لم يكن قرار الصوم عن الكلام والقلم الذي أَُكرِه عليه سيد القمني من قِبَل سالبي الأرواح وسارقي الأحلام ، جُبنا أو خُرْقا يستعدي عليه الأقربين قبل الأبعدين . إن سيد القمني ضمّن بيانَه خيبات الأمة وبوار العقل وحقارة المثقف في ظل أوضاع سياسية طفا على سطحها الارتزاق والانتهازية والهرولة إلى حيث المال أو العمائم . وظل سيد القمني صاحب مبدأ وخيار ألاّ يفجُر ولا يَعْهَر كما هو دأب الكثير ممن ينتسب زورا وبهتانا إلى ساحة الفكر والثقافة . لقد كان سهلا عليه إسدال اللحية وارتداء العمامة والانقلاب على المثقفين ” العضويين” تسفيها لآرائهم وتبخيسا لأشخاصهم بعد رميهم بالزندقة والشيطنة . ولو فعلها لن يكون وحيد الفعلة ولا آخرها ، فقد عرف تاريخنا العربي/ الإسلامي نماذج شتى ، علا قدرُها ليس بالعلم والدراية ، ولكن بالتبهيت والنكاية . وما أبو حامد الغزالي الذي صار حجة الإسلام سوى واحد ممن عادى العقلاء وتجنى على المناطقة ، فجَعَلت هذه الأمة ، بأئمتها وسلاطينها ، من آرائه سكاكين سامة ومشانق غامة لم يفلت من ويلاتها فقيه الفلاسفة وفيلسوف الفقهاء ابن رشد بقضه وقضيضه . وكذلك ظل حال أهل الفكر والرأي طريدي الرعاع ، عديمي الحيلة وفاقدي الوسيلة . وكل صاحب سلطة ، دنا مركزه إلى قائد مقاطعة ، أو علا شأنه إلى وزير أو حاكم ، تطوق سكناه وتحمي تنقلاته جحافل العسس والحرس ، على أكتافهم رشاش لا يترددون في استعماله ضد كل من تحسسوا منه خديعة أو تلمسوا فيه دسيسة . إلا صاحب فكر حر تخاف الدولة منه ولا تخاف عليه . إن هذا التواطؤ الضمني والصريح بين رجال الدولة ورجال الدين على نبذ المفكر وتخوينه وتكفيره ثم جز رقبته ، لهو الذي اغتال في سيد القمني كل أمل وأقبر فيه كل إحساس بالأمن توفره أجهزة وُجدت للغرض ذاته في كل بلاد الدنيا الحرة ، عدا دنيانا العربية . ولن تكون الدعاوى التي وجهت للدكتور القمني ليشد عضده ويربط جأشه ويخوض غمرات المواجهة بحمية دون حماية ، سوى شعارات من جنس تلك التي تطلقها المسيرات “المليونية” من قلب العواصم العربية ، والتي لا تجلب أمنا ولا توفر رغيفا لشعب فلسطين أو العراق أو الشيشان . لهذا لا نطلب من سيد القمني أن يظل يواجه نيابة عنا جميعا خطر الإرهاب والتطرف الذي نهادنه ونداهنه ، أو يفدي بروحه الطيبة فكرا حرا نحن أول من يعقره ، أو يبني مواطنا أبيا نحن أول من يغدره أو يهجره . وما وضعية الأستاذ الجليل العفيف الأخضر الصحية والمالية إلا دليل على تعاسة كل ذي مبدأ وغبنه. إن حالنا في الجبن والانتهازية أسوأ من حال بني إسرائيل وهم يقولون بكل جبن وخسة للنبي موسى عليه السلام ( فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون ) . أو حال الشيعة وهم يحرضون الإمام الحسين على خوض الحرب لاسترداد “حق” الخلافة المغتصب ويعدونه بأن يكونوا له مناصرين لا يرضون عن الشهادة بديلا . لقد كان الإمام الحسين راغبا عن الشهادة متنازلا عن الخلافة لولا تحريض المحرضين الذين دفعوا به إلى ساحة القتال وانسلوا جبناء خائفين ، فكانت المأساة التي لم ينفع في محوها شق الجيوب أو لطم الخدود أو لبس السواد في كل يوم عاشوراء ، ذكرى مجزرة كربلاء . إن سيد القمني أشد وعيا بالخطر وأكثر إدراكا لدنوه منه وليس له في الأمن والأمان نصيب . وحسبه تقديرا أنه أطلق صرخة الاستغاثة ودق ناقوس الخطر وكشف المستور في مصر “المحروسة” التي غشاها الإرهاب من المساجد إلى الفضائيات ، كل جمعة وكل حلقة ، كل برنامج وكل لقاء يفوح منه التطرف وتبث فتاواه ، فيكون الأمر لله وحده من قبل ومن بعد أن ينفجر الشباب قنابل لا تبقي بشرا ولا حجرا . لذا لا نقسو على سيد القمني بل نشد من أزره وهو الذي يرى من حوله إما فارا من بلده إلى حيث الغربة والأمان أو فارا من قدره إلى حيث الصمت سلوان ، أو ساعيا إلى المال والعمائم دون جهد جهيد أو وخز ضمير . وإذا كان الشيخ جمعة ، مفتي مصر “المحروسة” غير فتواه في إمامة المرأة لغيرها في الصلاة ، وتراجع عن إجازتها دون أن يقسو عليه أحد ، فما المانع أن يفعل القمني في أمر شخصي لا شرعي ؟ وحسب السيد القمني شرفا أنه وضع الدولة أمام واجباتها والمثقفين أمام ضمائرهم والجمعيات الحقوقية أمام مسئولياتها خاصة بعد أن نصبت نفسها مدافعة عن حق شيوخ التطرف وأمراء الدم في نشر فتاواهم الشيطانية وهذياناتهم الإرهابية . وأن يقيم سيد القمني سرادقا للفكر والمفكرين يعزيهم في موتهم المعنوي ويبكي يُتمهم وبؤسهم ، أفضل من أن يقيموه له بعد اغتياله ـ لا قدر الله ـ حيث لا أذن سمعت ولا عين دمعت ولا خطر على قلبه عرائض الإدانة ومقالات الشجب وقصائد الرثاء . وكلها لن تخفف من حزن ذويه ولن تغير من موقف أعدائه
ملحوظة : أليس عيبا وشماتة أن يصل بالكاد ـ بعد كل هذه المدة ـ عدد المتضامنين مع الأستاذ القمني في محنته 690 ، بمن فيهم المكررة أسماؤهم أو الناقمين؟ الشامتين .