نطرح سؤالا لعلنا نفتح حوارًا أعمق من تلك اللجنة النابعة من عقلية تنتمي لمحاكم التفتيش، وعن ذهنية المغالين في الإسلام الذين قّطعوا أوصال المعارضين عندما تهيأت لهم الظروف. ها هو التاريخ يعيد نفسه في أقنعة وخناجر مختلفة، في أصوات تتعالى احتجاجًا على »ربيع الثقافة« لكي تمتلك سلطة نفوذ المحاكم التاريخية والعسف. فلماذا وجدت تلك المجموعة النيابية نفسها معنية بحرب فكرية وثقافية خارج مشروعها النيابي والانتخابي بهدف إشغال الناخبين عن موضوعات أساسية ضمن برامجها الانتخابية؟ تعالوا نتوغل بعض الشيء في عمق المشروع الظلامي المستهدف ترويجه في الأرض بحجج كاذبة ووهمية، المهم أن يتم وتنجز الأهداف البعيدة والقريبة.
لقد سعت تلك المجموعة منذ التأسيس إلى بناء دولة إسلامية من نمط طالبان في كل مكان تتحرك فيه ووفق تكتيكات محددة، تارة بالعنف وتارة بالمهادنة الصامتة لكي لا تُمنع من النفاذ إلى معاقل حيوية ومهمة في الدولة والمجتمع، ومن ثم التغلغل ابعد ما يمكن رؤيته لدى أجهزة السلطة.
ومن ضمن تلك المشاريع استلام السلطة بعد إسقاطها، وبما أنهم يشعرون أنهم لا يستطيعون ذلك بسهولة فان اختراق هذا المعقل المحصن بالإمكان التأثير عليه، من خلال دراسة نقاط الضعف وليس الصدامية معه مستحبة أو ممكنة ولكن المهادنة والتقنع أسلوبان أفضل، فالمهم اجتياز المعاقل بهدوء وإبداء أفكار تبدو للسلطة أنها قيم ومواقف تتلاءم معها فيتم المرور من تلك البوابة المخادعة. وبما أنهم لم يتمكنوا من استلام السلطة فان السؤال الأهم لديهم أين نتغلغل ونؤثر في بنية الدولة؟ وكيف نجعل السلطة الرسمية تغفو عنا بعض الشيء بارتداء قناع الممثل البارع، ويتاح لنا العبور إلى المؤسسات الحيوية.
فالإعلام والتربية قلعتان أسهل للاختراق، فهما مهمتان لتشكيل الرأي العام والتأثير عليه كما أن قوة المال عنصر مهم في اجتذاب الموالين والمتعاطفين والأنصار فلهذا استوجب الهيمنة على البنوك باختراقها، وتأسيس مصارف بديلة ومنافسة لتلك البنوك الأجنبية. من هنا نلمس ظاهرة التأثير على جوانب ثلاثة هي الإعلام والتربية والتعليم والمصارف كانت مفاتيح للغزو الصامت، وكلما سيطر الظلام على عقول المناهج والمعلمين والطلاب فان جيلا كاملا سيتخرج مشبعا بتلك الروح المتشددة ويصبحون جاهزين للقطف والاحتواء.
غير أن الهيمنة على المؤسسات الرسمية لا يكفي فلا بد من اختطاف المجتمع ووضعه تحت مظلتهم، فتم التأثير على قطاع واسع من الناس في حقبة كانت الدولة مشغولة بمشاريع سياسية أخرى، وما على قوى الظلام إلا المشي عند الجدار والاحتماء بالصمت والمراوغة، فالمهم عندها هو التغلغل في أعماق المؤسسات الرسمية والمجتمع، وبعد تحقق كل ذلك اتسع المشروع الداخلي بالتعاون مع الخبرة الخارجية بإعداد الكادر ومحاولة خلق ثقافة دينية متشددة لكونهم لم يتمكنوا من اختراق معقل من أهم معاقل المجتمع التنويرية، على الرغم من قدرتهم في التأثير على الأفكار والتسلل إلى العقول والنجاح في تأصيل التفكير الديني عند قطاع واسع من الناس، خاصة الجيل الشاب والنساء، ولكنهم عجزوا عن الاقتراب والاختراق والخطف لمجالات الإبداع.
فهناك نمط من الثقافة الإبداعية المرتبطة بنمط من التفكير والخلق والأسئلة الكونية حول الإنسان والوجود والحرية، فلا يمكنهم خلق مسرح عبثي أو واقعي، ولا يمكنهم تشكيل لوحات سريالية أو واقعية وتكعيبية والمزاوجة بين التراث والمعاصرة والنبش بالتراث من خلال المغامرة الفنية، كما لا يمكنهم أن يقتربوا من الموسيقى فكل شيء فيها شرير وفاحش، فما بالكم كيف ينظرون للرقص، فهو في نظرهم إغراء وإثارة للغرائز وعمل من أعمال إبليس الرجيم، لهذا عجزوا عن اخترق تلك القلعة الحصينة كما لم يستطيعوا خلق قوة ثقافية موازية، لهذا ينبغي تحطيمها ومحاربتها فهي القوة الوحيدة التي شعروا إزاءها بالضعف بعد عجزهم من اختراقها. بينما نجحوا في خطف المؤسسة التشريعية كمجلس النواب، مما يتيح لهم تكبيلها كما هم في حربهم الخفية والمعلنة ضد الصحافة، فحرية الرأي في الصحافة توأما لحرية التعبير في الثقافة، وهما ينسجمان معا من اجل تعميق الحريات وتكريسها وتعزيز مشروع الديمقراطية في عهد الإصلاح.
إن الهروب للأمام لكتلة الظلام ومن يقف معها ليس إلا هروبا عن مناقشة القضايا الرئيسية في المجلس الوطني والانشغال بقضايا جانبية وفتح معارك شكلية، والتضخيم بموضوعها لكي يبدو النواب الأفاضل هم التعبير الحقيقي عن إبداع الشعب واهتمامه بالثقافة كقوة خارج سيطرتهم، ولا بد من محاصرتها في المعركة القائمة، فإذا ما نجح المشروع ينطلق المناهضون للثقافة لما وراء ربيع الثقافة؛ فهناك مشاريع لتقييد كل العقول والمبدعين في وطننا وتكميم الأفواه فيما بعد، لمناهضة حرية التعبير والتفكير فتخلو الساحة لهم بعد تيئيس الناس والمثقفين من الدفاع عن حقهم في الوجود.
إنها معركة امتحان فعلية بين الحرية والظلام والقمع، بين السجّان والمبدع، بين الحياة والموت، وعلى كل المثقفين والمبدعين والناس الشرفاء والغيورين على الثقافة والحرية والرافضين للإقصاء في مملكتنا أن يرفعوا شعار الاسبان ضد الفاشية في الحرب الأهلية، »لن يمروا« ضد اللجنة العدوانية التي تقرأ الثقافة والإبداع بنظارتها المثقلة بالعتمة والتشاؤم والانتحار لتقدم الوطن تحت حجج واهية ومكررة، ولن يتوانوا عن اجترارها في كل مناسبة يرون فيها الناس سعداء وفرحين بالربيع فما بالنا أن ذلك الربيع ربيع ثقافي ومفتوح لجميع الناس.
* كاتب بحريني