عكف اعضاء مؤتمر الشعب الصيني ، البرلمان الصيني وأعلى هيئة تشريعية في البلاد، منذ الخامس من آذار الجاري على مناقشة وتصويب أهم وثيقة تطرح عليهم منذ تأسيس جمهورية الصين الشعبية. هذه الوثيقة هي أبرز الوثائق منذ شروع الاصلاح الاقتصادي على يد دينغ سياو بينغ وبعد رحيل ماوتسي تونغ منذ ثلاثة عقود. وتتعلق هذه الوثيقة بالملكية في الصين، والتي أصبحت في خبر كان منذ إحتكار ماوتسي تونغ للسلطة في فترة حرجة من تاريخ الصين الشعبية وحتى نهاية عهده. وتأتي ضرورة مناقشة هذه القضية بعد سلسلة من التحولات العاصفة في الصين في العقود الثلاثة الاخيرة، والتي غيرت جذرياً من طبيعة العلاقات الاقتصادية والاجتماعية في البلاد، والإنتقال من احتكار الدولة لكل مرافق الحياة الى تقلص دورها في الآونة الاخيرة، والتي أملتها ضرورة الخروج من حالة الفوضى الاقتصادية والفقر والعوز والركود الذي خيم على الصين في عهد ماو تسي تونغ بسماته المتطرفة وخاصة في مرحلة الثورة الثقافية المثيرة للجدل. لقد أثير جدل واسع حول هذه الوثيقة سواء في داخل الحزب الشيوعي الصيني أو على نطاق المجتمع منذ ان طرحت للنقاش قبل فترة، بين متمسك بالذهنية القديمة وبالدوغما الايديولوجية التي ترفض الملكية الخاصة بالمطلق وبين من ادرك الظروف الجديدة وما تمليها من ضرورات ويطالب بإعادة النظر جذرياً بالقيم القديمة التي ثبت فشلها.
تشهد الصين الآن إنتعاشاً في القطاع الخاص والذي يحقق الآن ثلثي الناتج القومي الإجمالي في الصين. وهذا ما استوجب ان تتوفر الحماية القانونية لهذا القطاع من خلال تشريع شامل. وكان على قانون الملكية ان يتم تشريعه منذ سنة، الا انه جوبه بالمقاومة من قبل التيار اليساري في داخل الحزب، وتعرقل تصويبه بسبب خشية هذا التيار من السير بعيداً على طريق التطور الرأسمالي. هذا التيار يعتبر قانون الملكية هو خيانة لمبادئ البلاد الاشتراكية. ولكن الحزب قرر في الآونة الاخيرة طرح المسودة لتصويبها بعد النجاحات التي أحرزتها الصين في الاصلاحات الإقتصادية وتقدمها في جميع الميادين الاقتصادية خلال العقود الثلاث، وخاصة الفورة الكبيرة خلال السنوات الأربع الماضية، حيث تعاضمت مداخيل البلاد وابقي على التضخم في أدنى مستوياته الى جانب السيطرة على العجز في ميزانية الدولة. كما ادى عدم تشريع قانون الملكية في وقت سابق الى حصول إضطرابات خطيرة واسعة في الريف وصلت الى 26000 حادثة عام 2005، وقادها الفلاحون المطالبون بتشريع يضمن لهم ملكيتهم للأراضي التي إستأجروها من الدولة وعدم مصادرتها. كما أن الطبقة الوسطى المتنامية في المدن والتي زاد وزنها خلال الاصلاح الاقتصادي تطالب بضمانات لملكيتها لدور السكن وضمان ملكيتها على غرار ما يطالب به الفلاحون في الريف، إضافة الى الضرورات الاقتصادية للتعددية في الملكية والتي تعالج مشاكل النمو الاقتصادي بالرغم من جوانب من آثارها المؤلمة. ولا يخلو تصويب هذا القانون من “اهمية في إحترام مبدأ الملكية ويساعد على الاستقرار الاجتماعي ويحد من النزاعات”، كما يعبر عن ذلك ين تيان من جامعة بكين. لقد أنعكست التطورات في الصين حتى على الحزب الشيوعي نفسه، حيث غيّر مؤتمر الحزب المنعقد في عام 2004 نظام الحزب الداخلي وسمح بإنخراط رجال الأعمال في صفوف الحزب، وهو تعبير عن التغيير الجذري في المجتمع وبالتالي في الحزب نفسه.
إن من وضع الاسس لكل هذه الاصلاحات هو دينغ سياو بينغ الذي أعلن في بداية عام 1990 أن الطريق الوحيد للنمو الاقتصادي والاجتماعي في البلاد هو السماح للنشاط اللامحدود للقطاع الخاص. وإعتبر ان هذا الخيار سوف ينقذ البلاد من المصير الذي آل اليه الاتحاد السوفييتي ودول اوربا الشرقية. وقام بينغ في أواخر تحمله المسؤولية بالتعجيل بإزالة الممنوعات التي يفرضها الحزب على مؤسسات القطاع الخاص على الرغم من المعارضة الشديدة لجناح الحزب اليساري. وضمن النهج الجديد الذي إختطه الحزب الشيوعي فقد تخلت الدول عن اتباع سياسة إغراق القطاع الصناعي بالصناعات الثقيلة وتحولت الى بناء الصناعات المتوسطة. فالصناعة المتوسطة تتناسب مع حاجة السوق المحلية ومع طلبات السوق العالمية وتزيد من فرص العمالة والحد من البطالة، كما انها تلعب دوراً كبيراً في تنشيط التجارة الخارجية للصين وزيادة صادراتها مما يعود الى الصين بعوائد مالية كبيرة من ناحية، ومن ناحية أخرى تعاظم دور القطاع الخاص في هذا المجال الاقتصادي. وهكذا جرت تحولات جذرية في النسيج الاجتماعي والسياسي في الحواضر المدينية مما أدى الى زيادة المطالبات بتوفير الضمانات للملكية الخاصة ونشاطها. وهكذا تضاعف دور القطاع الخاص في مصانع البناء وصناعة المكائن بمقدار ثلاث مرات في الفترة بين عام 2000 الى 2005. وإزدادت توظيفات القطاع الخاص والتعاوني في الاقتصاد الوطني من 42% الى 60%.
إن القانون الجديد يعطي للفلاحين المزيد من الحقوق في تجديد اراضيهم التي يستثمرونها على شكل عرصات بعد انتهاء مدة العقد. كما يعطي الحق في المدينة لإستملاك الارض لفترة قد تزيد على السبعين سنة ، وعلى غرار ما هو جار في المملكة المتحدة. ومن أجل التقليل من معارضة اليساريين للقانون فقد أكدت الحكومة على انها تتمسك بمبدأ ملكية الدولة للمشاريع ذات الطابع الذي يخص أمن البلاد مثل الصناعات العسكرية ومحطات الكهرباء ومشاريع النفط والبتروكيمياويات والاتصالات ومناجم الفحم والطيران وخطوط النقل البحري. الا أن عدد المشاريع الكبرى التي تمتلكها الدولة سيستمر بالتناقص من 161 في عام 2006 الى 100-80 في عام 2010، كي يبرز بدلها 30 الى 50 من المجمعات التي تديرها الشركات المتعددة الجنسيات. ولم يغيب عن بال الحكومة اهمية العناية بالخدمات الاجتماعية وخاصة التعليم واطعام تلاميذ المدارس وشبكة العناية الصحية التي ستغطي في الاعوام القادمة 80% من المناطق الريفية بدلاً من النسبة الحالية البالغة 50%. كما ستدعم الحكومة المركزية المناطق الريفية هذه السنة بزيادة قدرها 15% وتبلغ 51 مليار دولار. كما ستزداد نفقات العناية الصحية هذا العام بمقدار 87%. كما ستنفق الدولة على التعليم مبلغاً يزيد عن العام الماضي بمقدار 39%. وينتظر ان يبلغ الناتج القومي الاجمالي للصين هذا العام مبلغ 2.4 تريليون دولار، مما يرفع الدخل السنوي للفرد الى ما يزيد على 4500 دولار ، مقارنة بالدخل السنوي للفرد في نهاية عهد ماو تسي تونغ والذي لا يتعدى بضع مئات من الدولارات.
إن تجربة الصين تؤكد عدد من الحقائق، أولها أن ارادة اي من الحركات الاجتماعية والسياسية والحركات الطامحة للعدالة والاشتراكية لا تكفي بدون توفير قاعدة مادية متطورة بكل المقايس وقادرة على تلبية الحاجات المادية والروحية للإنسان. وثانياً لا يمكن القفز على المراحل، فهناك تعاقب للتشكيلات الاجتماعية الاقتصادية، وهو تعاقب موضوعي لا يمكن تجاوزه. فمتى ما تنضج الظروف تولد التشكيلة الجديدة بدون شعارات وبرامج حزبية ودون حرق المراحل. إن العامل الذاتي يمكنه ان يرفع الوعي والطموح والتأثير الايجابي وتسريع هذه العملية الموضوعية، ولكنه لا يستطيع ان يحسم بناء المجتمع الجديد. اما ثالثاً فإنه لأول مرة في التاريخ المعاصر يتصدى حزب شيوعي لبناء مجتمع رأسمالي كي يبني قاعدة مادية تنقل البلاد لاحقاً الى مجتمع أكثر عدالة وسمو وانسانية بكل معاييره.
* الارقام مأخوذة من مجلة “الايكونوميست” البريطانية 10-16 آذار، ومن الموسوعة البريطانية.