لقد اختلفت آراء الفقهاء حول العلاقة مع الدولة في عصر الغيبة فمنهم من ذهب إلى عدم شرعيتها وعدم جواز التعامل معها بوصفها غاصبة للحق من أهله الشرعيين وقائمة على الظلم و الجور ومنهم من ذهب الى شرعيتها وإلى ضرورة المشاركة فيها و إقامة العلاقات معها حفظاً للنظام العام و تحقيقاً لمصالح الناس دفعاً للأضرار و المفاسد وجلباً للمصالح و المنافع التي لا يمكن أن تقوم للمجتمع قائمة بدونها وقد اشتدّ هذا النزاع بين الفريقين في أوائل القرن الماضي عندما طالبت بعض الجماعات الدينية و الاجتماعية في ايران بإدخال إصلاحات على النظام الملكي آنذاك و بعضهم أصبح من حيث يدري أو لا يدري من المؤيدين للإستبداد و الرافضين للإصلاح من خلال النظرة السلبية إلى الدولة و السلطة وما يتفرع عنهما وذلك لعدم الجدوى من استبدال ظالم بآخر أو استبدال قانون من قوانين الظلم بقوانين أخرى في نفس السلطة الظالمة وبقيت هذه الشبهة مستحكمة في أذهان الكثيرين ولا يزال بعضها عالقاً في أذهان بعض طلبة العلوم الدينية في زماننا ولعلّ منشأ الشبهة قد تولّد من خلال بعض المصطلحات الشرعية التي تدرس في علم الفقه حيث يطلق فيها على الفقيه الجامع للشرائط بأنّه الحاكم الشرعي بحيث يفهم منه أن كلّ حاكم سواه هو حاكم غاصب للسلطة فاقد للشرعية مع أن المقصود من مصطلح الحاكم الشرعي ناظر الى أهلية إصدار الفتاوى و الأحكام الشرعية وليس ناظراً الى الحكومة الفعلية و السلطة السياسية المنبثقة عن نظام سياسي مدني و غير ديني ففي الفقه السياسي يوجد فرق بين الحاكم الشرعي بمعنى المرجعية الدينية في التشريعات الدينية وبين الحاكم بمعنى الأمير الذي يشكّل مرجعية في النظام السياسي وأساساً لحفظ النظام العام من الإنهيار الناتج عن فراغ المؤسسات القيادية و القانونية التي لا بدّ منها في حفظ مصالح البلاد و العباد وهذا ما اشار إليه الإمام علي عليه السلام في جوابه عن شبهة الخوارج و شعارهم عندما قالوا : ليس لك الحكم يا علي ( الحكم لله) فقال عليه السلام : كلمة حق يراد بها باطل، نعم لا حكم إلا لله ولكنّ هؤلاء يقولون : لا إمرة إلاّ لله وإنّه لا بدّ للناس من أمير برّ أو فاجر يعمل في إمرته المؤمن ويستمتع فيها الكافر ويبلّغ الله فيها الأجل ويجمع به الفيء و يقاتل به العدو وتأمن به السّبل ويؤخذ به للضعيف من القوي حتّى يستريح برّ و يستراح من فاجر).
وقد أبطل الإمام عليه السلام هذه الشبهة المؤدية الى الفراغ القاتل وانهيار الدولة التي لا بدّ لمجتمع من قيامها ووجوب العمل فيها على الموالي و المعارض مع غض النظر عن الرفض و القبول والإيمان والكفر بهذه الامرة و الحاكمية حفظاً لضرورة قيام المجتمعات و استمرارها واستقرارها من خلال الدعائم الأربعة للنّظام السياسي و الاجتماع البشري التي تدخل عند الفقهاء في الواجبات النظامية التي لا يجوز تعطيلها بحال من الأحوال وهي نظام الدفاع عن البلاد وأشار إليه الامام (ع) بقوله ( يُقاتَلُ به العدو) ونظام الأمن الداخلي الذي يمنع اعتداءات الناس بعضهم على بعض ويحفظ سبل التواصل مفتوحة بينهم وقيام العلاقات بين مختلف الجماعات و المناطق و أشار إليه بقوله ( و تأمن به السُّبُل ) ونظام قضائي يحفظ الحقوق و يعاقب المذنبين كما في قوله ( و يؤخذ به للضعيف من القوي حتى يستريح بر و يستراح من فاجر ) و نظام الفيء الذي يعني الخراج وجمع الضرائب وتوزيع الثروات لأنه لا قيامة للأنظمة الثلاثة التي بها قوام المجتمع بدون الخزينة التي تؤمّن النفقات اللازمة للقيام بتلك الأعباء وغيرها وأشار إلى ذلك بقوله (يُجمع به الفيء) وكل هذه الأنظمة اللازمة لحياة وبقاء الأوطان تتوقف على سلطة تنفيذية بيدها الأمر و النهي وهو ما عبّر عنه الامام عليه السلام ( بأنه لا بدّ للناس من أمير بر أو فاجر) ومن خلال ذلك يظهر أن الدولة هي ضرورة اجتماعية عقلائية تكتسب شرعيتها من الواقع المشتمل على حاجة العباد لجلب المصالح ودفع المفاسد الواجبة عقلاً وعقلائياً.
وهذا الرأي في شرعية الأنظمة و الدول قد ذهب إليه فقهاء المشروطة في أوائل القرن العشرين عندما وقع النزاع في إيران حول إدخال تعديلات على إصلاح النظام الملكي آنذاك وكان في مقدمة الفقهاء المؤيدين و المطالبين بالاصلاح المحقق الآخوند صاحب الكفاية و أستاذ الفقهاء و المجتهدين الميرزا النائيني الذي ألف رسالة بهذا الشان أسماها ( تنبيه الأمة و تنزيه الملّة ) أودعها تحقيقه و رأيه الفقهي في ضرورة قيام الدولة المدنيّة و مشروعيتها في عصر الغيبة و لزوم العمل على إدخال الاصلاحات المانعة من الظلم و الاستبداد وقد عبّر عن هذا الرأي بقوله : ( إن ما اتفقت عليه جميع الأمم الاسلامية بل عقلاء العالم أجمع هو ان استقامة نظام العالم و تعيّش البشر متوقف على وجود سلطنة وحكومة سياسية سواء قامت بشخص واحد أو بهيئة جمعية وسواء كان المتصدّي لها غاصباً قاهراً أو وارثاً أو منتخباً).
وهذا التوقف المذكور مع السيرة التي أطبق عليها العقلاء هو في مضمون ما أشار إليه الإمام علي (ع) في الخبر الذي تقدّم الحديث عنه – وقد قسّم الميرزا النائيني السلطة السياسية إلى قسمين :
إلى سلطة استبدادية باطلة لا يمكن إثبات شرعيتها بحال من الأحوال لأنها قائمة على استعباد الناس واسترقاقهم وقد خلقهم الله أحراراً وسلطة دستورية تخضع للقوانين التي تحدّ من الظلم و الاستئثار وتمنح الحرية لأفراد المملكة وأطلق عليها اسم السلطنة المحدودة و المقيّدة و المشروطة و المسؤولة و العادلة وغير ذلك من الأسماء التي تخرجها عن طور الاستبداد الفرعوني و أطلق على القائم بهذه السلطة و الممسك بها إسم الحافظ و الحارس و القائم بالقسط و المسؤول و العادل و أطلق على الشعب و الأمّة الخاضعة لهذه السلطة و الصانعة لها بالأمة الحيّة و الحرّة و الأبية و المحاسبة ( بالكسر) و الذي يظهر من كلام الميرزا النائيني قدس سره أنّ السلطة بطبعها هي سلطنة مدنية و القائم بها قد يكون واجداً للصفة الدينية كالرسل و الأنبياء و الأئمة المعصومين وقد يكون فاقداً للصّفة الدينية كما هو الحال في عصره وعصرنا و ما سبقهما من عصور كانت فيها الدول و الشعوب ولم تكن السلطة فيها بيد الأنبياء و لا بيد الأوصياء و الوارثين من العلماء .
و المستند في شرعية هذه الحكومات المحدودة السلطة و المسؤولة أمام الشعب و القانون هو كما يقول الميرزا النائيني قدس سره أن حقيقة هذا القسم من السلطة ( المقيّدة و المحدودة ) هو من باب الولاية و الأمانة كسائر الأمانات و الولايات المشروطة بعدم التجاوز و المقيّدة بعدم التفريط فلا محالة أن يكون القائم بأمرها و الحافظ لحقيقتها و المانع عن تبديلها إلى ملكية مطلقة استبدادية و الرادع عن التعدّيات و التجاوزات فيها منحصراً بتلك المراقبة و المحاسبة و المسؤولية الكاملة لا غير. وأعلى وسيلة يمكننا تصورها في مقام حفظ هذه الحقيقة من السلطنة ووظائفها تكون في الامام المعصوم …)[1] .
ولذلك اعتبر فقهاء الإمامية أن تكون ولاية السلطنة للإمام المعصوم الذي تشكّل مؤهلاته ضمانة لحفظ الحقوق و دفع الظّلم و التعدّيات و تحقيق العدالة الّتي لا تشوبها شائبة النقصان لأنّه لا تأخذه في الله لومة لائم و لا يتأثّر ببطانة السوء و لا ينحاز إلى قرابة و لا يخضع لرهبة أو لرغبة كما قال الامام علي عليه السلام:
( القويّ عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه و الضعيف قويّ عندي حتى آخذ له الحق).
وهذا هو الملاك و الجوهر لاعتبار العصمة في موقع الامامة التي هي رياسة في الدين و الدنيا تعتمد مبدأ الحرية للرعيّة و المساواة بين أفرادها و ليست رياسة استبدادية كما قال الامام علي (ع) في عهده لواليه على مصر مالك الأشتر:
(وأشعر قلبك الرحمة للرعية و اللطف بهم و العطف عليهم و لا تكونن سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم فإنهم صنفان إمّا أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق).
هذا هو الخيار الأوّلي لتولّي منصب الرياسة ومشروعية السلطنة و التصدّي لإدارة شؤون البلاد ورعاية أمور العباد وإن شئت قلت بأنّ الضرورة و اللابدّيّة التي عبّر عنها الامام عليه السلام في امتناع فراغ الاجتماع البشري من القيادة التي تقوم بذلك الدّور المانع من الانهيار في حياة المجتمع فإن العقل و العقلاء يحكمون بضرورة سدّ هذا الفراغ بأفضل الصور و أحسن الأشكال المانعة من الفساد و الإفساد و المحقّقة للأهداف و الغايات ولا يتأتّى ذلك إلاّ من القيادة المعصومة عن الخطيئات و المنزّهة عن الشّبهات ولكن حيث يمتنع سدّ الفراغ بالقيادة المعصومة لسبب من الأسباب في الحضور أو الغياب، فإن الضرورة واللابدّية باقية على حالها تستدعي ملء ذلك الفراغ القيادي الحاصل لعدم إيمان العقل و العقلاء بالتعطيل لذك قال الامام عليه السلام (وإنّه لا بدّ للناس من أمير برّ أو فاجر) ومن خلال هذه الضرورة ومن الدّور الذي تقوم به القيادة البديلة في حياة الناس تُسبَغ صفة الشرعية على السلطنة وقيادتها و الدّولة و مؤسساتها بالمصطلح السياسي الحديث.
و بتعبير فقهيّ آخر بأن الواجب المطلوب من إقامة السلطة و الدولة تحقيق العدالة بأعلى مراتبها التي تتجلّى في نظام القيادة المعصومة وعندما تتعذّر بعض مراتب العدالة الواجبة ويمتنع بعض أفرادها الكاملة فلا مبرّر لسقوط المراتب الأخرى المقدورة منها وقد عبّر الامام علي (ع) عن الهدف من قيام السلطة في مواضع عديدة منها ما تقدّم ومنها عندما قال لابن عباس عندما دخل عليه و هو يصلح نعله في معركة صفين فقال له:
(يا بن عباس ما قيمة هذه النعل قال: لا شيء يا أمير المؤمنين فقال عليه السلام: إنها عندي أفضل من إمرتكم إلاّ أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً.) وهو المستفاد من موقفه المعلن من الخلافة عندما قال:
(لأسلّمنّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جورٌ إلاّ عليّ خاصّة).
وما ذكرناه من عدم سقوط الوجوب عن مراتب العدالة الأخرى بسقوط المرتبة العليا هو المستفاد من قاعدة الميسور لا يسقط بالمعسور الثابتة عند الفقهاء واستناداً إلى قولهم عليهم السلام (ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه) التي جاءت تأييداً لارتكاز موجود عند العقلاء يمنع من اختصاصها ببعض الأبواب الفقهية.
والواجب المركّب من أجزاء وإن كانت أجزاؤه متلازمة في الوجوب و السقوط و مترابطة في الثبوت و الإرتفاع فيسقط وجوبه عند تعذّر بعض الأجزاء عقلاً فيحتاج إلى أمر جديد بالباقي تتكفل هذه القاعدة بإثباته على القول بشمولها للواجبات المركّبة المترابطة الأجزاء وأمّا في الواجبات المستقلّة ذات الأفراد المتعدّدة و المراتب المختلفة كما فيما نحن فيه من إقامة السلطة العادلة التي تحفظ حقوق الناس وسلامة المجتمع فلا شكّ عند الفقهاء في عدم سقوط الوجوب بتعذّر بعض الأفراد أو المراتب وتتفق في ذلك مع قاعدة الإتيان بما يستطاع المستفادة من الحديث المروي عن النبي (ص): (إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم) وكما هو الحال في المرتبة العليا للعموم الإستغراقي التي لا يسقط الوجوب فيه عن بقية المراتب بسقوط الوجوب عنها لخروجها عن القدرة.
نعم لا تجري هذه القاعدة في شرائط الوجوب عند تعذّر بعض الشرائط و سقوطها فإذا كان الوجوب مشروطاً بعددٍ معيّنٍ مثلاً أو بإمكانات محدّدة كما في قوله تعالى ( فإن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين) فإنّ الوجوب حينئذٍ يسقط بسقوط شرطه و لا مجال حينئذٍ لجريان هذه القاعدة و تفصيل الكلام في ذلك موكول إلى محلّه.
وقد ذكر الميرزا النائيني قدّس سرّه إندراج مسألة السلطة المشروطة وإصلاحها و شرعيتها تحت مسألة المنع من الغصب الزائد المعروفة عند الفقهاء حيث ذهبوا إلى جواز بل وجوب العمل مع الغاصب في تشكيل إدارة تمنع من استشراء الغصب و ازدياد الفساد و المنع من المزيد من ضياع الحقوق و لزوم حفظ ما أمكن منها حيث لا يتمّ ذلك إلا من خلال المشاركة في الإدارة الناظمة للعمل والحافظة لحقوق الأفراد وبذلك يعرف أن الضرورة الممضاة شرعاً هي الدّاعية إلى قيام الدولة ومنها تكتسب الدّولة شرعيتها ومن لزوم تحقيق العدالة بأفرادها الميسورة ومراتبها المقدورة الباقية في دائرة التكاليف المنجّزة.
ومن خلال ما تقدّم في البحث يظهر لك بطلان الشبهة باندراج مشروع الدولة و المشاركة فيها تحت عنوان مساعدة الظالمين و التعاون على الإثم و العدوان وغير ذلك من العناوين التي لا تنطبق على المقام والناشئة من قلّة التّدبّر في النصوص الدّينيّة وعدم الاحاطة بالأدلّة الفقهيّة عند بعض من لا يرى شرعية إلاّ لأعماله وأقواله ولا يحسب العلم فيما غاب عن إدراكه بل قد عرفت أن أسباب قيام الدّولة ترتبط بمصالح الناس وبذلك يمكن على بعض الوجوه أن يعتبر العمل لها وفيها عبادة من العبادات وطاعة من أعظم الطاعات لما فيها من قضاء الحوائج ودفع المظالم والمفاسد وقد جاء في الحديث: (الخلق كلهم عيال الله و أحبهم إليه أنفعهم لعياله).
[1] ( تنبيه الملّة وتنزيه الأمّة ) – بتصّرف
(نقلاً عن “قضايا النهار”)
http://www.al-amine.org/bouhous/14_3_7_atta2seel_alfikhi_likayam_aldawlah.htm