إذا كان المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا، فإن الأمر نفسه صحيح بالنسبة للمتطرف. لذلك فليس من الغريب أن يجمع التطرف في حد ذاته بين أطراف متعارضة الأفكار والمصالح فيصدرون بيانا تحريضيا، أو يقومون بمظاهرة تبتز الحكومة، أو يعملون بدأب على هدم أعمدتها الشرعية على رؤوس الناس وعلى رؤوسهم. والزعيم المتطرف يرقى إلى مكانه ويكتسب مكانته من قدرته الفائقة على نسج شبكة من الألفاظ المبرأة من أي تطرف ليخفي بها طاقة التطرف هائلة الحجم التي امتلأت بها جوانحه. هذا على مستوى الكلمات أما على مستوى الفعل، فهو بكل المقاييس ليس إلا عدوانا صريحا على حقوق الناس من حوله وحيواتهم. ولما كانت الدنيا لحسن الحظ لم تخلق بالأمس فقط بل من ملايين السنين الحافلة بالخبرات لذلك كان من السهل على الوعي الجمعي أن يرصد هذا النوع من السلوك وأن يشخصه في دقة بالغة في أمثلة شعبية تمثل قواعد في السلوك البشري غير قابلة للإنكار أو التشكيك. يقول المثل الشعبي ” أسمع كلامك أصدقك.. أشوف أمورك أستعجب” وذلك عندما تهيم الكلمات في ناحية ويتحقق الفعل في الناحية الأخرى. هذا هو التطرف الذي يبلغ أعلى درجاته عندما يطالبك المتطرف بالتخلي عن كل حصون العقل والقانون لكي يتمكن من القضاء عليك وهو ما لخصه المثل الشعبي في أقصر حوار في التاريخ” نام لما أدبحك.. فقال له، ده شيء يطير النوم” ليس رجل الدولة الدستورية فقط هو من يطلب الحوار من أجل الوصول إلى أرض مشتركة بينه وبين خصومه السياسيين، بل يطلبه المتطرف أيضا ولكن بهدف أن تنام لكي تسهل له مهمة القضاء عليك.
في خطابه الأخير قبل الإضراب بيوم واحد، كان السيد حسن نصر الله حريصا على استخدام مفردات السياسة فقط، هو قائد للمعارضة يطلب المشاركة في الحكم. لقد أصدر منذ شهور قرارا بأن يكون الشارع أمام قصر رئاسة الوزراء هو مقر إقامة أتباعه وأتباع غيره وذلك للضغط على الحكومة. ماذا في ذلك، أليست هذه هي الديمقراطية؟ أليس من حق المعارضة أن تضغط على الحكومة لكي تستجيب لمطالبها من أجل الوطن؟ وصمدت الحكومة للتجربة مستندة إلى شرعيتها الدستورية فكان لابد من التصعيد ( الديموقراطي) أي الإضراب عن العمل، أي إثم أو خطأ في ذلك، أليس الإضراب أداة شرعية من أدوات الديموقراطية؟ غير أنه كان إضرابا غريبا لا تعرفه الديموقراطيات المعاصرة ولا القديمة، إنه إضراب المضربين أصلا عن العمل. هكذا بدأت الكلمات التي صدقها الناس من قبل تتبدد، وأخذت الأمور التي تدعو إلى العجب في الاتضاح بالضبط كما قال المثل الشعبي من قبل. كان من الصعب أو من المستحيل إخفاء الهدف الذي عرته كاميرات التليفزيون ونقلته إلى سكان الأرض جميعا، و هو إسقاط الحكومة الشرعية وذلك بضخ أكبر كمية من العنف في الشارع. لم نشاهد على شاشات وكالات الأنباء شخصا يقف أمام باب ورشته المغلق ليقول: أنا مضرب عن العمل حتى ترضخ الحكومة لمطالبنا. ما شاهدناه بوضوح كان غير ذلك، رأينا المعارضة تأتي بعربات الزفت والزلط وتلقي بها في الشوارع لتغلقها وتوقف بها حركة الحياة في لبنان. شاهدنا المعارضة تمنع الناس من المرور، شاهدنا الإطارات المحترقة بل والسيارات المحترقة بغير تفخيخ هذه المرة، وفجأة ظهر في الشارع من استفزهم الأمر، ظهروا مسلحين بالهراوات فشاهدنا الناس يضربون بعضهم البعض في قسوة، ثم قرأنا خبرا عاجلا هو تعليق المعارضة للإضراب. يبدو لي أن المعارضة غير الملتزمة بالدستور أرادت إخافة رجال الدولة في لبنان غير أنهم احتفظوا بأعصابهم هادئة إلى أن جاءت تلك اللحظة التي تصدى فيها الشارع للشارع. وهو ما ينذر بصعود أحشاء المدينة في فلتان لم يكن واردا في حسابات المعارضة. أعتقد أنهم كانوا يتوقعون أن الاستفزاز المتواصل سيدفع الحكومة في النهاية للدفاع عن نفسها باستخدام قوة الشرطة وقوة الجيش فيسقط القتلى بالمئات ويسقط الجرحى بالآلاف، عند ذلك يمكن الحديث إلى العالم كله ــ في خطاب بليغ قوي ومؤثر ــ عن حكومة لبنان الفاشية التي تعاملت بوحشية مع المواطنين الأبرياء الذين خرجوا يمارسون الديموقراطية في الشارع. ولا بأس من إضافة عدة تهم أخرى تجد رواجا هذه الأيام وهي أن الحكومة اللبنانية تنفذ أجندة أمريكية إسرائيلية لتفتيت لبنان وتقسيمه. وبمناسبة التقسيم والتفتيت والتفكيك، تحويل المنطقة إلى كانتونات أو دويلات أو مناطق يسودها العنف هو ما يمثل سيناريو الرعب بالنسبة لإسرائيل وأمريكا والغرب عموما، هذا هو بالضبط ما يتحاشون جميعا الوصول إليه، من على الأرض يرحب بأن يعيش في جزيرة يحيط بها بحر من الانقسام و العنف والفوضى؟ المستقبل في المنطقة العربية للدولة ذات المؤسسات وكل الأحداث التي تمر بنا تزيدنا وعيا بحتمية وجود الدولة الدستورية لأنها السبيل الوحيد لحماية حقوق المواطن الفرد وذلك من خلال مؤسساتها. إلى الأبد ستظل هناك طرق عديدة للضغط على الحكومات ولكن بالتأكيد ليس من بينها إشاعة العنف في الشارع.