حتى الآن لم أفهم سبباً لثورة العالم ضد حجاب المرأة، ولماذا تكثر الاعتراضات عليه، وكأنه وراء كل بلاوينا، الأمية، والفقر، والجهل، والقمع الذي يعاني منه كل من يشرب من ماء البلاد.
تابعت انتخابات البحرين، وطوال وقت متابعتي لها، كانت الصور التي التقطتها كاميرا الصحفي هي التي تشدني، وكنت قبل أن أقرأ تطورات أخبار الانتخابات، وإن كانت المعارضة ستحوز على فرص أعلى، أو أن المرأة ستثبت موقفاً ما، كانت صور النساء المغطيات بالأسود الكامل، أو كما يحب البعض تسميتهن بالمنقبات، هي التي تشغلني في الموضوع كله. منهن من حملت عريضة ومنهن من هتفت. كنتَ تستطيع من خلال هذه الخيمة السوداء المتنقلة، أن تلمس تصميماً وعزماً، حقاً أبهجني. إذن لم يمنع هذا الستار السميك الذي اعتادته المرأة البحرينية من ممارسة حقها، كان أقرب إلى زي توارثنه أو اختلقته أو حتى اختارته، في مرحلة معينة لأمر ما أو بسبب ظرف ما، لا مشكلة. لِمَ علينا الآن أن نتوقف عنده كثيراً ونثير جدالاً وصراعاً عنيفاً وانقساماً؟.
وإذا كان حجاب المرأة رمزاً لتخلفها وقبولها بالضيم، فعلينا أن لا ننسى أن الرجل برأسه العاري ينام على ضيم، والشعب كله ينام على ضيم وأن الضيم ليس فقط بسبب الحجاب. حتى الزعماء الذين يتفننون في قهر الشعوب، ينامون على ضيم ويرضخون لمن هم أكثر نفوذاً منهم.
فكيف بنا بقضية حجاب المرأة السورية أو المصرية، التي غالباً ما تكون إيشارباً مرصوصاً على الرأس، يعني تستطيع أن ترى بعيونها وتستطيع أن تبتسم وتتكلم وتعترض بذارعيها إن أحبت أيضاً، وهو أمر صار مقبولاً ومعترفاً به عند الشريحة الأكبر من أهل الحجابات. بل لا يمنعها حجابها من ممارسة حتى رقص الدبكة، وصولاً إلى رياضة الجمباز، وقد رأينا كثيرات يفعلن هذا.
باغت أمي مرة تتأمل من وراء نظارتها في صورة لها مع أبي. تبدو في غاية السعادة تلوذ به بينما أحاط خصرها بذراعه. حاولت أن تخفي الصورة عني، فسحبتها منها. وسألتها: لماذا تريدين إخفاءها؟ أجابت: كان علي أن أمزقها مثلما فعلت بغيرها. الله يعفي عنا، كنا قليلي دين.
في الصورة ارتدت أمي “مانطو” يرتفع عن الركبتين وعلى رأسها إيشارباً خفيفاً يكشف عن غرة شقراء، وبقية شعرها تطل من تحت هذا الغطاء الخفيف برقة وعفوية. كانت عيناها تضحكان بحرية، لم يحدث أن رأيت هذه الانطلاقة في وجهها. مكتوب على قفا الصورة تشرين 1949. قالت من دون أن أسألها:
ـ كنا متأثرين بالفرنساوية. لكن الحمد لله بعد ذلك هدانا الله.
أجبتها مداعبة:
ـ كنت أحلم أن تظل أمي “أكابر” هكذا.
أجابتني:
ـ الحمد لله على الدين.. والله يهديك أنت أيضاً.
صار حواري مع أمي بسيطاً وواضحاً وبلا تشنج، هي المحجّبة، وأنا “سفور”، الكلمة التي تحب أمي أن تطلقها على مظهري.
أمي الآن في الخامسة والسبعين، يحدث أن أجلس معها كي أعاتبها بلطف عن أيام كانت قاسية فيها علينا نحن البنات الخمس، تشرط على أبي كي تبقى معه أن يجبرنا على وضع الحجاب. وتقول:
ـ إن لم يضعن الحجاب فلن يتزوجن. كان أبي يصبر أحياناً عليها وعلينا، وفي أحيان أخرى ينفجر غاضباً. فينهرها في أوقات وفي أوقات أخرى ينهرنا بأمر واحد: غداً منذ الصباح ستضعن الحجاب.
كنت أردد شبه باكية:
ـ بابا، أنا لا أستطيع وضع الإيشارب، إنه يشعرني بالذل.
فيتعاطف معي محاولاً إقناعي:
ـ شِقْفة خرقة تشعرك بالذل؟.
الآن حين أبسّط المسألة أشعر أنه كان محقاً، لِمَ علينا أن نحمل قضية بسيطة رموزاً كبيرة؟.
كان من بيننا نحن الخمس من هي أكثر واقعية. تقول في حالها:
ـ أريد أن أتزوج من شاب جيد وهذا لن يتحقق إلا بالخضوع للتيار.
معظم بنات المدرسة مارسن هذه التقية وكل منهن لأسبابها الخاصة.
ومنا من كانت تمضي في تحديها وترفض وضع الحجاب وأنا منهن، مرددة كلاماً مكرراً:
ـ أنا لا يهمني الزواج يهمني أن أنسجم مع نفسي. والحجاب يشعرني بالمهانة؛ ثم أهز رأسي وأؤكد: أكرهه.
طبعاً من الفتيات جاراتنا من تربت تربية تقليدية، كانت تمارس هذا الأمر من دون أي إحساس بالأذى، كأن القضية اقترنت ببلوغ البنت، البلوغ يعني الحجاب، لكن كانت من بينهن من تقود “البسكليت” واضعة حجاباً على رأسها، ومنهن من هي ناشطة في نوادي رياضية.
أما بالنسبة لي فالمسألة كانت مختلفة. كنت أحمّل القضية فوق احتمالها بكثير، والآن حين أحلل موقفي أشعر أنه لم يكن أكثر من مواقف مراهقة. قد يكون سببه أن أبي كان يوم انتهائنا من الامتحان يدخل علينا حاملاً كيساً من القنب مليئاً بالكتب المتنوعة. تاريخ وروايات وفكر، وأحياناً مجلات تسلية وكتب مغامرات وألغاز وخيال علمي..
كانت أمي تحتج:
ـ ما صدقت خلصن امتحاناتهن كي يساعدنني في البيت.
يجيب أبي:
ـ بناتي رجال. للقراءة وليس لشغل البيت.
ربما “رجال” هذه هي السبب في إحساس المهانة من الحجاب. قضيت عاماً كاملاً أصارع أمي وأهل حارتي. إلى أن تعبت، وفي صباح تشريني، وضعت غطاء على شعري. ظللت لأيام تحت تأثير هذه الخطوة مثقلة به وكارهة. بعد شهر من وضع الحجاب على رأسي، خرجت من البيت صباحاً إلى مدرستي، ومشيت نصف المسافة، كنت مشغولة بالامتحان وشاردة. أحسست بنظرات منبهة مستغربة تتوجه إلي من الجيران، لمست شعري، واكتشفت فجأة أني خرجت بلا غطاء الرأس، نسيته. عدت إلى البيت بسرعة، وقفت أمام المرآة. رحت أتفحص شكلي به وبدونه، وأفكر بسبب بؤسي فيه. جربت، رتبته كما تفعل البنات وعقدت طرفيه وردة وابتسمت وخرجت. لكن أيضاً لم أنسجم معه، ولم أستطع الاستمرار بوضعه أبداً، لكن أفهم أن كثيرات من بنات المدرسة والجيران فعلن هذا بمرح شديد ولم يشعرهن بأي غضاضة، كانت معظم البنات المتفوقات من المحجبات المصليات، وفي الوقت نفسه، كن يتابعن أخبار الفنانين ويرقصن، ويقتنين أشرطة بالأغاني الحديثة، ولديهن أحلام عريضة في الدراسة والتقاط عريس يتشاوفن به. الآن وحين أتذكر هذه الأيام التي كان هاجس الحجاب وظلمه للبنت، يهيمن أسود حالكاً عليّ، أقول لو أنه وجد من تحدث بالأمر باستهانة، من حوَل الأمر لضحكة ودعابة، لما تحوّل إلى عقيدة تسبب هذا الانقسام الفظيع
في مدينة حماه في سوريا المعروف عنها شدة التدين، معظم النساء إن لم يكن كلهن، حتى بعض الأمهات المسيحيات، يضعن الحجاب، ومنهن من تضعه في المدينة وتخلعه خارج المدينة، والجميع يعرف هذا، لكن لا أحد يعاتبها ولا أحد يلومها، يصرون على هذا التقليد، تقليد وضع “الخرقة” على الرأس، ضمن المدينة، وإن وقع اللوم، يجري على طريقة أمي: الله يهديكن. طبعاً أمر الهداية هذا يأخذ أشكالاً متفاوتة، تبعاً لتعصب العائلة وشدة رقابتها.
ترى لو أهملت قضية الحجاب، وتركت حرة برغبة صاحبتها، ألا يخف تأثيره السلبي؟.
أليست الدعوة ضده تشبه الدعوة إليه؟.
أليس الأجدى أن يكفّ الناس عن النهي عنه كي يكفوا عن الأمر به؟.
لِمَ يصرّون على كراهيته ومحاربته، كأن متر القماش هذا سيسلبهم حياتهم ومستقبلهم؟
ولِمَ على من اختار الحجاب للمرأة، أن ينسفنا به كل لحظة، أو يلوح به في وجوهنا؟.
ألا يمكن قبوله زياً شعبياً يتغنى به، كما يفعل الشعراء حين يتغنون بعصبة رأس الأم وشمبر الفلاحة، وذهبياتها التي تعلّقها حول جبينها؟.
ربما كلامي هذا يثير الطرفين ضدي، لابأس. ما أتمناه حقاً أن لا تأخذ هذه القضية من أوقات الشعوب أكثر مما أخذت وضيعت.
sarraj15@hotmail.com
* روائية سورية- استوكهولم