كان محتماً أنّ أنساق النهب الشمولي، المنفلت من كلّ عقال قانوني أو أخلاقي لأنه يشكّل مظهراً تكوينياً في بنية نظام شمولي استبدادي يعتبر سورية مزرعة للمافيات الحاكمة، سوف تنحطّ إلى هذا الدرك الهمجي: تخريب دمشق العتيقة، وهدم أسواقها العريقة، وطمس مجلدات بأسرها من تاريخها الأيوبي والمملوكي، بغية إقامة منشآت سياحية ومجمّعات تجارية، وتخديمها بكلّ ما يتيح اصطياد السائح وإجباره على الإنفاق (بين هذه، مثلاً، ترميم “مقام السيدة رقية” لاجتذاب الحجّاج الإيرانيين!)، دون أي اكتراث بالعواقب العديدة البشرية والتاريخية والآثارية والمعمارية والاقتصادية والثقافية التي ستخلّفها هذه الجرائم الصريحة المعلنة.
وهكذا، لم يعد يشبعهم أنهم ينهبون ـ مثل ضباع شرهة جشعة لا تشبع ـ في قطاع الاتصالات والهاتف الجوّال والأسواق الحرّة وصناعة الإسمنت، وما خفي من أشغال حرام هنا وهناك، فكان لا بدّ لهم أن يخرّبوا لكي يشتغلوا بإعمار ما خرّبوا، مع فارق أنهم يهدمون ما لا يجوز تهديمه، ويمسّون ما ينقلب أيّ مساس به إلى جريمة كبرى بحقّ الإنسان والتاريخ في آن معاً. والمدهش أنّ دمشق سوف تكون عاصمة العرب الثقافية في العام المقبل، 2008، وهدية الضباع لها في هذه المناسبة ـ بتواطؤ تامّ من محافظة دمشق ووزارتَيْ الثقافة والسياحة، حيث تؤدّي هذه مواء القطط السمان، اللازم للتغطية على عواء الضباع الكاسرة ـ تبدو استكمالاً للجزاء الهمجي الذي لاقته المدينة على يد هولاكو، قبل أكثر من ستة قرون!
وإلى الذين لم تبلغهم تفاصيل هذه الأخبار بعد، هنا مختصرها: المشروع يتضمن هدم عدد من أسواق دمشق القديمة، بينها “سوق المناخلية” و”سوق العمارة”، وإزالة آلاف المحالّ التجارية العتيقة والتقليدية، ونحو ستة آلاف منزل سكني، على طول 1400 متر محاذية لسور دمشق. هذا، في عبارة أخرى، يعني تشويه الشخصية العمرانية، لكي لا نقول محوها نهائياً، للمنطقة الموازية لـ “شارع الملك فيصل” والممتدة بين “بحصة سنجقدار” و”القيمرية”، مروراً من سوق الهال القديم والجامع المعلّق، وصولاً إلى “باب السلام” و”باب توما”.
العجيب، أوّلاً، أنّ ذريعة المشروع هي “كشف سور دمشق”، كما أخذ محافظ العاصمة يرطن في لقاءاته العاصفة مع المواطنين المتضررين، متناسياً أنّه “لا يوجد أصلاً سور وإنما توجد منازل قديمة جداً ومهترئة مسندة بأعمدة خشبية لكي لاتقع على الأرض، إضافة الى وجود مجرى نهر بردى سابقاً الذي تحول مجراه لمياه آسنة”، كما جاء في الشكوى التي رفعها مئات المواطنين. والمشروع، في جانب عجائبي آخر، يستند إلى مخطط وضعه مهندس معماري فرنسي منذ قرابة أربعة عقود، وكان طبيعياً أن لا يعبأ الرجل بتاريخ دمشق الأيوبية أو المملوكية (هل نتذكّر الجنرال االفرنسي غورو، الذي دخل دمشق غازياً، فقصد قبر صلاح الدين الأيوبي في الجامع الأموي، ليطلق عبارته الشهيرة: “ها قد عدنا يا صلاح الدين”!).
العجيبة الثانية أنّ منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) تبدي من القلق على هذا التراث التاريخي والعمراني، أكثر بكثير من قلق السلطات السورية، ليس السياسية أو الإدارية وحدها، بل السلطات الآثارية أيضاً! ففي رسالة إلى وزير الثقافة السوري، كتب مدير “مركز التراث العالمي” فرنشيسكو باندارين: “إن حماية موقع التراث العالمي في دمشق لا تقتصر على المدينة الواقعة داخل السور، وإنما تمتد الى مجموع المنطقة المجاورة. وأن يقع مشروع الطريق خارج الأسوار أمر لا يعني أنه يتفادى بالمطلق التأثير الهائل على المدينة القديمة، إذْ يمكن أن يؤثر على قيمتها كتراث عالمي”.
من جانبها لا تكفّ المديرية العامة للآثار والمتاحف عن التبرّع بالقول إنّ “سوق المناخلية” لا يرتدي قيمة آثارية تبرّر الدفاع عنه وتحريم هدمه، رغم أنّ السوق ليس جزءاً لا يتجزأ من تراث دمشق المعماري والتاريخي والثقافي فحسب، بل المهني أيضاً، إسوة بعشرات الأسواق الدمشقية القديمة التي اكتسبت أسماءها من اختصاصاتها (سوق البزورية، سوق السكر، سوق الحرير، سوق القماش، سوق القطن، سوق الصابون، سوق الجلالية، سوق الخيل، سوق القباقيبية، سوق الخواصين، سوق الصباغين…). وإذا كان “سوق المناخلية” ليس من ذلك التراث الثرّ العابق بالتاريخ، فكيف حدث أنّ محافظة دمشق التي تنوي هدمه اليوم، هي ذاتها التي وضعت لوحة في أوّل السوق تقول التالي: “المناخلية: نسبة لسوق متخصص في صناعة المناخل وبيعها، ورد ذكره في العهد المملوكي”؟ وهنا لا مناص، بالطبع، من استحضار المفارقة الموازية المحزنة: السيدة نورا وليد جنبلاط تتولى ترميم “بيت مجلد”، الذي يعدّ أحد أجمل البيوت الشامية في المدينة القديمة؛ وكذلك تفعل الشيخة حصة الصباح، الكويتية، مع ثلاثة منازل أخرى؛ ويختار المعهد الهولندي “بيت العقاد” القديم مقرّاً له، بعد ترميمه…
ينبغي أن لا يمرّ المشروع، إذاً، ويجب الإنضواء دون إبطاء في صفّ ناشطات وناشطي المجتمع المدني في سورية، الذين يشتغلون ضدّه بهمّة قصوى ويقظة عالية، ويسترعون الانتباه حتى في صحف السلطة الرسمية. ذلك لأنّ ما سيجري جريمة فاحشة ضدّ دمشق الأيوبية والمملوكية، وضدّ تاريخ البلد مباشرة، وهو بالتالي أخطر بكثير من أيّة واقعة سابقة شهدت عواء الضباع الكاسرة إياها، هنا أو هناك في أرجاء سورية الأسيرة المعذّبة!
s.hadidi@libertysurf.fr