أحد القراء الكرام بعث لي برسالة مستنجدا ومتسائلا عن الجهات التي يمكن اللجوء إليها في حال تعرض أحد الأبناء لقسوة الوالدين، وسرد قصة أقرب للخيال منها للواقع عن قريبة له، تتعرض لأبشع صنوف العذاب على يدي أمها التي أنجبتها فهي تحبسها في حجرة مغلقة وتمنعها من الخروج ورؤية الناس حتى في الأعياد وتقدم لها الخبز الجاف الذي تزدره مع قطرات من ماء الصنبور، بينما يقف الأب المسن مكتوف الأيدي غير قادر على مد يد العون لا بنته الشابة التي تسومها أمها سوء العذاب!! وذكر القارئ الكريم أنه اتصل برقم مجاني تابع لمركز الإرشاد الأسري، وقوبل بسلبية تامة فقد قيل له أن المركز مسؤول فقط عن تقديم النصائح لمن يرغب فيها دون تقديم أية اقتراحات أو إحالات لأية جهات أخرى!!
والحالة الآنفة الذكر نموذج لإحدى حالات العنف الأسري في مجتمعنا و التي يتعرض فيها أبناء على يد والديهم لصنوف من التعذيب والقسوة ثم لا يعلمون إلى من يلجأ ون وإلى أي جهة يتوجهون طلبا للمساعدة والعون! عنف قاس بشع لأنه صادر من أقرب المقربين وممن يفترض فيهم أن يكونوا حضن رحمة ومنبع حب ! حالات موجودة في مجتمعنا لا نستطيع إنكارها أو التبرؤ منها.. وقد عرضت جريدة الوطن في تقرير نشرته على حلقتين الكثير من الحالات التي تؤدي فيها قسوة الأهل وعدم تفهمهم لنفسية بناتهم- على وجه الخصوص _ لهربهن من بيوتهن وللتشرد بحثا عن مأوى يقيهن من قسوة الأهل وسوء المعاملة، وستكون الفتاة محظوظة إذا لم تقع في يد من يستغلها أسوأ الاستغلال وينتهك قدسية سني عمرها الغضة !! والقضية خطيرة تحتاج إلى البحث والدراسة المستفيضة حتى نسيطر على أسبابها ونقطعها من جذورها . وقد سرد التحقيق حالات بشعة صادمة للحس الإنساني تتعرض فيها البنات لعنف جسدي قاس كالأخ الذي حاول قطع لسان أخته !! ناهيك عن حالات العنف المعنوي التي تتعرض فيها فتيات بعمر الزهور لمعاملة سيئة تنطق بالتوجس والشك تدفعهن لإساءة التصرف والوقوع في براثن ما يوحي به توجس الأهل والشك والريبة التي يحيط بهن من كل جانب !!
أجد عقوق الوالدين لأبنائهم أكثر بشاعة وأفدح جرما من عقوق الأبناء لوالديهم! فما أبشع أن تلفظ الأرض ساكنيها وترمي بهم بعيدا عن ثراها الذي تكونوا داخله ونشأوا في حماه !! وما أقسى تحول خصوبة الأمومة والأبوة وثرائهما إلى تصحر وجفاف لا يعبأ بالبذور الصغيرة وهي تستجدي قطرة حب أو نفحة حنان! وما أبشع سياط العنف وهي تجلد البراعم الصغيرة لتحيل حياتها إلى جحيم لا يطاق وإلى كابوس ممض بلا نهاية ! وأي تشوه في الوجدان وخلل في النفوس من الممكن أن يتولد من قسوة الأرحام، ومن جدب مشاعر الآباء والأمهات؟! وهل يمكن لمن يجابه بكل هذه القسوة من منبع الحنان والحب أن يثق بالحياة أو يأمن جانبها؟! وهل يمكن أن يستوي إنسانا متوازنا قادرا على مجابهة مصاعب الحياة وأنوائها من يجابه بهذا العنف والقسوة من الوالدين نفسيهما؟!
أتوقف كثيرا أمام عقوق الوالدين لأبنائهم لأنه قبل كل شيء يخالف الفطرة البشرية التي جبلت على مشاعر وعواطف جياشة نحو الأبناء.. مشاعر تتدفق وتنهمر دون توقف للسؤال ودون انتظار لمقابل، ليست ثمار للإحساس بالواجب بقدر ما هي بل هي نتاج لحب صاف عار من الأنانية ومتجرد من الأثرة يدفع الوالدين للحدب على أبنائهم ورعايتهم وإحاطتهم بجناحي الحب والرفق والرحمة، وتتبع خطى مسيرتهم وتفاصيل حياتهم وتعهد شؤونهم الصغيرة منها والكبيرة!
وقد حاورني أحد القراء مرة يستنكر فيها عرض هذه الحالات الفاجعة لوعيه الإنساني على حد تعبيره، وقد اتهم الإعلام أنه يضخم من هذه الحالات الفردية طلبا للفرقعة والإثارة وحبا في الفضائحية! وأكد أن إظهار المخبوء وكشف المستور في حالات العنف الأسري أو التحرش الجنسي الصادر من قبل الأب أو أحد المحارم، أو مناقشة قضية المثلية والشذوذ الجنسي يسيء إلى سمعة مجتمعنا وينتهك قدسيته ويحول الحالات الفريدة إلى ظواهر ويساعد على انتشار هذه الحالات؟! فالمجتمع السعودي على حد زعمه مجتمع بريء لم تصله بعد المفاسد الموجودة في المجتمعات الأخرى وأن تسليط الضوء على مشكلة ما سيساهم في انتشارها واستشرائها ! ولكن الحقيقة تقول أن مجتمعنا مجتمع بشري تعتريه الأمراض الاجتماعية والمفاسد الأخلاقية التي تعتري المجتمعات البشرية الأخرى، و لم يكن يوما مجتمعنا بريئا من هذه المشكلات ولكن التعتيم والسرية الشديدة التي كان يخضع لها الخطاب الاجتماعي والأخلاقي ساهمت في إحكام لجام الصمت والسقوط في بؤرة الإنكار والتعامي والسكوت المطبق !! وأنا هنا أتساءل هل إنكار وجود المرض رغم بشاعته سيقودنا للشفاء والقضاء على مسبباته ودواعي ظهوره؟! وهل قضى الصمت والتعتيم الذي انتهجناه لفترة طويلة على تلك المشكلات أم أنه ساهم مع أسباب أخرى إلى زيادة انتشارها؟!
نحتاج إلى دراسات اجتماعية وافية لهذه الحالات حتى لا تتحول إلى ظواهر تؤثر على النسيج الاجتماعي في بلادنا، كما نحتاج إلى إحصائيات وأرقام ومعلومات موثقة تساعد الباحثين الاجتماعيين والكتاب عندما يتناولون هذه المشكلات بالدراسة والتحليل والتشريح كي يصلوا إلى حلول تساعد في القضاء عليها.
وقبل كل شيء نحتاج إلى تنصيص قانوني يحاسب ويساءل حتى الأمهات والآباء عندما يسيئون استخدام سلطة الأبوة والأمومة، ففي ثقافة يخفت فيها صوت الفرد لحساب الجماعة ويتم تجريد الأطفال والمراهقين والضعفاء من حقوقهم، وتحاط فيها السلطة الأبوية البطر كية بجدار مانع من القداسة وعدم القدرة على مجرد المساءلة لا بد أن يشعر بعض مرضى النفوس من الآباء والأمهات أن أطفالهم عبيد مملوكون لهم لا يحق لهم رفع صوت اعتراض أو النبس ببنت شفة إذا ما صدر أمر من السلطة العليا في المنزل!!
لا يكون الحل إلا في تمازج وتضافر بين آليتي الحماية والوقاية، الحماية بسن قوانين رادعة والوقاية بنشر التوعية الحقوقية وتعريف من أهم أدنى في هرم السلطة بالواجبات التي يتعين على من فوقهم القيام بها نحوهم. وفي تقديري أن تشجيع المبادرات المدنية وتأسيس جمعيات أهلية مستقلة تنتشر في كافة أنحاء المملكة، تناهض العنف الأسري وتنافح عن حقوق الضعفاء والأطفال والمراهقين سيحد من هذه الحالات وسيساهم في اجتراح حلول لها.
ضحايا العنف الأسري الذين تلفظهم الأرحام وتتنكر لهم مشاعر الأبوة والأمومة يستصرخوننا ويبحثون عن حماية قانونية من ظلم ذوي القربي.. فهل من مجيب؟!
Amal_zahid@hotmail.com
* المدينة