقيقة أو ذلك الشقيق؟
إذاً ماذا على اللبناني الذي ينتمي أو يحلم بالانتماء الى مجتمع مواطني، ومدني، وديموقراطي، وسيادي، واستقلالي، أن يفعل؟
هل يحق له أن يدافع عن وجوده المهدد أولاً؟ وعلى أولاده وأحفاده وممتلكاته؟ هل يحق له أن يدافع عن مكتسباته، وأحلامه؟ هل يحق له أن يدافع عن سلامته وعمله، ومسكنه، ومحله، ومصنعه، ودكانه؟ إذا كان لا يحق له ذلك فيعني أنه محكوم بالاستسلام، ومحكوم بالهجرة، والتخلي عن هويته، ودولته، وأرضه، وحقوقه، والرحيل، بحثاً عن وطن بديل أسوة بملايين اللبنانيين الذين هَجَّرتهم حروب الآخرين والعملاء والجواسيس عن بلادهم على امتداد عقود؟
هذه هي الأسئلة التي يطرحها كل لبناني على نفسه؟ هذه البلاد لمن؟ هل هي لكل مَنْ هَبَّ ودَبّ… وَوَفَد إلا للبنانيين؟ وهل عليه قبول أن تسبى منه بلاده أمام ناظريه بذرائع الدفاع عن الوصايتين… في الوقت الذي تنعم به هاتان الدولتان بالطمأنينة. والسلام… والأمان في داخلهما وعلى حدودهما؟ هل عليه أن يكون الضحية الدائمة، والفريسة المقبلة، والقربان الجاهز، لكل الخوارج المشحونين من لدن الخارج، فيحارب بديلاً من هذه الدولة الخارجية التي تريد أن تحارب لنحارب عنها ونحن نصرخ “بالروح بالدم نفديك… يا…!”.
أليس لهذا اللبناني، أن يتعب من حروب العالم به، وبأرضه، وبمصيره وبلقمته وبحياته؟ لماذا لا يحق لهذا اللبناني أن تكون له ديموقراطيته التي يستحقها، وسيادته التي يريدها، وازدهار اقتصاده، ومجتمعه المتنوّع؟ لماذا على كل خَصيّ من الخارج القريب أو المستعجم، أن يتمرجل على اللبنانيين؟ لماذا على كل “فأر” على حدوده أن يستنبح ويستأذب عندنا وعلى حدودنا؟ لماذا بتنا نحن اللبنانيين، كائنات مصنوعة للاغتصاب، وللانتهاك، وللتجارب، وللمختبرات، بل لماذا هذا الاحتقار المذهل بقوته للبنانيين؟
إنها اليوم المرحلة المفصلية فعلاً التي قد لا يكتفي فيها اللبناني بطرح مثل هذه الأسئلة البديهية، ومن أجل حقوق بديهية، كإنسان وكمواطن، أي الأسئلة المصيرية، ليتعداها الى المواقف المصيرية أيضاً. وقد اتخذ بعضها، وبشكل لم يسبق له مثيل في تاريخه: فالشعب اللبناني بأكثريته يدافع وما زال عما اكتسبه من سيادة وديموقراطية (غير مكتلمة). دافع عنها بجماهيره التي نهضت من كل لبنان، لا لتدافع عن حقوق هذه الطائفة أو ذلك المذهب، أو الحزب، أو العشيرة، أو المنطقة، بل عن وجودها، وأرضها، وحقوقها. والذي تابع تحركات الانقلابيين الدمويين والمخرّبين الذين باتوا يتقاطعون مع كثير مما تسعى إليه الصهيونية في لبنان، بنياتها، وأهدافها، وممارساتها واعتداءاتها، تابع أيضاً كيف أفسدت أكثرية اللبنانيين مخططات هؤلاء الكفّار والمارقين، وأحبطت خططهم الانقلابية (هم خرّيجو أقبية المخابرات والأجهزة السوداء!)، بالمواجهات الديموقراطية والأدوات السلمية، كأن خريطة الصراع باتت مفرزة التخوم بين فريق مسلح وعنيف وإجرامي وترهيبي وتخريبي وانقلابي وعميل، وبين فريق آخر يصد كل هذه الممارسات بما يناقضها: بالتظاهرات السلمية، والصمود الأهلي. (لماذا يخشى اللبنانيون من الفلتان الأمني كلّما قرر بتوع الوصايتين وعلى رأسهم المستوحى الإلهي أن يقوموا بتحرك “حضاري”!؟). بين فريق استقلالي وآخر ذيلي. بين فريق سيادي وآخر اتباعي. بين فريق ديموقراطي وآخر فاشي، بين فريق يمثل المجتمع المدني بتنوعه وآخر “أحادي” بهيمنة أحادية (ذات طرابيش لتلوينه!)، بين فريق حضاري يؤمن بالحياة والعمران والتقدم والانخراط في العصر والحداثة، وبين فريق قهقري ـ يبشر بالموت والعدمية والخراب والخلاء ويكره العمران والحداثة وكل ما يمت الى العصر بصلة سوى اللهم علاقته بالسلاح! فالسلاح وحده معبره الوحيد الى الحداثة… لكن لفرض الظلامية والقهر!
حتى الآن، ما زال اللبناني المدني ذو العقل المدني، والمنخرط في المجتمع المدني، يؤمن بالمواجهة الحضارية، الديموقراطية، غير المسلحة. وقد بدا أنها نجحت الى حد كبير ووضعت “الانقلابيين” أمام الجدران… لكن ماذا لو أكمل هذا الآخر بإرادة خارجية عملية التسلّح واستمر بالاستعداد لقلب الأمور بالقوة والعنف، بادعاء أنه قادر على الاستيلاء عسكرياً وأمنياً على كل البلاد بساعات (صرح بعضهم أنه يمكن أن يصلوا الى بشرّي بظرف ست ساعات! لكن المهم كيف سيرجعون؟). ماذا لو تواصل تدفق الأسلحة والمدافع والقنابل والسيارات المفخخة وتنظيم “الجيوش” لضرب الدولة والنظام واستكمال الاستيلاء بالقوة على السلطة، فهل سيكتفي اللبناني المدني، الحضاري، السلمي، بوسائله الديموقراطية لمواجهة الظواهر المسلّحة والعنف والإرادة الخارجية لتغيير أموره وتزييف مشيئته بالإرهاب المسلّح؟
هل سيقف اللبناني الحضاري، المدني، السلمي المجتمعي وراء “مثالياته” الديموقراطية ليصد هذه الفاشيات الكافرة (على إيمانها المزيف)، والمنتحلة الأسماء “الحُسنى”، ومواصفات العروبة الاستبدادية؟ بمعنى آخر: هل سيكفيه أن يفتح عينيه واسعتين أمام المخارز ليصدّها؟
إنها الأسئلة المفصلية، والتي إن حسمها اللبنانيون الأكثريون، في اتجاه السلاح بالسلاح، والقوة بالقوة، والخندق بالخندق، والمخرز بالمخرز، والحرب بالحرب، فيعني أنهم وقعوا على الاختيار الأخير “الشر الذي لا بدّ منه”… وعندها… إمّا أن يكون لتوازن الرعب ما يردع الأقلية الانقلابية، وإما أن تحاول هذه الأقلية كسر التوازن بالحرب الداخلية، أي العودة الى 1969 و1975,. والمحطات الجهنمية الأخرى!
هل هذا هو الخيار الذي يسعى الانقلابيون “الإلهانيون” الى استدراج أكثرية الشعب اللبناني إليه، بعدما فشلوا في كل مخططاتهم لقرصنة الدولة وسرقة الإرادة العمومية؟ أهذا هو الخيار الذي نستشفه من خلال تدفّق كل هذه الأسلحة (ليس الى الجولان وليس لمحاربة إسرائيل) الى الفئات الانقلابية؟
للمرة الأولى يبدو الواقع ملتبساً. وما يزيده التباساً أن خيار الأكثريين الديموقراطي في مواجهتهم “الخوارج الانقلابيين” ضروري لكن، لم يعد كافياً! أو ربما لم يعد يفي بالغرض، للدفاع عن المكتسبات الديموقراطية والسيادة، والاستقلال والمجتمع… في وجه البرابرة القادمين على مطايا الخراب والجنون والاستباحة للقبض على البلد بأصابع من حديد “الآلهة”، وبأيد من وحل… الوصايتين! وبعيون من بصيص الصهيونية الهمجية!
المستقبل