يشاع خطأ إلى كون الموقف الممانع للكتاب المُختلف، أو الرافض لخطاب الآخر عموماً، هو الموقف الأصيل إطلاقاً، المستمد لمشروعيته من التاريخ الإسلامي حصراً، وبالتالي فإنه، هو الموقف “الإسلامي” الصحيح، وما دونه مروق واقتراف لمعصية أو زندقة. يصدر هذا الحُكم متجاهلاً ظروف إنتاج تلك المواقف السائدة؛ التاريخية والسيسيولوجية.
إذ صحيح أن التيار المنغلق على الآخر، والمتزمّت إزاء الذات، والذي ورثناه في مجتمعاتنا الإسلامية المعاصرة، له جذوره السلفية وعمقه التاريخي في تراثنا، إلا أن الحقيقة أنه تيار لم يكتسب صيغته المفروضة تلك لحقيقته العلمية أو لسلامته المعرفية مطلقاً، بقدر ما اكتسب مشروعيته المنفردة في المجتمعات الإسلامية بفضل تاريخ طويل من التوظيف السياسي والهيمنة الاجتماعية.
في تاريخنا -تمثيلاً- وجدنا السياسي ممثلاً في الحاجب المنصور بن أبي عامر، يحرق الكتب الفلسفية وسائر كتب الأوائل، ويضطهد ممثلي التيارات العقلية في الأندلس، من بعد وفاة الخليفة المتنوّر الحَكَم الثاني، تقرباً من العامة، وتوظيفاً لمواقفهم في دعم سلطانه الجديد.
فالخليفة الحَكَم الثاني كان إبان حُكمه قد “استجلب من ديار المشرق.. عيون التواليف الجليلة والمصنفات الغريبة في العلوم القديمة والحديثة.. (حتى) جمع فيها ما كان يضاهي ما جمعه ملوك بني العباس في الأزمان الطويلة.. (مما دعا) الناس في زمانه إلى قراءة كتب الأوائل (أي الفلسفة) وتعلم مذاهبهم”، وذلك بحسب شهادة القاضي صاعد الأندلسي التي كتبها عياناً عام 460 هـ. إلا أن تسلط الحاجب المنصور بن أبي عامر الذي عادت إليه أمور تدبير الملك من بعد وفاة الحَكَم، لصغر سن وريثه في المُلك ابنه هشام المؤيد بالله، كان قد “عمد أول تغلبه عليه إلى خزائن أبيه الحَكَم الجامعة للكتب المذكورة، وأبرز ما فيها من ضروب التواليف بمحضر خواصه من أهل الدين، وأمرهم بإخراج ما في جملتها من كتب العلوم القديمة المؤلفة في المنطق وعلم النجوم وغير ذلك من علوم الأوائل .. فأمر بإحراقها وإفسادها، فأحرق بعضها في آبار القصر وهيل عليها التراب والحجارة، وغيّرت بضروب من التغايير”، إذ إن ذلك الصنيع والفعل ما كان إلا “تحبباً إلى عوام الأندلس وتقبيحاً لمذهب الخليفة الحَكَم عندهم” (صاعد الأندلسي: “طبقات الأمم”).
وتأتي شهادة الإمام المقري التلمساني، في “نفخ الطيب”، عام 1038 هـ، بمثابة الملخّص لأوضاع الفكر في الأندلس، بشكل يحسم المسألة من أوجهها السيسولوجية. إذ يصف المقري أهل الأندلس بقوله؛ “وكل العلوم لها عندهم حظ واعتناء، إلا الفلسفة والتنجيم، فإن لهما حظّاً عظيماً عند خواصهم، ولا يتظاهر بهما خوف العامة، فإنّه كلّما قيل فلان يقرأ الفلسفة أو يشتغل بالتنجيم أطلقت عليه العامة اسم زنديق، وقيدت عليه أنفاسه، فإن زلّ في شبهة رجموه بالحجارة أو حرقوه قبل أن يصل أمره للسلطان، أو يقتله السلطان تقرباً لقلوب العامة، وكثيراً ما يأمر ملوكهم بإحراق كتب هذا الشأن إذا وجدت، وبذلك تقرب المنصور بن أبي عامر لقلوبهم أول نهوضه وإن كان غير خالٍ من الاشتغال بذلك في الباطن على ما ذكره الحجاري”. (الإمام المقري التلمساني: “نفخ الطيب من غصن الأندلس الرطيب”).
هكذا إذاً كانت اعتذارية السلاطين وأهل السياسة للعوام المُعبرين عن تركيبتهم الاجتماعية القرن – وسطية حينها، سبباً لإضفاء الشرعية الأخلاقية والتاريخية على الموقف الداعي إلى إلغاء الآخر، وسبيلاً إلى شرعنة إقصائه على مستوى الخطاب والوجود. فيما لم يكن انتصار ذلك الموقف، واحكامه على شكل النظام المعرفي في المجتمعات الإسلامية في القرون اللاحقة لحضارة المسلمين، مرَدّه امتثاله للرباني أو المقدس أو المتعالي، كما قد تذهب ببعضنا الظنون.
في المقابل نحن لدينا تلك الصورة المضيئة للخلفاء العباسيين المتقدمين الذين اعتنوا بالعلوم والمعارف ودعموا حركات الترجمة والتأليف، على المستوى الكوني بأسره. من أمثال الخليفة المنصور، وهارون الرشيد، وابنه الخليفة المأمون، الذي وصلت حركة العلم في زمنه إلى ذروتها متمثلة ببيت الحكمة في بغداد، الذي كان أضخم مكتبة لترجمة العلوم والمعارف الكونية، وداراً للتأليف والتدريس والبحث والرصد الفلكي، استمر صدى إشعاعها الحضاري حتى نهاية القرن الرابع الهجري.
وإجمالاً فإن الموقف المنفتح على العلوم والمعارف، والمتقصي للحياد الأخلاقي، هو الذي جلب لنا عصر الحضارة. وقتها كان الحُكم على الكتاب لدى خليفة كالمأمون تحكمه أصول الحياد التام وتقاليد المحاججة العلمية، فـ”الكتب عقول قومٍ وراءها عندهم حججٌ لها، فما ينبغي أن يُقضى على كتابٍ إلا إذا كان له دافع عنه، وخصمٌ يبين عما فيه”. (المصدر الجاحظ: “الرسائل”، والحديث للمأمون).
في تلك البيئة العباسية المنفتحة بالذات، صدرت أهم منجزاتنا العلمية، وأجلّ ما قدمناه للإنسانية، من قبل رواد في الرياضيات والجبر والبصريات والفيزياء والكيمياء والفلك والطب وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا والجغرافيا والفلسفة وعلم الكلام والفقه والنحو والعلوم الدينية والروحية وكل معارف الكون في تلك الفترة. وهل يمثل دعاة الانغلاق والوصاية الفكرية المعاصرين؛ إرث الخوارزمي وابن الهيثم ونصير الدين الطوسي وجابر بن حيان وثابت بن قرّة وأبي الوفا والكركي والكندي وابن سينا والرازي وعلي الطبري والفارابي والبيروني والمسعودي والماوردي، وباقي علماء فترة الانفتاح الإسلامي؟ هيهات.
إن الاستمرار في تجاهل النقد التاريخي للأيديولوجيا المنغلقة التي وردتنا عبر عصور الانحطاط، وقبولها هكذا على علاّتها وكأنها وحي منزّل، هي ما يجعل مبطلي نصاب الحضارة الإسلامية من انفتاح وحياد وتسامح، يستمرون في تجاوزاتهم المعرفية ويستمرئون إصدار أحكامهم الرجعية الصارمة، عوضاً عن الافتقار إلى المكونات الأساسية من الحضارة الإسلامية والتعويل عليها.
إن الحجر على الفكر، والوصاية على العقول، والتعصب للآراء، أمر قبيح ومخّل بالقيم الدينية والإنسانية. ومحنة الفيلسوف ابن رشد ومحاكمة الفيلسوف ابن سينا من جهة، ومحنة الإمام ابن حنبل أو اضطهاد الفقيه ابن تيمية من جهة أخرى، سيان في البشاعة ومجانبة الصواب النقلي والعقلي.
أين نحن بعد ألف سنة، من حكمة الفقيه ابن حزم، الذي يقول فيما أحرق له المعتضد بن عباد من الكُتب:
فإن تحرقوا القرطاس لا تحرقوا الّذي *** تضمّنه القرطاس بل هو في صدري
يسير معي حيث استقلّت ركائبي *** وينزل إن أنزل ويدفن في قبري
دعوني من إحراق رقٍّ وكاغدٍ *** وقولوا بعلم كي يرى النّاس من يدري
بل أين نحن من قاعدة العلاّمة فخر الدين الرازي الأصولية، وهو الذي كان فقيهاً شافعياً ومن أشهر من اختلف مع الفلاسفة، إذ قال في مقدمته لشرح كتاب “الإشارات” لخصمه الفكري الفيلسوف ابن سينا: “إن التقرير غير الرد، والتفسير غير النقد”، فكان ينبّه إلى الاختلاف، ويمارس حقه في الردّ، إنما يتقيّد بأصول النقد العلمي، ويعرض أفكار مخالفه كاملة، بل ويشرحها، لا يطمسها، أو ينفيها.
mahmoud_sabbagh@hotmail.com
عن الوطن السعودية 20-3-2007